"رقصة الأرض"-مصطفى بوتلين مجلة طنجة الأدبية ع47
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

"رقصة الأرض"

فراسته البدائية لم تحدس شتات الغيوم الآخذ في التجمع ربما أفسدتها الام أصابعه الممسكة بمقبضي الحقيبة الثاوية على كتفه .إحساسه مخدر بتشخيص ذهاني ، هل كان سيقع ما وقع لو أحسن التعبير عن نفسه ، تتزاحم الكلمات في حنجرته ،يتقيأ العي الذي خنق صدره طويلا ،وأخرس لسانه عن لوك صوته الحقيقي .أحيانا كان يصرخ بقوة ليسمع صوته ، يصرخ صرخات طويلة ،حدث له هذا يوما على المرفأ الصغير المهجور ،صرخ هكذا "آآآآه ه ه " ثلاث مرات لكنه لم يسمع صوته ،تألم لذلك كثيرا ،لقد اكتشف أنه لا زال ليس هو ، لماذا وكيف سرقوا صوته؟. يشطر نفسه ويتوزع بأعصاب متفحمة في حوار :
-أنت حقير إن كنت تعلم بالمؤامرة أو كنت مشاركا من بعيد .
- لم أفعل شيئا ...
- أنت ذئب اصيل ،وقليل المروءة .
-أنت تتوهم فقط ، هل تظن أنني أعلم بذلك وأخفيه عليك .
-تذكر أنني يوما سارغمك على النظر إلى وجهك الذي تخفيه على نفسك في المرآة ،وسيتكفل التاريخ إن انتهيت دون ذلك بهذه المهمة. .
يبدو أن شخصا آخر كان يسطر خطاه على رصيف الشارع الوحيد في مصطاف "فم الواد" ، يسافر بعينين مركزتين بين البنايات، يقرأ الكلمات مسترشدا بمصابيح الشارع . لم يفكر في الأحتماء من المطر المباغت ، يمسح براحته راسه المبلل ،تندلق قطرات إلى جسمه الدافئ ،يتضايق ثم تسرع خطاه . غمره مطرآخر جادت به عجلات سيارة "لاندروفيل " التي مرت جانبه بسرعة جنونية ،اختلط علي لسانه طعم الرمال بالملح" آه كم أنت مرة ايتها الرمال ..." همس لنفسه ،أخيرا قرأ بفرح المستكشف فندق "ميرامار "،دلف عبر بوابته الخشبية المطلية بالأخضر ، مقهى الفندق فارغ وخلف الكنتوار شاب ملفوف في لحاف قطني يتابع شريطا سنمائيا على قناة أجنبية، دله عبر السلم إلى غرفة الإستقبال .وضع العجوز السبحة جانبا على مكتبه وهو يرد التحية:
-حامدين مولانا وشاكرينو.
-هذه أوراق الهوية ،وهذا ثمن الغرفة.
تجرد من ملابسه المبللة ،ترك سرير الغرفة وركب بساط ريح كابوس ،رماه في مدينة النحاس ،مدينة الحزن المتأبد خارج الزمن ليرغم القدر الوضيع على الإنحلال السريع ،لو رآها افلاطون لأصيب بالخرس وهو ينظر إلى الوجود الإنساني مادة لا رمزا ،كل شئ متجمد بين رغبة قوية في الوجود وأخرى تأسرها في العدم ، عصا الشرطي تحللت وتشققت واخضرت وقبعته اعتراها صدأ كبير ، يرصد ذلك من تمثاله كروح خفية، كان يضرب ويقاوم ليخطو، لكن لعنة النحاس تحبسه ،يشعر باختناق شديد ، يصرخ " انقذوني .."يتردد الصدى حوله ، ينظر إلى الشارع الذي تصفر فيه الريح وتأكل التماثيل النحاسية ، سيدة أخيرا تحركت نحوه ،فرح لذلك، ظنها سمعت صرخته ،تمثال مملوء بالريح يتجه صوبه دون عينين ، دفعت تمثاله سقط اجتمعت حوله كل التماثيل وبدأوا يقهقون بقوة " ها ها ها ها ها "، استيقظ مذعورا من الكابوس .على رصيف الفندق يرشف قهوة الصباح آملا في التخلص من بقايا افكار سوداء تشاغب في رأسه كالديدان ، فتح ديوان "كلام" لجاك بريفير. يقرأ الكتب بطريقة غريبة ،يبدأ من الصفحة التي يفتح عليها مباشرة الكتاب دونما ترتيب أو اختيار .آلمته القصيدةكثيرا ،ظل يكرر "ايقنوا ايها الرجال العظام ، رحل الزمن الذي تهبون فيه ابناءكم للوطن ، "، قصيدة العاشق الذي مات في متجر الزهور بسبب ازمة قلبية حين دس يده في جيبه ليسدد ثمن باقة ورد للحبيبة ، ومشهد النقود المتدحرجة جنب الجثة الهامده جعله يغلق الكتاب و يشرد متأملا أمواج البحر وهي ترسم قربه آخر خطوطها على اليابس دونما انقطاع ،كأنها لازمة "ترى هل تذكرين يا باربارا؟.حافية القدمين تحضن أوراقا ، ترتدي شورط أبيض وقميص أسود على راسها قبعة زرقاء تتدلى خيوطها كدموع الشمع ، وعلى كتفها يتلألأ شعرها الأشقر تقصد بوابة الفندق وهي تتمايل على رمل الشاطئ بغنج غير مقصود .ابتسمت له بادلها باتسامة مثلها .دعته إلى وجبة للغذاء فيما بعد وعلم أنهما الزبونان الوحيدان للفندق .كانت مدمنة الشيرا ورسامة انطباعية جيدة ، تحمل بطاقات قديمة كلها صور للفارس الكاوباي سألته يوما :
-ما هو الإسلام
\"-كلام الله والرسول
-كيف؟
-مجموعة أوامر ونواهي تنالين بهما الجنة؟
سألها هو ايضا ماذا تعرفين عن المسيحية قالت :
-بالنسبة لي هي مجرد ذكرى طفولية، عندما كان عمري ثماني سنوات دخلت مع والداي إلى الكنيسة مرة واحدة ،والآن أجهل عنها كل شئ.
جلس على حافة السرير يقاوم غثيان الثمالة ، كان باب الغرفة مواربا استأذنت الدخول فأومأ لها بذلك ،لم يكن حضورها معه الآن في الغرفة إلا بسب الهدية الكتاب ، وللأسف الشديد كان يجهل هذا النوع الخاص من الحب ،إذ سرعان ما حول الغرفة إلى مسرح لهواجسة الغريبة ،طلب منها أن تخلع فستانها ،وتصنع من جسدها صليبا ثم تقف وسط الغرفة ، رمقته بنظرات الغضب كان مستعدة للدفاع الشرس ضد أي تعبير منه خارج حدود الصداقة والتسامح، اطمأنت حين وضع ظهره على ظهرها ،وذراعيه على ذراعيها ،وتاه عبر النافذة في ملكوت جنونه الخاص الذي تبدد في جموح الموج، ايقظته من غفوته الهذيانية قائلة :
-هذا ما تريد .
-همهم :
-نعم
غادرت الغرفة ،وتركت له دعوة لحضور الحفلة مصحوبة بهذه الجملة "لن تستطيع أن تكون المسيح أيها الطفل الذي تبكيه النساء."
وقف خلف النافذة ،ينظر إليها وهي تقاوم ملل انتظار حضوره ، الناس من حولها يتكلمون ويقهقهون ، وقع بصره على فأر في الأسفل ، كان متحفظا إزاء إثارة أي فوبياء ما ، يراوغ بـحياء سيقان كثيرة ، ويتجنب برعب شديد احذية عصرية ضخمة ،حين تحولت الحفلة إلى عبث بالأجساد ،ورقص جماعي لم تدرك أنها مارست أبشع تهديد لأمن واستقرار الفأر ، أخذ المسكين يركض في جميع الأتجاهات ، صرخت النساء ، تشاجر الرجال ، انقلبت الطاولات والكراسي ، ،تكسرت الكؤوس والصحون ،فر الجميع ، هدأ المكان خرج الفأر ،صعد إلى افخم مائدة تناول طعامه ورقص رقصة أول يهودي نزل أمريكا ، رقصة الأرض الشهيرة .



 
  مصطفى بوتلين مجلة طنجة الأدبية ع47 (2013-03-15)
Partager

تعليقات:
محمد صلحي /المغرب 2013-03-16
لغة قصصية تنم عن حس مرهف بأداة الحكي،ودربةبجماليةالسرد. كما أن مخاتلة تيمة القصة تلتحف اللغة في "رقصة" ممتعة.
البريد الإلكتروني : salhi_hza@hotmail.com

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia