وفاء العمراني، قارورة الشعر العطرة-د.نجيب العوفي
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
عوالم سردية

وفاء العمراني، قارورة الشعر العطرة

  د.نجيب العوفي    

دعوني أرسل معكم  هذا الحديث عن الشاعرة وفاء العمراني، على السجية وبكل الحميمية والتلقائية، إذ من أحب السجايا والخصال  إلى وفاء ، خلوص النية والسجية وصدق التلقائية وحميمية الروح والوجدان.
ولا أجد صفة استعارية تصدق على وفاء العمراني كما تصدق على شعرها  مثل قارورة الشعر المغربي، بكل أناقة وعتاقة العطر الثاوي في القارورة.
ووفاء بالمناسبة ، لا ترضى بما دون الأشياء الرفيعة والمنيعة ، سواء في شؤون الحياة أم في شؤون الإبداع.
ولذلك كانت وماتزال مُغرمة دوما بفتنة القاصي، مشدودة دوما إلى أنين الأعالي، لا تقبل بأواسط الأمور ، ولا بأنصاف الحلول. لا تقبل المراوحة في "المابين".
     نقرأ لها في نص (فتنة الأقاصي) :
-    "ما يملكني لا أعرفه
ما أعرفه لا أملكه
أقل مما أبغي ماينبغي
وانتمائي قطعا،   
لما يليق باستقبالي" (ص.39)

وكأنها تستعيد هنا، وبنبرتها الأنثوية الخاصة، هاجس المتنبي العظيم:
-"يقولون لي ما أنت في كل بلدة
وما تبتغي؟ ! ما أبتغي جل أن يسمى"
ونقرأ لها في نص (صلات الغائم) :
-"جراري ملأى ودانية
إلا أني أميل لأنآها
وارفة أغصان القلب
لاصهوة تقدر على سفري
ما أبهاك وحشة يتآلف فيها ضداي" (ص.80)

إن في شخصية وفاء، الرقيقة الأنيقة، كما في شعرها الرقيق الأنيق ، شيئا من ذلك الجموح النيتشوي المثالي، وشيئا من جذبة الصوفيين والإشراقيين، وشيئا من ذلك العشق الديونيزوسي للحياة. لهذا كانت لحنا متميزا في معزوفة الشعر المغربي ، كما كانت وردة ريانة وعطرة في بستانه.
وثمة في شعرها دائما احتفاءات واحتفالات  ثلاثة، متآخية متصادية :
-احتفاء بالشعر.
-احتفاء بالحياة.
-احتفاء بالجسد.
نقرأ لها في نص (أشبهك أيتها الريح) من ديوان (هيأت لك) :
"زنبقة هذي الأرض
وعلي أن أغزل مزهرية الكلام
لا منفذ
كالعطر، مسافرا في تيه السؤال
أتشح بالطريق
أعتق المسير من السقطة
أقودني على هدي النشيد
الأمواج الاحتفالية تُعلن عودتها
يالغبطتي ، الأكثر روعة
يالهذا الصوت، بداخلي، المجهول
بجذل الفراشات
يالفجر الحرف في دمائي" (ص : 55 - 56)
أجل، يالفجر الحرف في دمائي.
إن الحرف هذا ، يسري منها مسرى الدم، ويخالط منها النبض ، ويشكل جماع كينونتها ووجودها وموج تناقضاتها العذب. في هذا الحرف الشعري  تمارين لعبة الحياة، فيه تحتفي بالحياة وتحتفي بالذات  والجسد، فيه تحتفي بالشعر. والشعر هنا تحديدا ، هو الذي يمنح للحياة معنى وروحا . وهو الذي يمنحها  مذاقا ومساغا. أو بعبارة الشاعر الفرنسي رينيه شار، هو الذي يكشف عالما ، يظل في حاجة إلى الكشف.
وما تنفك الشاعرة عبر نصوصها تعقد هذا القداس الشعري في محراب الشعر، وتلهج بذكره وتسبيحه.
وفي نص (أريج باذخ) ، نقرأ هذه الفقرة-الفلذة :
-"ازدهار مفاجئ
خيول الماء تتراكض في اللحظة البعيدة
والجسد يكتمل بحواراته
أمنحك صداقتي أيها الحبر" (ص : 46)
إن هذا الإزدهار الشعري المتجدد لدى وفاء العمراني، ناتج ببساطة عن هذه الصداقة الحميمية التي عقدتها مع الحبر. وكأن هذا الحبر هو دمها الثاني ، بل هو دمها الساخن مسكوبا على الورق.
والشعر الحق لا يعطيك بعضه، حتى تعطيه كلك.
لكن إلى جانب هذا الاحتفاء الجميل بالشعر والحياة والجسد، ثمة أيضا إحساس بالفقد والوجد، ثمة مرارة مترسبة في قاع الوجدان. ولا بد للإبداع والمبدع من بعض مرارة ، مادام هناك دوما فائض استثنائي من الحساسية والشفافية في الإبداع والمبدع، وما دام هناك مرارات تشوب صفو الحياة وتنغص بهجتها.
نقرأ من نص (المحارة الحاضنة):
-"مابال الجسد موحشا مني وشاغرا
كظهيرة الأحد؟ !
مرارات قديمة أطل عليها من
ذرى جروحي المستجدة
أرى النار كفنا للكلمات
الأشياء الصغيرة الماسية النادرة
أرى عزلتي الدافئة
مثل سر
أصنع من سرير الوقت صالات للانجلاء" (ص : 70-71)

وفي أحد نصوصها الحديثة (أعالي الروح)، المهدى لروح الراحل محمد القاسمي، نقرأ المقطع التالي :
-"كل الأنهار نازلة
عدا نهر القلب
لا يمل العلو
عبر السفين
والأصدقاء رحلوا
حتى عيونهم الطيبة نأت
وحول القلب التف مخمل الحنين
على مصراعيه أشرع يُتمه
فجلست أشرب حفنة معنى
أقاوم بها صقيع الرحيل".
لكن سواء في حال الاحتفاء بالحياة، أو في حال معاناة الحياة، تظل الشاعرة دوما ، قارورة شعر معطرة.
هناك تيمتان أخريان أنيقتان في شعر وفاء العمراني، إضافة إلى ماسلف، وهما :  أناقة اللغة الشعرية ، وأناقة الإنشاد الشعري.
إن الجملة الشعرية عندها كثيفة ، أنيقة ومصقولة بأناة ، تنتقي مفرداتها من المعجم التراثي تارة ، ومن المعجم الصوفي تارة ثانية ، ومن المعجم الحديث تارة ثالثة . وقد تذهب بها جذبة الشعر أحيانا إلى حد التصرف الخاص في الكلمة نحتا واشتقاقا وتصريفا.
ولعل الشاعرة آخذة في شعرها بمقولة النفري المعروفة "كلما اتسعت الرؤيا، ضاقت العبارة".
ومن ثمة تبدو العبارة عنها فعلا، مقتصدة وكثيفة وضيقة، من حيث تلتطم الدواخل بالمد والجزر.
وللشاعرة وفاء ، أناقة خاصة أيضا في الإنشاد الشعري. إن صوتها يُعد من الأصوات الشعرية القليلة التي تُجيد إلقاء الشعر وتُحسن التعامل مع الكلمة بمنتهى الحساسية والرهافة والشفافية ، كمن يتعامل مع أعز ما يملك ، فتخرج الكلمة من حنجرتها وشفتها ، بل  من كيانها وسويدائها، وكأنها خُلقت خلقا جديدا . وما يخرج من القلب يقع توا في القلب.
إن هذا الصوت الشعري الأنثوي ، الجميل بنبرته المتميزة وشحنته الحرارية وتموجه الأدائي يضاعف من شعرية القصيدة ويفجر فيها احتياطها  الخبيء وطاقتها الكامنة، ويتيح للمتلقي متعة جمالية خاصة، ، كما يتيح له تسقط أدق الحركات والسكنات ، وأخفى المشاعر والدلالات.
إن طريقة وفاء في إلقاء الشعر وإنشاده تعيد الشعر إلى بهجته الصوتية الأولى ، حيث تلتحم نبرات الصوت مع إيماءات الوجه وحركات الجسد ، لتجسيد القصيدة ، حية تسعى.
أيها الأصدقاء والصديقات
لا أريد أن أطيل عليكم. ففي حضر الشعر وفي اليوم العالمي للشعر، لا يجوز الإنصات سوى للشعر.
وحسبي أن أقول، هذه هي قارورة الشعر العطرة، وفاء العمراني، ما فتأت تنفحنا بضوع عطرها الشعري بين حين وآخر  في أزمنة عربية وعالمية وبيئة كدرة، أجدبت فيها المشاعر والأحاسيس، وخربت فيها القيم والذمم، واجتاح فيها الزكام ، الزؤام حتى الطيور.
وفي أزمنة معتلة ومختلة كهذه،تتضاعف حاجتنا إلى الشعر والشعراء.
فتحية للشاعرة وفاء ، قارورة شعر عطرة على الدوام. 



 
  د.نجيب العوفي (2012-10-19)
Partager

تعليقات:
محمد العافية الوزاني /المغرب- وزان 2012-11-13
أثمن عاليا ما قاله أستاذنا الكبير بذوقه الرفيع وبلاغة بيانه,وفصاحة عبارته,ورقة مشاعره ....في حق شاعرتنا المدللة....الرائعة دوما, في شعرها ,كما في روعة أناقتها.....الشاعرة..وفاء العمراني,,,وأكتفي بالقول.....هى ليست قارورة عطر فحسب....بل هى العطر ذاته....هى وردة حيثما مرت يفوح العبير....وتلاحقها الفراشات....
البريد الإلكتروني : affiamhamed@yahoo.fr

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

وفاء العمراني، قارورة الشعر العطرة-د.نجيب العوفي

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia