طائرنا الأخضر-محمد علي طه-فلسطين
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

طائرنا الأخضر

  محمود درويش    

  حمّلتُ قلمي اليوم ما لا طاقة له به ومزّقتُ أوراقًا عديدة وأنا أخوض التجربة محاولاً كتابة نصٍّ في حضرة غيابك يا محمود يليق بنثرك الرائع ويتماهى معه ولكن هيهات أن أدخل في الحالة الدرويشية، فكلما حاولت أن أصطاد الموجة من هذا البحر الواسع تسرّبتْ من بين أناملي وتركت قلمي أسيان، فنثرك توءم شعرك لا يبدعه إلا فنان مغامر عشقته حورية الابداع والفن ووهبته نفسها فدخل البيوت العربية من بغداد إلى تطوان، مثل أشعة الشمس بدون استئذان، وقد أكّد لي ذلك حفيدي الأصغر ابن الثالثة حينما اقتحم غرفتي قبل أسابيع وقرأ لي قصيدة "أحن إلى خبز أمي" ممهورة بلثغة حلوة ثم سألني: هل صحيح أنك تعرف محمود درويش؟ قلت: ومن أخبرك بذلك؟ فقال مربية الحضانة، ثم انهال عليّ بالأسئلة عن لون شعره ولون عينيه وعن طوله وعن ملابسه إلى أن سألني: هل كان يشاهد توم وجيري على شاشة التلفاز؟ فارتبكت ثم أجبته: أجل. وكيف لا أقول "أجل" وأنا أعرفك أيها الدرويش الشاعر العملاق والإنسان الكبير الذي في داخله طفل صغير جميل.
  عرفته قبل ستة وخمسين عامًا عندما جلسنا على مقعد دراسيّ واحد في غرفة دراسية، في جدرانها عبق الماضي، وفي سقفها خجل الصبايا القرويات. كانت معصرة زيت من قبل، والزيت شقيق العلم والمشكاة نور الله، مَثَلُ نوره كمشكاة فيها مصباحٌ، المصباح في زجاجة، كأنها كوكب دريّ، يوقد من شجرة مباركة. وكنّا أيضًا نسكن في تلك القرية في غرفتين متجاورتين ما زارهما نور الكهرباء ولو في الحلم. ويبدو أن ملاك الإلهام لا يهبط على الذين اختارهم إلا في الدجى فكنت شاهدًا على ميلاد خربشاته الخجلى التي نبتت بعد نزول الوسمي على أرض الجليل المعمدة بعرق الفلاحين الفلسطينيين ودمهم، الفلاحين الذين بقوا منغرسين فيه والذين ارغموا على التهجير. وتابعت مسيرته طيلة نصف قرن وهو يحفر بثقة وبعشق موقعه الخالد شاعرًا كبيرًا في التراث الشعري الفلسطيني والعربي والإنساني مخترقًا اللغات والقوميات داخلاً إلى دول عديدة بدون جواز سفر رسمي وبدون الانتظار على المعابر والمطارات والموانئ، متمرّدًا على القيود حتى على الوثاق الحريريّ الذي نسجه الفلسطينيون والعرب وأسموه "الرمز الوطني"، فلا وثاق يقيد شاعرًا ربط الأفق بالأفق والأرض بالسماء وحلم بإنسان عربي آخر في كل شطرة من قصائده وفي كل جملة وفي كل تفعيلة، إنسانٍ عربيٍ لم يبدعه الربيع العربي حتى اليوم.
  ما زلت أذكر قصيدته الأولى مثلما أذكر احمرار أذنيه ووجنتيه بعد لقائه الأوّل في التجربة الأولى مع الفتاة التي اقتحمت غرفته بدون ميعاد وبدون مقدمات تحمل زجاجة عطر وقلم حبر ومنديلاً تهديها إليه مع القبلة الأولى التي قال أنه قطفها عنقود أشواق في القصيدة التي كتبها في اليوم نفسه.
  سألني ذات مرة في مكتبه في خليل السكاكيني: كم طالبًا كنّا في الصف؟ أجبته: ثلاثة وعشرين طالبًا. قال مبتسمًا: هناك أكثر من ثلاثة آلاف شخص قالوا أنهم كانوا طلاب صفي.
  حسبت كلامه مبالغة عربية، فقد تعلمنا في الصغر أنّ أعذب الشعر أكذبه، ولكن حينما جلست في بيت العزاء مع العائلة والأصدقاء سمعت أشخاصًا ما عرفتهم في حياتي يقولون: كنًا ندرس في صف واحد. إنه ابن صفي. وهذا ليس غريبًا فمحمود الدرويش نجم أدبي ساطع، وكوكب وطني لامع يحاول أن يلمسه أو يدعي لمسه الكثيرون: صبايا وشبانًا وشيوخًا وعجائز.
  في لقاءاتي الكثيرة معه في حيفا ورام الله وعمان والقاهرة وبراغ وغيرهنّ من المدن الجميلة لا أذكر أنّه قال كلمة سوء عن شاعر أو أديب أو صديق فقد أبى لسانه أن يمارس رياضتنا القومية، النميمة، ولو من باب الهواية أو الدعابة.
  كان محمود درويش سفيرنا الأمين الناجح الذي عرّف العالم العربي بنا نحن الذين بقينا نحرس حرف الضاد في الجليل والمثلث  والنقب ونحمي الجمرة التي بقيت في المدن الساحلية. نحن مدينون لقصائده ولقصائد هذه الكوكبة من الشعراء، محمود ورفاقه، الذين رسموا صورتنا الجميلة ونشروها بعد أن كان قد طمسها وشوّهها الإعلام الإسرائيلي والإعلام العربي المتخلّف.
  عشق حيفا، عشق الكرمل وصنوبره، والبحر وموجه ورمله، والبيوت العتيقة في وادي النسناس ووادي الصليب، وشرفات البيوت في حي عباس المشرفة على الخليج من رأس الناقورة إلى أنف الغزال. بقي وفيًا لحب حيفا حتى رحيله فكان يبحث عنها في كل مدينة تقع على شاطئ بحر. كتب عنها الكثير شعرًا ونثرًا واختار كرملها لمشروعه الثقافي الإنساني الراقي.
  سمعت المناضل الصديق الأستاذ ياسر عبد ربه حينما كان وزيرًا للثقافة يقول في لقاء معه: انّ هنالك دولاً تملك نفطًا ودولاً تملك مناجم ذهب وأما نحن الفلسطينيين فلا نفط ولا ذهب ولا غاز ولا حديد ولا نحاس عندنا ولكن عندنا محمود درويش، وأسمح لنفسي أن أضيف على هذا التقييم الرائع  الأصيل: انّ آبار النفط سوف تنضب وأنّ الذهب سينفد من المناجم وتتحول الآبار والمناجم إلى بقايا آثار تافهة وأما شعر محمود درويش فسوف يبقى ما بقيت اللغة وما بقي البشر، وإنّ النفط يفسد الناس والذهب أيضًا يفسد البشر وأما الشعر فإنّه يحمل أرواح المعذبين والثوّار والشهداء والعشاق على جناحيه، على جناحيّ الطائر الأخضر ويحلق إلى سدرة المنتهى، يا طائرنا الأخضر الذي زيّن المحضر وزيّن الغياب، يا زين الشباب يا محمود.
  محمود درويش هو الشاعر بأل التعريف، هو المنارة الثالثة في مسيرة الشعر العربي بعد امرئ القيس والمتنبي، ولا أدري إذا كانت تلك الفتاة العربية، السودانية الأب والسورية الأم، التي تعمل في أحد أقسام مستشفى هيوستن والتي نقلت عينيها ونظراتها بين أوراق في يديها وبين الشاعر الواقف أمامها وسألته بتردد: هل أنت The  محمود درويش؟ كما روى صديقه ورفيقه في الرحلة الأخيرة الكاتب المناضل أكرم هنية، لا أدري إذا كانت هذه الفتاة قد قرأت أبا العلاء المعريّ الذي كان يسمي الشعراء بأسمائهم ما عدا المتنبي الذي يسميه "الشاعر" بأل التعريف أم جاء سؤالها عفويًا وصادقًا.
  أمسي في اليوم الثامن من هذا الشهر الثامن وفي ضحاه الحار زرت البروة مع صحفي فلسطيني مقدسي وصحفية يابانية تعد تقريرًا عنك يا محمود. سرنا غرباء في مسارب البروة بين حظائر أحيهود وبيوتها التي أقيمت على أطلال بيوت أهلك وجيرانك. نظر إلينا أطفال بلقيس من شبابيك البيوت بريبة. لم يقل لنا أحد: يا هلا. رحّبت بنا أشجار الصبّار التي تحمل ثمارًا لم يجنها أحد، وربما عرفنا التين والزيتون والبئر المهجورة. بحثت عن حصان جدّك حسين الدرويش الذي تركه وحيدًا فما وجدته ولكني سمعت صهيله يتراقص متماوجًا على السفوح والهضاب والوديان بين تل البروة الذي اصفرّ عشبه وبين طلعة الليات الخضراء.
  قلقًا حزينًا كنت أتابع قصائدك يا لاعب النرد وأنت تلاعب الموت وتراوغه ويراوغك. تستعدّ له واثقًا بأن الشعر سيقهره أحيانًا كما خبّرتنا الجدارية وضعيفًا أحيانًا أخرى أمامه كما همس لاعب النرد.
  تقول: مثلما سار المسيح على البحيرة سرت في رؤياي لكني نزلت عن الصليب لأنني أخشى العلوّ ولا أبشّر بالقيامة، وترجو الموت أن يكون صيادًا شريفًا لا يصيد الظبي قرب النبع، وتصرّ أن تحمل زوادتك من القمح النورسيّ البروانيّ. فيا موت انتظرني ريثما أنهي تدابير الجنازة في الربيع الهشّ حيث ولدت، حيث سأمنع الخطباء من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين وعن صمود التين والزيتون في وجه الزمان وجيشه. سأقول: صبّوني بحرف النون. حيث تعُبُّ روحي سورة الرحمن في القرآن. وامشوا صامتين معي على خطوات أجدادي ووقع الناي في أزلي. لا تضعوا على قبري البنفسج فهو زهر المحبطين يذكّر الموتى بموت الحب قبل أوانه وضعوا على التابوت سبع سنابل خضراء إن وُجدتْ، وبعض شقائق النعمان إن وُجدتْ.
  خيّا محمود!
  أرجوا أن أكون عند حسن ظنك ولا أخونك بتكرار ما قاله الخطباء. العاصفة جاءت في آب ولم يمهلك الغدّار حتى الربيع. لا سنابل خضراء ولا شقائق نعمان، ولم يدعك الموت تموت كما ترغب فقد قلت: أريد أن أموت محاطًا برائحة القهوة. أين رائحة القهوة، قهوتك التي تصرّ أن تعدّها، أين هي من رائحة العقاقير في المستشفى الأمريكي.
  لم تنس فبل انفجار القنبلة أن تقول لنا: لا تذكروا بعدنا إلا الحياة، فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة. على هذه الأرض سيدة الأرض، أم البدايات، أم النهايات، كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين، سيدتي، أستحق لأنك سيدتي أستحق الحياة.
  في ساعاتك الأخيرة بقيت منارة الأمل وكأني أسمعك تردد ما قلته في صديقك ادوار سعيد وما يليق بأن يقال فيك: نسر يودّع قمته عاليًا، عاليًا، فالإقامة فوق الأولمب، وفوق القمم قد تثير السأم. وداعًا.
  وداعًا أيها الباقي فينا وبيننا، في زهر اللوز والجلنار وشقائق النعمان، في اللازورد، في شوق الأسير إلى الحرية، في رائحة القهوة البلدية، في طعم الخبز القروي، في أحلام الثوار والمناضلين، في دفاتر التلاميذ الصغار، في خبايا الحب الأول واللقاء الأول والرسالة الأولى، في مناديل القرويات، في فجر فلسطين الطالع حتمًا حتمًا.
  وأخيرًا اسمح لي باسمك يا الغائب الحاضر وباسم مؤسسة محمود درويش في رام الله التي دعت إلى إحياء هذه الذكرى والتي أنجزت بناء الضريح والمتحف الحضاري وحديقة البروة الرائعة تكريمًا وتخليدًا لشاعرنا الكبير، ويحق لنا أن نعتز ونفخر بهذا الانجاز فلم يحظ شاعر عربي منذ المعلقات حتى الجدارية بمثل هذا، وباسم مؤسسة محمود درويش للإبداع في الجليل أن أشكر الحاضرين الذين تحدوا الحرّ القائظ في هذا اليوم وأتوا ليحيوا ذكراك الباقية إلى الأبد بين أبناء شعبك.



  *ألقى الكاتب هذه الكلمة في قاعة متحف محمود درويش في رام الله يوم 9 آب الجاري في الاحتفال المهيب الذي أقيم لذكرى رحيله.
  محمد علي طه-فلسطين (2012-08-14)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

طائرنا الأخضر-محمد علي طه-فلسطين

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia