أتنفّسُ نهرا ( نهر الخنزير )-عبداللطيف الحسيني
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

أتنفّسُ نهرا
( نهر الخنزير )

  عبداللطيف الحسيني    

 سُمّيَ بذلك لأنَّ أهالي المدينة قتلوا فيه(خنـزيراً) . كان ذات يومٍ يرتعُ على ضفتيه الغزلانُ قادمة من تركية . حتى أنَّ تلك الغزلان كانتْ تضلُّ طريقها ، فتندفع إلى المدينة . وإلى القرى المجاورة . حتى أن الذي أرفدني بهذه المعلومة تخيلتُ أنه يتخيل : أنَّ تلك الغزلان شوهدت في "سه ميتك نواف " .
ليس هذا النهرُ نهراً طبيعياً . إذ ليس في الأنهار – هذه القسوة التي لنهرنا ، وليس في الأنهار ما يناقضها – هذه المحبة . هذا النهرُ قتل " قُتلَ " فيه الكثير . كان – حين يفيض – جيرانُه الذين يسكنون بمحاذاة ضفتيه أشدَّ رعباً . خاصّة حين يصطخبُ ، ويركبُ جنونَه
كانوا يتركون منازلهم خوفَ أنْ تلتهم مياهُه بيوتَهم . أنا الذي رأيتُ مرّةً : حين جنََ هذا النهر : ذاك النهر  الذي ملأتْ مياهُه كلَ المنازل التي تسكن قربه .
وإنْ خفَّ ماؤه ، واستراح . فسوف يكونُ لرمله عيدٌ للأقوياء الذين يستخرجونه : مَنْ يستخرج الرمل أكثر ينظر إليه "كبطل
...صلب " حتى أن هذا البطل ....الصلب يصدّق نظرة الناس إليه :
فينظر هو نفسه إلى نفسه على أنه كذلك .
في الرمل المستخرج أعشابٌ غريبة . وأحجارٌ ليس في الأحجار التي عرفناها لونُها وملمسُها . في تلك الأحجار ألوانٌ لمْ نعرفْها ، ولن , في الرمل المستخرج قطعٌ حديدية غريبة "لم نكن نعرفها نحن الصبية المرحون بها "قد يكون بين تلك القطع ما هو متفجّرٌ. وقد تفجّرتْ بين يدي أحدهم قطعة تباهى بها أمامنا ، غير أنها قضتْ عليه .
لم يكن نهرُنا طبيعياً . بل فيه مسٌّ ...قلقٌ وعصبية . لا نعرف كيف ؟ ومتى ؟ ولماذا تستولي عليه حالاته : قد يجنُّ في أيَّ وقت لا تشاء ، ولا يجنُّ في أيِّ وقت تشاء . يصادقك حين تكرهه . ويكرهك حين تصادقه . لذلك  ثمة مَنْ يعاديه، ومن يناصره .
من عاداه ، واسترخصه : لم يحس بالنهر . ولم يحسَّ النهرُ به أيضاً . مرَّ بجانبه كمن مرَّ بجانب جدار ، أو حجر.
ومن ناصره ، واستكبره : أحسَّ بالنهر ، أحسَّ النهرُ به أيضاً .
فالنهر له مكانٌ أليفٌ " وربّما يوعد إحداهنّ بالقرب منه " يجلس بجانبه على العشب الملائكي . كانت خضرتُه تفوح منها الرطوبة والجمال كانت " الماء والخضرة والوجه الحسن " أسهل المقولات ، وأعذبها . كان بإمكان أيِّ كان أنْ يحتلَّ قلب فتاة ما . حتّى يُذهب بالقول مثلاً عليه .
ما كرّهني في النهر : وربّما لم أَرَ أنا ، ربّما رأى المشاهد المدوّنة أدناه غيري . وكم وددتُ أن أكون منهم : هو أنَّ النهر رفض الأجساد الأنثوية لتأخذ حريتها ، لتمارس تفجّرها ، وتعبيراتها المائية . لم أَرَ جسداً أنثوياً مائياً ، ملطخاً بلجينية ماء نهرنا . فالمشهد السابق – ولو كان مقروءاً – يفتح الجسم . وربّما يهيّجه .
ما كرّهني في النهر : رأيتُ المشاهدَ المدوّنة أدناه . وربّما لم يرها غيري . وكم وددتُ أنْ أكونَ منهم : هو أنَّ الفتيات والنسوة كنّ يغسلْنَ جبلاً من الملابس ، وفرش البيت . وكل ما وقع بأيديهن وما لم يقع ، ما هو بحاجة إلى الغسيل ، وما ليس ...،كن يغسلن على ضفتيه ، ويوحلن ذهبية الماء . والماء مثل رجل معمر وقور هادئ ، صامت . لا يحتجُّ ، ولا يثور . وهو يستمعُ كالأبكم إلى النميمة والبذاءة والثرثرة . وإنْ غادرْنه  استراحَ النهرُ منهنَّ . وإن أتى المساءُ ثار . لم يكلّفْ نفسه ليثور – احترم شيبته – علّمَ الضفادع لتصوّتَ بنقيق حادٍّ  يسمعه كلُّ البلد . وهذا أقسى العقوبات ينـزل بهنَّ في الصيف .ويرجئ جنونه في الشتاء : يدرِّب نفسه بنفسه طوال الصيف . ليخرج إليهنَّ في الشتاء جبلاً…. مائياً جارفاً ، يتحدّاهنّ بأنْ يقتربْنَ منه . وإن تحدّاه إحداهنَّ . فسوف لن ترى نفسها – وبلمح البصر – إلا وهي مرمية عند المسلخ : شاتماً إياها ، مرعداً ، مهدداً 0
لم يكن النهر نهراً كان ساحراً . لو أردتَ زيارته فسوف لن يكتفي بأن تراه في مكان معين ، في بقعة نهرية معينة . سوف يجرك ((ليتجه بك إلى الشمال )) لتتعرّف على أخاديده وتعرجاته ، وعيونه المتدفقة . سوف يأخذك إلى أنْ تستقبلك حدودٌ يصعب عليك تخطيها ، وربما التحديقُ إليها . وربما التوقف عندها . وربما
الوقوفُ البعيد عنها 0
"سوف تقف عند سكة قطار الشرق السريع" مكرهاً .
كان النهر .
لا
اسمُه
ليسَ
نهراً
ملاذنا حين نهرب من بعض الحصص المدرسية التي استسهلناها . فلم نكتبْ وظيفتها . حتى إننا كنا نسمعُ هديرَه . ونحن في باحة المدرسة القريبة منه ، الصاخبة . كان ضجيجُ النهر يفوقُ ضجيجنا وصخبنا. لو كنتُ أملك خيالاً لقلتُ : كنا نتحدّثُ مع بعضنا بالأيدي كالبكم . لأنَّ هديره يرعد ، ويصمّ ، ويعمي .
((فلتجفَّ أرواحنا ، ولا يجفَّ نهرُنا )) : هذا جوابنا لمن يقول متكهناً للمسألة . فقد صدق تكهنه .
ولو أني لم أعترفْ لحظةًً لا بالصدفة أو العشوائية أو الاحتمال أو التكهن . لكنني ها هنا سأعترفُ بكلها . أنْ يجفَّ النهر يعني أنْ تطغى علينا مسحة الكآبة والقلق ، وفوضى المشاعر أنْ يجفَّ يعني أنْ نواجه الحياة برأي قلقٍ ، وخوف غريب تجاه الأشياء و الناس و الهوامش 0
أنْ يجفَّ يعني أنْ نصبحَ قساةً وحمقى وانفعاليين و انهزاميين (( وقد أصبحنا كذلك بعد أنْ جفَّ النهر ، وضاعتْ أخاديده ، و طمرت تعرجاته وعيونه المتدفقة )) . بعد أن كان يتملكك جمالُ رائحته , وأنت تقترب ، تجلس بالقرب منه . آنذاك لن تنسى تعب الحياة و كفى , كان بإمكان النهر أن ينسيك الدنيا ، و تعبهما وهمومهما ، وظلمهما .
الآن فقط يستطيع النهر أن ينسيك ((حياة الدنيا )) لو قارنته و قايسته من الجنوب عند حدود المسلخ أو المقبرة . ومشيْتَ في النهر حتى تصل إلى النقطة التي تنتهي فيها حدودُ النهر في الشمال . فسوف تخرج من هذه الرحلة المتقززة بما يلي :
راجع عبد اللطيف الحسيني .
مَنْ أراد أنْ يعبثَ بالنهر ، فلن يرفضَه النهرُ ، لأنه لا يستطيع أنْ يرفضَ هذا الحقد كله ، وليس لديه الوقتُ الكافي لهذه الترّهات . بل يبتلع ما يُرمَى فيه : تُرمى فيه أوساخ وقاذورات ، وبدورها ، هذه الأوساخ والقاذورات تعطي للمدينة ، للمكان أقذر الروائح ، وأقواها نفوذاً ، أقدرها لجلب الأمراض ، وربما المميتة منها – خاصةً حين تُحرقُ فيها موادّ بلاستيكية – هذا العبث بالنهر ، وهو عبثٌ مقصود . وبفعل فاعل أيضاً . و إلا فلماذا لا يرمي هذا العابثُ الأوساخ أمام باب داره ؟ ولماذا يأمر زوجته أنْ تلملمَ ، وتزيح الأوساخ من أمام باب الدار .
فمَنْ عبث بالنهر’  فسهلٌ عليه أنْ يعبث بغيرها من القيم الجميلة لبلده . كان يجب على –أن يساهم –البلد ليكون مشعاً وطافحاً بشراً و جمالاً و بهاءً يدخل البهجة –لا النفور –إلى النفس و الروح . هؤلاء البعض –العابثون –لم يقدروا الماء لأنهم لم يعرفوا ولن – قيمة الماء حتى لا حقاً . يُشمُّ النهرُ كأنه جثة مقتول ، أو جيفة متفسخة . وربما يمرُّ هؤلاء بجانب النهر – وهم مسرورون بوضعية النهر هكذا : النهرُ الذي يرشُّ على المدينة , وأصرُّ أنْ أطلق عليها اسم ((المكان )) لأحسَّ الآخرين ، القرّاء بأنه مقدسٌ ، وأنه أليف ، وأنه طفولتنا ، و لأننا أخيراً نحتاج إليه – روائح تهرب منها هروباً حقيقياً ، و ركضاً أحياناً ، لتبتعد عنها ، لا عن الروائح وعن النهر . بل عن المدينة كلها ، خوفَ أنْ تلتصقَ هذه الروائحُ بثيابك و جلدك .
أنا الذي لا أستطيع أنْ أمر بجانب النهر إلا مُكْرَهاً ، وقسراً .
ولا أريد أن أسمع سيرته السابقة ، لأني سوف أقارنه بوضعه الحالي المخجل ، ولا أريد أن أسمع سيرته الحالية ، لأني سوف أقارنه بوضعه السابق الخلاق .
أريد من النهر أن يمحى من الوجود ، أريد أنْ يُسوّى بالأرض ، لأمشي على هذه الأرض – النهر سابقاً - ولتبنَ عليها عماراتٌ أسمنتية فظة و غليظة ، بعدما كانت تحتها الجنة الأرضية



  alanabda9@gmail.com
  عبداللطيف الحسيني (2009-02-03)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

أتنفّسُ نهرا  
( نهر الخنزير )-عبداللطيف الحسيني

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia