وداع في الخريف..!!-يونس البوتكمانتي-المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

وداع في الخريف..!!

  يونس البوتكمانتي    

- أتشربين كأسا من الزعتر؟
- ..............................
- أتشربين كأسا من الزعتر؟
- ماذا..؟ ماذا..؟
- كأسا من الزعتر..؟ من الزعتر..؟
- ماذا..؟ ماذا قلت..؟
رفع صوته معيدا السؤال.. كذلك فعلت:
- ماذا..؟ ماذا..؟
أطلت من باب غرفتها، وقالت:
- آه.. أجل..أجل.. اقترب وقت الصلاة..!!
ارتسمت على محيا الزوج الشيخ ابتسامة مشفقة عليها وعليه. لقد هزل سمعها منذ عقد من الزمن. لقد حمل المغربون من أبناءها وحفدتها ملكاتها معهم.
أعاد السؤال مستعينا بإشارة يدوية.. بالكاد استطاعت أن تجمع شتات الكلمات التي تتساقط من فيه كتساقط الندى. تسمعها وكأنها تنبعث من بئر عميقة سحيقة.
مدت يديها الهزيلتين إلى الكأس. ترتجفان كما ترتجف يدا المقدم على ذبح الأضحية لأول مرة. لا تبصره بوضوح.. خيال الكأس وحده يتبدى أمامها. تبصره كما يرى طيف الرجل القادم من بعيد.. حبيبتاها تأفلان رويدا رويدا.. صارتا تعيشان خريف عمرهما. كل شيء فيها صار يعيش الخريف. اليدان.. القدمان.. العينان...إلا القلب.. قلبها في ربيعه، وسيبقى في ربيعه حتى بعد موتها. وما يهم إن مات كل ما فيها. يكفيها قلبها الحي الذي به تسمع وتبصر وتعقل...
أعادت الكأس إلى مكانه، بعدما عبَّت منه، وهي تتحسس حافة المائدة.. نظرت حواليها.. تراءى لها شبح بدن آدمي.. بعيدا تراه.. تقدم نحوها.. قبل رأسها وكفها..اتجه نحو جده وهي تقول:
- إيييه.. سعيد..
جلس بتؤدة.. لا ينبس بكلمة.. تدرك لم جاء لزيارتهما.. وهذا ما يضجرها.. ما يعكر صفوها... انشغل بحديث شبه مطول مع جده، بينما غاصت هي في تفكير يشبه الهذيان:
- في الأمس البعيد، في ستينيات القرن الماضي، في آذار 1961 وقفت في عتبة الباب الخارجي، ألوح بيدي لزوجي المهاجر إلى ألميرية ومنها إلى فرانكفورت. وقفت بكل كبرياء وأنفة. وقفت ودموع الفرح تتقاطر تباعا من مقلتي كحبات الرمان. كم كانت الفرحة تسري في دواخلي. كم أحسست بالشرف والجاه والرفعة. وكم عشت بعدها على أمل عودة المحبوب الغائب... مضى زمن المجد، ولم يبق لي إلا أطلاله. أأبكي عليها..؟ لا .. لا..  لا حزن على ما فات، ولا فرح بما هو آت.
وبالأمس القريب، في أيلول 1984، وقفت ثانية بعتبة الباب الخارجي، وقفت بنشوة مغايرة، بنكهة مختلفة عن الأمس البعيد. وقفت لوداع ابناي. رحلا إلى هناك.. إلى مهوى أبناء الريف. إلى محج الذين يرون أنفسهم منبوذين، رحلا ليسلكا طريق والدهما، ليكتويا بلهيب الغربة، ويحترقا بنار الهجرة، ويسبحا في حوض الآلام، ويغوصا في مستنقع الآهات والأوهام، ويغترفا من جرعة الأمل التي لا تنفد...
قاطع سعيد شرودها:
- كيف حال الجدة المحبوبة؟ (سألها مستعينا بيديه)
أجابت بحروف مثقلة بالهموم والهواجس:
- بخير..
ساد الصمت لبرهة. سألت فجأة:
- تنوي الرحيل..؟
اقترب إلى أذنها اليمنى وقال كالمنادي:
- وهل من سبيل غيره..؟
هزت رأسها:
- بل سبل.. سبل كثيرة..
"نادى" ثانية وشفتاه شبه ملصقتين بأذنها:
- مسدودة يا أماه..
- ما أظنها كذلك..
أضافت:
- والبقاء هنا..؟
"نادى":
- هنا.. جهنم جائعة.
- وشرق البلاد..؟
- الشرق أسود قاتم.. واد غير ذي زرع.
- والغرب..؟
ابتسم "ونادى":
- الغرب نار..جحيم يصلاها من يقترب منها..
أمسك بيديها الهزيلتين.. قبل جبينها الناصع البياض، الكثير التجاعيد:
- الشمال -يا أمي- جنة غناء.. ربيع لا يفنيه صيف.. أجل.. قصي عصي.. سبيله محفوفة بالمخاطر.. مفروشة بالأشواك..لكن في آخرها ياسمين وفل وأقحوان ونرجس... طريق الشمال يا جدتي هي طريق الخلاص.
- والذين سلكوا طريقك هذه من قبلك ولم تُعرف لهم عودة..؟
- ما شأني بأمور كل الخلائق يا جدة...؟
- ومن حصدته مناجل الموت..؟
- الموت حق.. قد تتعدد الأسباب والموت واحد..
- حق..حق.. لكنكم تلقون بأنفسكم إلى الهاوية..
- لا نفعل يا جدة..
- بل تفعلون.. وتتلذذون أحيانا بفعلتكم..
هم أن ينصرف.. استسلمت لإرادته التي لا رجعة فيها..رافقته حتى عتبة الباب:
- هأنذا أودع الكتيبة الثالثة.. أهكذا سنظل؟ لماذا كتبت على جباهنا حروف: الهاء والجيم والراء؟ لماذا لا نحيا كما حق لنا أن نحيا؟ متى تسطع علينا شمس الحياة المنشودة؟ متى تلقي علينا بنورها؟ متى نتدفأ بأشعتها الصفراء؟
تتمتم والدموع تنهمر كسيول النهر الرقراق.
لوحت بيدها اليسرى معلنة الوداع بينا يمناها منشغلة بمسح دموعها.
دلفت إلى البيت متمايلة يسرة ويمنة كما تتمايل أشجار الصفصاف المحيطة ببستان بيتهم في يوم عاصف.. صلت الظهر.. تناولت وجبة من "الخبيز" الطري.. اتكأت على سريرها واستسلمت للنوم..



 
  يونس البوتكمانتي-المغرب (2013-01-31)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

وداع في الخريف..!!-يونس البوتكمانتي-المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia