ما يجوز و ما لا يجوز في الترجمة-مبارك الغروسي
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

ما يجوز و ما لا يجوز في الترجمة

  مبارك الغروسي    

اقتبست هذا العنوان عن كتاب العلامة عبد العزيز بن الصديق «ما يجوز و ما لا يجوز في الحياة الزوجية» لما أثاره من صدمات مبهجة بخصوص الاستمتاع الشرعي والتحرر به.. وأريد أن أبدو مفتيا في ميدان الترجمة من خلال هذا العمود.. فلقد بدر إلى ذهني هذا السؤال حول الحرام والحلال في الترجمة عندما طلب مني بعض الأصدقاء تقديم تقرير مفصل عن محتوى كتاب صدر سنة 2005 بفرنسا تحت عنوان
« traité d’athéolgie » أي ما يمكن ترجمته «مبادئ نفي اللاهوت» أو «كتاب علم الإلحاد»؛ و هو كتاب قد حقق رقم مبيعات مذهل خلال سنة، كما أنه سرعان ما ترجم إلى أكثر من ثمان لغات لصاحبه الفيلسوف المعاصر ميشيل أونفري. يدافع الكتاب عن طرح إلحادي صريح باعتباره لقاء مع الحقيقة ويحاول تشييد بناء فكري متين يهد صرح الديانات السماوية الثلاث... تلخيص الكتاب في هذا المقام يعسر ويستعسر.. لكنه كتاب يناقش بقوة على الساحة الفلسفية الفرنسية، خصوصا وأن كاتبه فيلسوف افتتح أخيرا جامعة شعبية مفتوحة للعموم -بعد استقالته من العمل بالجامعة لعدم موافقته على المناهج الرسمية-. المهم بالنسبة إلينا أنه كتاب يتطرق للإسلام من خلال نصوصه وتاريخه، وكان اكتشافي لذلك موضع سؤال عن إمكان ترجمته نظرا لتأثيره الكبير في صنع فكر الجمهور الفرنسي.. وكنت أبتغي من ذلك نقل ما يطرحه هذا المفكر حول الإسلام حتى يتمكن أهل الاختصاص من محاججته والرد عليه.

تواصلت مع مسؤول عن دار نشر عربية شهيرة بهذا الخصوص، فرحب بالفكرة في بداية الأمر لبلوغ شهرة الكتاب إلى علمه، لكنه سرعان ما اعتذر بعد قراءته لي من خلال رسالة قال فيها: "لا أستطيع أن أتحمل عواقب هذا الكتاب"، وذكرني هذا السؤال حول الحلال والحرام بمشهد تابعته عند باب مركز تعليم ديني بين فقيه سلفي يعتبر مرجعا لأتباعه بشمال المغرب وأحد طلبته -وهو ملتح بلباس «الأفغان»- الذي انحنى عليه وقد بدا أن هاجس الحلال والحرام يمتلك فكره وعقله سائلا عن حكم ألعاب التسلية كالشطرنج والورق وما شابه.. وبينما بدا بينهما ضمنا اتفاق على تحريم مثل تلك الألعاب، فاجئني الشيخ -وبدا لي أكثر تنورا تأصلا وارتباطا بفكر الأسلاف الحقيقي- حين كان رده من خلال قول مأثور مفاده: «أن معرفة الشيء خير من جهله ولو كان حراما»... والمهم في المسألة أن العلم قدم على الحلال بناء على تأصيل شرعي برزت لي معه الرؤية الحقيقية.. احترمت «الشيخ المتطرف» كثيرا لأنه قدم للطالب رسالة أحسست أنها صدمته، لكنها حررته من أمور كثيرة.... أسوق هذه الحكاية لأورد أن مسألة المعرفة بالفكر الآخر-حتى المخالف للعقيدة منه- لا حرج فيه، بل لا خوف منه لأن الحق يمحق الباطل بحكم ناموس الكون.. في إطار هذا التقديس للمعرفة وللعلم ترجم العرب الفكر الإغريقي –الوثني في خلفيته- ولم يزد ذلك الفكر الإسلامي المحاج للأطروحات الناقدة والناقضة له إلا قوة. فقد قادت تلك التراجم إلى ازدهار فكر ديني إيماني محاجج بقوة ولعل كتاب «تهافت الفلاسفة» للغزالي من ثمار ذلك السياق.. إن ترجمة الآخر جزء بناء الرد المؤسس عليه، إذ لا يمكن الرد على نقد الإسلام دون معرفة ما احتوته بناه النقدية الحجاجية.. ومن ناحية ثانية لا ينبغي لنا أن نبني إيمانا هشا وضعيفا يخاف من فكرة مضللة هنا وأخرى زائفة هناك؛ فهذا منطق من لم يقتنع بحق؛ أما من رسخت عقيدته فلن تشككه لا أقوال نيتشه ولا نظرية داروين، ولا إلحادية مشيل أونفراي.... فأمانة الترجمة وإيمان المترجم لا يمكنهما أن يتناقضا أبدا.. و إن تحصين الناس في عقائدهم لا يتأسس من خلال إخفاء الفكر الآخر، بل من خلال بناء إيماني حقيقي وصلب يستطيع مواجهة كل العواصف الفكرية.. فلا يعقل أن تهزم الحقيقة أمام الضلال... كما لا تستقيم دعوة الأقوام الأخرى إلى عقيدة الحق دون المعرفة بطرق فهم تلك الأقوام للكون وللعالم، والتي لن تأتينا إلا من خلال ترجمة مضامين عقائدهم وفكرهم ومبادئهم وحتى عاداتهم (مهما بلغت درجة فسادها)... فلا يعرف الحق إلا بنقيضه ولا يعرف الإيمان إلا بالكفر...



 
  مبارك الغروسي (2006-11-20)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

ما يجوز و ما لا يجوز في الترجمة-مبارك الغروسي

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia