شخصنة الرواية، جيل الظمأ نموذجا-د. عز الدين حليمي
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

شخصنة الرواية، جيل الظمأ نموذجا

  د. عز الدين حليمي    


 يشهد العالم العربي ربيعا سياسيا يتخلى فيه عن ضروب سادت لمرحلة طويلة، ويتحلى بضروب جديدة... فظمأ جيل اليوم يرتوي بحراك سياسي، إذ وُضعت ضروب شتى موضع تساؤل بغية تفجير المكبوت والمنسي؛ ف«الخطاب وإن كان غير لافت للنظر في الظاهر، فإن ضروب الخطر التي تضربه تكشف لنا في الحين آصرته بالرغبة والسلطة...» . 


ومن المعلوم أن واقع ما بعد الحربين كان سوداويا ومليئا بالرعب في العالمين الغربي والعربي، لذا جعل مذهب الشخصانية من الإنسان نوعا وجوديا شخصيا، وأن الذات تأكيد للحرية، فهو «مذهب أخلاقي واجتماعي مبني على أن للإنسان قيمة مطلقة» . ويتوق الإنسان العربي اليوم إلى قيمة الحرية في نزوع مستمر وصيرورة أبدية نحو إمكانات لا نهائية في الواقع العاري بين قضايا جوهرية وإبداع نابض بالحياة. إنها عملية متجددة تلتحم فيها القضايا الحيوية بالإبداع، ويمكن مقاربة هذا النزوع لدى رائد الشخصانية الإسلامية «محمد عزيز الحبابي» من خلال روايته «جيل الظمأ» التي تنفتح وتلتزم بقضايا الشخص العربي الذي يتوق نحو غد مشرق.


ضمن هذا المعطى، أولى محمد عزيز الحبابي أهمية للعنصر الشخصي في مؤلفاته الفكرية والأدبية، فهو من رواد الشخصانية إلى جانب «إيمانويل مونييه»، ورينيه الحبشي... حيث قلص المسافة بين الجزئيات والبناء العام: «ليس لي أن أختار، بل هناك واجب محتم مقدس يرغمني أن أرى الضياء، وأريد أن أهرول إلى الهدف دونما نكوص. من المخزي أن أبقى نكرة في دنيا لفكر اجتر أنظمة وتقاليد لا أحياها. والويل لي إذا بقيت قابعا في زاويتي، غريبا في مدينتي ووطني...» . فماذا تحمل رواية جيل الظمأ للجيل العربي الظمآن؟ 


1- شخصنة الرواية:


قبل البحث في ثنايا السؤال، من المناسبة الإشارة إلى أن أحداث الرواية تتناول قضية الثقافة والشخص في علاقتها بالمجتمع، إذ يفتقد بطل الرواية إدريس بشكل بارز حيوية باريس ولندن، في حين ترتمي الرباط في أحضان اللامبالاة وعدم إيلاء مسألة الثقافة أهمية كبرى في السنوات الأولى من استقلال المغرب، مما جعله يعيش الالتباس والتردد بين الثقافة الحق ودنيا المثقفين الزاخرة بالشعوذة والألاعيب: 


«المدينة بيضاء ناصعة، مثل حجرة الجراحة في مستشفى، مثل المغربيات وقد تسربلن ثياب الحداد، مثل الكفن. مدينة مغناجة لا شبيه لها إلا بلدة أغادير» (ص57).


 ولدينا أيضا مناسبتان تبرز فيهما أحداث الرواية، الأولى قائمة في ذلك الحديث الذي يجري بين المنجد الأب والابن (ص 46 / 47 / 48 / 49)، وهو حوار بين القديم والجديد. والمناسبة الثانية قائمة في الحوار بين إدريس وعظيم، وتطرح إشكالية الثقافة في بداية عهد الاستقلال (ص 110 / 111 / 112 / 113) .


في هذا الصدد، تتضمن إشكاليتا الثقافة وشبه الثقافة تقابلا بين الشمال والجنوب، والحركة والهدوء الثقيل، والحيوية والصمت... و يبدو مسار النص الروائي إيحائيا يستدعي فيه قول العبارة عبورا في القول، فما الثقافة؟ يكشف الجواب عن اختلاف دلالة المفهوم تاريخيا بين وجه ذاتي هو ثقافة العقل، ووجه موضوعي يتعلق بالعادات والفنون والآثار الفكرية والأدبية... ولأي ثقافة سمات نوعية: ثقافة عالية / ثقافة منحطة، ثقافة عالمية / ثقافة محلية، ثقافة مجردة / ثقافة محسوسة... وسمات كيفية: ثقافة الهداية/ ثقافة الضلال، ثقافة الأخلاق/ ثقافة الانحلال، ثقافة جمعية موحدة / ثقافة متفسخة: 


«فما أكثر عدد المثقفين بالعالم الذين انتهجوا سبل العجرفة والاستعلاء فظنوا، على خطأ، بأنهم القطب الذي يدور حوله عمران وحضارة الأمم... ومن ثم ظن بعض المثقفين المغاربة بأنهم كواكب متألقة في بلدهم» (ص111). 


نجدنا نلتقي عند هذا المستوى بتأكيد السارد على خاصية أولى هي مسألة المساواة في الثقافة، وهنا يضعنا في مواجهة طرح بالغ الأهمية، فالاختلاف ليس نوعيا بل هو اختلاف كيفي، إذ إن «الاختلاف بين الأشخاص ليس نوعيا كما نجد لدى أرسطو، هو اختلاف كيفي: هناك المؤمن وغير المؤمن ) المنافق، الاجتماعي )... ليس هناك إنسان تحتي أو إنسان فوقي، هناك الأنا المتساوية أمام الله وأمام المجتمع» . وتتمثل الخاصية الثانية في أن الثقافة تعمل على بناء الغد، إنها ثقافة غذية ومستقبلية: «إن المثقفين هم الأطر العليا التي تعمل جادة على التنمية الاقتصادية ونشر التعليم» (ص116). وبالمثل، يقول الأستاذ الحبابي: «الكائن لا يكون أبدا كائنا بشريا إلا إذا حبل بالشخص، نعني أن الكائن الذي ينحصر في الظهور دون انفعال بتأثيرات المجتمع، كائن خام لا إنساني» .


 إننا لا نماثل بين النص وأحداث العالم العربي اليوم، أو نلغي الفروق الجنسية بتطبيق منهجية موحدة، ولكن نبتغي التحقق من التركيب بين نصه الروائي وأحداث اليوم، لنبين أن ربيع جيل اليوم هو ربيع جيل سابق عانى الصمت، والكبت. ومن ثم، فالنص الروائي إستراتيجية لإثبات مقولات ثابتة عبر التقاطع مع مذهب الكاتب. ويمكن الحديث عن التقاطع في شقين: 


الأول: تلتقي الحقول وتكون النتائج أحسن، والثاني: يشكل التجزيء اختزالا وإهمالا للكل. فما هو نصيب الرواية من الحقيقة؟ 


تتشكل العلاقة بين الشقين في نموذجي التنوع والاستمرار، بمعنى أن الاختلاف أمر ثابت ويتحدد التواصل في عملية تنقيح مستمرة. إذ ينتظم السرد على الثقافة، ويأتي الدليل على العلاقة بين المحمول والموضوع متضمنا؛ لأن الثقافة تشكل جوهر السرد، وأمكن ترجمة الفروع المعرفية في لغة الخطاب الروائي: 


«إن رسالة العلم والثقافة هي أن نتجند مع الذين يجاهدون ويكافحون لتعم الرحمة» (ص 218 ).


 ويمكن أن نلاحظ الأثر السردي الذي يتركه السارد على القارئ من تعميق النقط والخطوط والمساحات، والتأكيد على تعدد الأبعاد التي ترتبط ببناء الوطن:


 «فالحياة تمحو تخطيطاتنا وتهزأ بالتصميمات. وكثيرا ما تتضخم أهدافنا وتطول حتى لتبدو أوسع مدى من أحلام الليالي الطويلة» (ص 168)... 


تأسيسا على ذلك، يتعين الخطاب الروائي بأنه مغامرة خطاب تئن بتحديات المغامرة، فلا أحد يستطيع أن يعرف الأشياء بمعزل عن الطريقة التي تظهر بها: تلك هي أطروحة الاختلاف الأولى. 


ومع ذلك، ينتصب الاختلاف سطحيا إذا لم يتعالق برؤية فكرية تجدد الوعي وتخاطب المتعة الجمالية، فلا ينبغي أن يشعر المتلقي بالتمايز والضياع، وإنما يشعر بالتميز في التركيب حتى تتوسع آفاق الاختيار وتتمدد آثار القرار. لذلك، فالإبداع الفكري والإبداع الحسي خيط رفيع يتقوى في إيلاء الأهمية للكتابة والقراءة، والمادة والمثال، والظاهر والباطن... وإلا اختنق إذا ما حوصرت مساحته؛ فالتلوينات تردع الرقابة الأحادية وتنتج معرفة لا حد لإغرائها.


 إذن، تبين لنا أن النظرة التجزيئية اختزال، وهذا له خطورة كبيرة على مستقبل الإبداع، لذا نقول إن النسق متكامل الأجزاء وليس هو كل أجزائه؛ ما يعني أن «الانفتاح على الآخر لا يفترض خروجا من الذات، بقدر ما يحدث الالتقاء بالآخر جوانيا. أي أنه التقاء ليس اختياريا، ولا يأتي تاليا على فعل إرادي، بقدر ما هو متضمن مقدما في الفعل المؤسس للفرد عينه» . 


استنادا لذلك، حملت الرواية مشروعا نهضويا، والمولود الجديد لا يعي ذاته في البداية، وبعد ذلك يبدأ الجدل بين شخصيات انتهازية (التباين في اللهجات واللغات الغيرية، الوعي المستلب...)، وتتعدد القراءات ويتجدد العمل الأدبي بتجدد قراءاته ومتلقيه. وهكذا، إما أن يستجيب أفق توقع المتلقي مع النص (التماهي)، أو يخيب أفق توقعه (التخييب)، أو يتغير، والمتلقي اليقظ يحاول الإجابة عن السؤال الضمني للنص بعد القراءة. 


إن تلقي العمل الأدبي هو تقدير للسؤال الأصلي الذي يتحول من سياق ثقافي لآخر، فهو سؤال منفتح ويكف تاريخ الأدب عن التأريخ للأدب والأدباء ويتحدد تأريخا للأسئلة والأجوبة؛ وهذا يعني «أن بنية الحركة التي تخضع لها هذه الحركة ذات خاصية معينة «يختارها» اللاعب، فهو، أولا، يفصل سلوك لعبه عن سلوكه الآخر كونه يريد أن يلعب. ولكن حتى ضمن استعداده هذا للعب فإنه يمارس الاختيار. فهو يختار هذه اللعبة دون تلك» . هذا الاختيار تمليه الظرفية التاريخية ويستمر الحوار في علاقة بين الكل والجزء (الدائرة الهيرمينوطيقية)، وتندمج الشواغل التي يحددها التاريخ في الفهم.


 نستخلص من ذلك أن التحقق من جواب الحضور أو الغياب في رواية «جيل الظمأ» يرتهن بالقارئ لأن معنى العمل لا تستنفده نوايا المؤلف، ويحيا النص بقيمة المعنى الذي يضيفه القارئ. فلماذا ينبغي أن يكون المجتمع البشري ثقافيا من منظور إدريس بطل الرواية؟ 


إن الثقافة - بالمعنى العريض للكلمة - تنتج الدينامية، وهذه الأخيرة ليست خاصية فرضتها علل خارجية، بل هي خاصية تنبثق من الداخل في اندفاع ذاتي، وهو تغير جوهري يمس داخل التركيبة العربية عامة، والمغربية خاصة. وكذلك تؤشر كلمة الثقافة على بعدين: بعد المراقب / بعد المشارك، وبعد الانطفاء أو الانحطاط / بعد الاشتعال أو النبض الحيوي... ويحدث الانطفاء في الأنظمة الشمولية التي توجه حركة التاريخ وتعقلن الأوهام. ويحدث النبض الحيوي عندما يتزوج عظيم (أسرة ذات نفوذ وسلطة) وعزيزة (لا جاه لها ولا مال)؛ أي أن هناك انتقال من زواج المصلحة إلى زواج الوفاء الذي يقضي بالتلازم بين الطرفين، وبين المدينتين، وبين الدولتين، وبين الأجيال، وبين الشعوب العربية... وعلى هذا الأساس يكون وقع النص في القارئ عبر جدلية السؤال / الجواب، الماضي / الحاضر... ويصير فهم النص ذا حدث تاريخي يتم في ضوء الموقف الراهن.


 ومن هنا كان الفهم انصهارا للآفاق وتقاطعا لقصدي المؤول والنص حسب «بول ريكور». وانصهار الآفاق لغة لأن علاقة الإنسان بالعالم علاقة ذات طابع لغوي، واللغة صفة البنية الحوارية للفهم، وكل فهم هو تفاهم الإنسان مع ذاته، والعالم، والتاريخ... حيث إن «الأثر الأدبي الذي أنتج في الماضي لا يمكنه، تبعا لذلك، أن يقدم لنا جوابا، وأن يقول لنا شيئا اليوم، إلا إذا قمنا قبل كل شيء بطرح السؤال الذي سيقلص المسافة الزمنية بيننا وبينه» .


ومن ثم، تكشف الذات العربية المتفرجة الحقيقة أمام الحقيقة، ويتعتم التسكين الناتج عن القلب. فالظاهر ليس قدرا لا فكاك منه، بل ينفك بالحفر العميق بواسطة المطرقة النيتشوية  من أجل تجاوز حتمية اليأس والقلق. ويتلاشى شعور الذنب في العلاقة الجوهرية بين الفرد العربي وتاريخه الذي يحفر في الأعماق، ويكشف وهم الثوابت اليومية من زاوية أن «الآخر في مرحلة قوة الدولة الإسلامية، يختلف عن الآخر في مرحلة ضعف هذه الدولة. في المرحلة السابقة كان الآخر موضوعا للحكي والإثارة والمتعة من جهة، وموضوعا، من جهة ثانية، للإصلاح والنقد من منطلق الإسلام الكوني. أما في مرحلة الضعف الإسلامي، فإن الآخر أصبح محط الدهشة والانبهار أحيانا، ومحط تسليم واعتراف أحيانا أخرى» . هذه الدهشة والانبهار والعود بالإخفاق سبيل للتجاوز والتجدد ذاتيا، وتاريخيا، وفكريا، وسياسيا، واجتماعيا... وتبتدئ الشخصانية حيث «يرفض الشخص الإذعان لأي كان ولأي شيء، ويعترف بالقيمة العليا للفكر والروح. كما أن الاعتراف بهذه القيمة لا يعود قط إلى القبول بأسطرة واستبداد عقل الغير، بل حتى السلطة العمياء الديكتاتورية لإيديولوجية ما» .


2- ظمأ الجيل العربي وجيل الظمأ:


تختزل الرواية جملة من المفاهيم التي تسند الحراك السياسي الحالي، ونذكر على سبيل المثال:      


 


2-1- الشخصنة:


ينتقل الإنسان من الكائن إلى الشخص عبر عملية التشخصن، وهي عملية اكتساب مستمر للصفات تجعله قادرا على التجاوز خلافا لباقي الموضوعات التي تتحدد كوجود عام. لذلك، فالشخص العربي اليوم لا يمكن فهمه من الخارج باعتباره صورة جامدة، وإنما يقتضي الفهم إلحاق الصورة بالوعي والمسؤولية، ف«الشخصية هي الحقيقة الوحيدة التي نعرفها من الخارج ونعيشها في نفس الوقت من الداخل... فنحن لا نلقي بها في مجال الأشياء غير القابلة للوصف فهي تجربة غنية منغرسة في العالم تعبر عن نفسها بواسطة إبداع لا يتوقف» . في هذا الصدد، يكتسب الشخص بالتدريج سماته العقلية والوجدانية، بيد أن هذا الاكتساب لا يعني أن يصبح الشخص كل ما يريد أن يكون، بل كل ما يستطيع أن يحققه. 


تبعا لذلك، يسكن البطل إدريس هاجس المثقف العربي الذي يبتغي تحقيق التوعية والتربية الفكرية، ومن ثم، فالرواية تصبح رمزا ينتقل بالقارئ من الظاهر إلى الباطن، ومن الخارج إلى الداخل. ويستعمل محمد عزيز الحبابي الصيرورة ليقول إنها لا تحل إلا في حالة الاتحاد السوي بين المعطى الخام (العمل الفني) والشخص (الهدف الأعلى للتشخصن الذي يتحقق في المجتمع) ويصبح المظهر الجمالي والصورة المتخيلة قريبين؛ أي أن الشكل الفني يساعد على إظهار الموضوع. فما هي صلة عالم الأشياء بعالم الصور؟


ننطلق أولا من مسلمة تفيد أنه «لا يجوز لنا أن نقول بأن الشخص ليس إلا شخصية أزيل عنها القناع، مادام الشخص صيرورة تند عن كل تحديد لما لها من غنى وإمكانات، إنها ترمي إلى تحقيق الإنسان مثلما يرمي جهاز ما إلى تحقيق توازنه» . وإذا نحن عرفنا العلاقة بين الفاعل وعمله الفني، فإن عالم الأشياء هو كائنات متطابقة كليا مع ذاتها ترجع إلى ما يشبهها. وفي علاقة مباشرة بين الكلمات والأشياء تنشأ الصورة التي بها يحاور المتلقي، وهنا يصبح القارئ مهيأ تماما للاتصال والتواصل. لذلك، فالعمل ليس معطى نهائيا والشخص العربي ليس معطى ناجزا، وتقوم آلية المماثلة على مبدأ «النظير يذكر بالنظير». ونقف متوسلين بهذه الآلية الاستدلالية حتى نختبر شرط الاستيعاب بين الشيء والصورة؛ إذ يقال إن الشيء حقيقة في الموجود ومجاز في المعدوم، وصورة الشيء ما به يحصل الشيء بالفعل، ويتداخل المظهر والجوهر، والعرض والضروري، فهل الرواية هي قوة الصورة أم قوة الشيء؟ 


ينهل الإبداع المتخيل من الديناميات العميقة: 


«فاز عظيم حتى الآن في ميادين عديدة: انتصر أولا على ذاته عندما داس على جثت التقاليد العمياء، والنظم البالية... وما هاب أن ينحدر إلى دنيا الفقراء والسذج والكادحين، ويجلجل السوط في وجوه المتسلطين المرتزقة» (ص 252). 


يتبين أنه ليس من العسير تبين الموافقة بين القولين: الفكري والطبيعي، حيث يصل الإبداع بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي {الذات، والتقاليد، والفقراء...}، ويفصل بين المعنيين {النظم البالية، ووجوه المتسلطين}، ويجمع بين القول بالتداخل والقول بالتجزيء، ويتحقق الاتصال بالوصل والفصل، الشيء الذي يجعل الذات حرة  قادرة على التجاوز من جهة، أو تتحدد كوجود خام من جهة ثانية. ويمكن النظر إلى العمل كشيء أو فهمه من الداخل؛ أي صورة نابضة تتطلب تكثيف المشاركة من القارئ.


هنا يتضح أن العمل الإبداعي لا يقبل الانحدار إلى مجموعة من الوظائف الحيوية والاجتماعية، بل هو تجربة فنية منغرسة في العالم، لذلك تكون الصورة موضوع الخبرة أقوى من الصورة موضوع الإدراك الذهني. وتتفاعل في التجربة الشيء والصورة تفاعلا ديناميا لتيسير الفهم وجعله عسيرا على الإدراك في الآن ذاته، فلا محالة أن تجيء لغة كتابته هداية وإغواء. إذ تبلغ الهداية بثبوت الأعم على الأخص، ويبلغ الإغواء بثبوت الأخص على الأعم: 


«يساهم المثقفون في بناء صرح التفاهم بين الشعوب والتواجد السلمي البناء. فواجب المثقف، إذن، خطير! إنه العامل الأساسي على تطوير عقلية ومفاهيم مواطنيه» (ص 126) . 


إذن، ركزت الرواية على الرأسمال البشري الذي ينفعل بتأثيرات المجتمع، ويحقق التغيير عبر تحول النظرة إلى العالم، ثم عبر تحول مضمون العالم. ومن ثم، فالأدب شأنه شأن الشخص العربي، يجد نفسه مدفوعا دائما من تحول لآخر في سلسلة لا تنتهي، ويصير سندا للمعاني المجتمعية. بهذا المعنى تشرق الرواية بالاشتراك مع الأحداث العربية الحالية في جملة من الجوانب: يقتسم الإنسان العربي العالم مع الآخرين، لا بمعنى أنه مندمج، بل يوجد بينهم ويتميز عنهم، فهناك كثيرون يندرجون ضمن القطيع/ الحشد، ويفضلون عدم الاكتراث واللامبالاة (سوء النية): 


«ما يؤسفني هو أنك لا تبذل أي جهد في سبيل تحطيم ما أحطت به ذاتك من ستائر الجهل» (ص 147). 


إن القلق مصحوب بشعور الغثيان، وهي مرحلة تنتبه فيها النفس العربية إلى العدم الذي يحيط بالوجود، ومن ثم، إلى حقيقة الوجود أو تهرب إلى ترف خيالي: 


«فمنذ عودتي إلى بلدي، استبدت بي حيرة جاهدة، حيال أفكار ومبادئ وفيرة. قد يمضي نهاري بكامله وأنا أتخبط بين لهوات عواصف جامحة رعناء تهزني من رأسي حتى قدمي» (ص 182). 


ويكشف القلق عن الحرية منبعا وحيدا للعظمة الإنسانية الذي نستطيع بواسطته قياس الواقع العربي: 


«أن أكسب رغيفي من عرق جبيني، في حياة حرة، لا تكبلني مصالح العائلة، وأصفاد التقاليد. ضمان حرية معتقدي وأفكاري هو احتقار كل محسوبية أو زور» (ص248). 


والحرية هي الاختيار الذي يدخل ضمن تركيبة الموجود البشري، ويحمل الأنا العربية على الاختيار لنفسها وللآخرين: 


«وداعا يا عهد الخوف والإذعان الأبله، سأشق طريقي في الحياة على دروب الحرية الطليقة، والفكرة المستقلة الوضاءة. سأحطم سلاسل العائلة، وسأجتث كل جذور الجهل والموت من هيكلها. سأحطم التقاليد الموروثة» (ص 249). 


ويتوقف الاختيار على المسؤولية التي تضع الإنسان أمام كينونته؛ أي أمام وجوده الإنساني الواقعي وأمام الآخرين: 


«أريد أن أوقف عزمي وجهودي على تقدم أمتي وتطوير بيئتي... أريد أن أنحني على جروح إخوتي البشر، فأضمدها وأبلسمها خالقا منها الرفاهية والازدهار» (ص250).


2-2- التجاوز:


يعلو الشخص على جميع المحددات، ويتجاوز ما هو كائن بالوعي بالحواجز، إنها حرية في شروط تنبع من سلسلة من الحتميات الطبيعية، والاجتماعية، والنفسية. إنها حرية بشروط: أن تكون حرا هو أن تقبل في البدء الظروف لتجد فيها سندا؛ فليس كل شيء ممكنا في كل لحظة، وتشكل هذه الحدود قوة عندما لا تكون ضيقة جدا. إن الحرية مثل الجسم، لا تتقدم إلا بالحواجز والاختيار . في هذا الصدد، فالحرية العربية ليست مطلقة، بل هي مرتبطة بعناصر الضرورة (حرية محصورة): 


«ما يؤسفني أنك تخطيت بأوهامك كل معطيات الثقافة، ودست كل رفيع جميل من الأخلاق الحميدة. إن ما يؤسفني هو أنك لا تبذل أي جهد في سبيل تحطيم ما أحطت به ذاتك من ستائر الجهل» (ص147). 


يرتبط وجود البطل بالعالم، فوعيه متصل به، ويصير التجاوز في اتجاه العالم ويتلحف به. تبعا لذلك، يقول الأستاذ محمد عزيز لحبابي: «إننا نتكيف مع العالم، وبتكيفنا نكيفه ونصنعه فيصنعنا، وفي ذات الآن، نصنع أنفسنا. تفاعل دائري وتقدم جدلي: فالفردية لا تعرف ذاتها إلا بواسطة العالم الذي يحيط بها» . ومن ثم، فالقول بالذات يقترن بالعالم، والقول بالحرية يلزم الحديث عن الضرورة العربية، ولا يعني ذلك الخضوع أو الاستسلام لها، إذ لا يمكن الحديث عن الحرية العربية دون استحضار الموانع: 


«أمتنا تمر بفترة من التطور والانتقال. فلا يحق لنا أن نتطلب منها موظفين يتصفون بالحكمة والكمال» (ص 106).


 ومعنى هذا أن علاقة الرواية بالحراك العربي الحالي هي علاقة العموم بالخصوص، إذ إن العلاقة هي إثباتية، ومتى استغنينا عن ذكر الأصل ارتد القياس الأصولي إلى الفرع. ومن أخص أوصاف الفرع أنه علم بالحكمة وعمل بها، وهي مطابقة بين صاحب الحكمة وصاحب الخيال، فيكون المراد من نسبة الخيال إلى صاحب الحكمة هو نقل هذا الوصف إلى المبدع الذي يمارس الظهور المجرد والظهور العملي بواسطة المقايسة، وتكون استعانته بالعناصر القياسية انتقالا من طور المجرد إلى طور المحسوس، فهل يكون ذلك بتنبؤ المقصود أم بإشارة تستدعي إعمال الفكر؟


إن كان الأول، فإن الأمر يستدعي التركيز على ذات الكاتب باعتباره ذاتا منتجة مبدعة، وإن كان الثاني، فسيكون المعيار هو النص؛ والاستدلال بإشارة النص إثبات للحكم بالتنبيه وليس بالدليل من أجل ألا يتحقق استغراق النص الأدبي في الأحداث العربية الحالية. فقد يجوز أن يكون محمد عزيز الحبابي قد توسل بالتصريح والتلميح، وهو دليل آخر على ما نذهب إليه من مساهمة الإبداع في الدليل، ولا نستهدف في هذا الدليل القول بالانضباط أو إنزال معايير اصطناعية على خطاب طبيعي، بل هو اشتراك في الخصائص يقوم على مبدإ الجمع، ف «لا معرفة بدون مقصد ولا مقصد بدون معرفة» .


هكذا، يعمل قطبا ثنائية المعرفة والمقصد في عين الاتجاه ما دام أن وعي المبادرة والإبداع قائم يستزيد من الواقع العربي الذي يتجرد من اسمه رمزيا ويمسي شاهد إثبات على حركية الإبداع العربي، وهي حركية ليست من صنع المفاهيم أيا كانت، بل هي محايثة لها دون أن تكون إحداها: «إذا كنا يقظين نصغي إلى الأصوات القريبة والبعيدة، ونرى المسافات الشاسعة تحتوينا كما يحتوي الجو ذرات الغبار... وجدنا أننا في الواقع ملتقى قوى هائلة دقيقة تفعل في وعينا، وأن وعينا تغزوه الآلام فتزيد من نشاطه ومدته» . إلا أن التجاوز لا يقف عند هذا الحد، بل يثير مسألة الانفتاح والتآكل، فطبقا لمبرهنة «كودل»٭ نجد أن كل نسق مغلق ذاهب إلى الانغلاق والموت، لذلك فهو يحتاج إلى نسق أكبر منه عندما يحصل الإشباع كي لا يموت. وبالتالي، نحتاج إلى أنساق كبرى حتى لا يتآكل النسق الروائي الصغير، فكل نسق يحتوي متغيرات أعلى، وبالتالي، لا يمكن إدراك الحركية بين الحرية / الضرورة، الإلزام / الالتزام، الخاص / العام... إلا داخل حركة انبنائية انطلاقا من القوة المركزية: الرواية وباقي حقول المعرفة، وتتعدد جهويات المعرفة مما يسمح بإمكان النظر في هذا المجال من زاويتين: 


     - التجربة الأدبية من الداخل .


     - التجربة الأدبية من الخارج .


بناء عليه، شهد العالم العربي أحداثا تبرز التقاء ظمأ جيل اليوم بجيل الظمأ في الأمس، فهل التاريخ العربي وحدة ثابتة ينحو الآن نحو الوثب في اتجاه...؟



 



لائحة المراجع:




  - ميشيل فوكو ، جينيالوجيا السلطة ، ترجمة أحمد السطاتي وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، البيضاء، ط1/1988 ص7
- جميل صليبا ، المعجم الفلسفي ، دار الكتاب اللبناني ، ط1 / 1971 ، ص 690
- محمد عزيز الحبابي ، جيل الظمأ ، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، بدون، ص 249 . سنعرض بعد ذلك للصفحات بين قوسين .
- M.A.Lahbabi « personnalisme Musulman » PUF / 1967 . 2éd. p 4/5
- محمد عزيز الحبابي ، من الشخصانية إلى الغذية، مجلة المناظرة السنة الأولى ، العدد الثاني ، دجنبر 1989 ، ص23
- مطاع صفدي ، نظرية القطيعة الكارثية ، مركز الإنماء القومي، الطبعة الأولى، 2005، ص41
- هانز جورج غادامير ، الحقيقة والمنهج ، ترجمة حسن ناظم/علي حاكم صالح . دار أويا للطباعة والنشر ، طرابلس ، ط1/ 2007، ص178/179
 Voir Paul Ricoeur . Du texte à l’action. Ed. Seuil. Paris 1986
- هانس روبرت ياوس ، نحو جمالية التلقي ، ترجمة محمد مساعدي ، منشورات الكلية المتعددة التخصصات تازة ، مطبعة الآفق، فاس، بدون ص79
- عبد الرحيم مؤدن ، الرحلة في الأدب المغربي ، إفريقيا الشرق 2006 ، البيضاء ، المغرب، ص158
- M.A.Lahbabi « personnalisme Musulman » op . cit . p7
- Emmanuel Mounier « le personnalisme » PUF. 1965. p.8
- محمد عزيز الحبابي ، من الكائن إلى الشخص ، دار المعارف، 1963، ص, 84
- Emmanuel Mounier « le personnalisme » op.Cit. p. 71
- محمد عزيز لحبابي ، من الشخصانية إلى الغذية, مرجع مذكور، ص25/26
- طه عبد الرحمان ، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي ، البيضاء . ط2 بدون ص247 .
- جبرا ابراهيم جبرا ، أقنعة الحقيقة وأقنعة الحياة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1992 ، ص ,14/15 .
٭ قدم كودل عدة مبرهنات منها أنه غير ممكن أن نبرهن على عدم تناقض نسق من داخل هذا النسق ، مما يقتضي اللجوء إلى نسق أكبر منه .
  د. عز الدين حليمي (2013-05-10)
Partager

تعليقات:
idriss zemouryy /maroc 2013-06-09
بكل صراحة رواية جد جميل خاصة النها تعالج دور المثقق في خدمة الوطن , لكن ما يوعب النقاد هو النهم لم يقدمو قراءة في هذه الروايةة
البريد الإلكتروني : idriss-svi@hotmail.com

العربي الرودالي /تمارة-المغرب 2013-05-30
قام الدكتور عزالدين حليمي، بكل اقتدار وتوسع، بعملية تأويل تفكيكية وتحليلية لرواية"جيل الظما" للدكتور عزيز الحبابي، انطلاقا من فكر هذا الأخير ونظرية الهيرمنوطيقا لهانز غادامير المستشرفة لعناصر الظرفيات في زمنها..وقد كان إبداع الباحث عز الدين حليمي بارزا في مواءمته، بين أدب السرد الروائي وهاجس الفلسفةالشخصانية، للوصول إلى استبيان الحركية التحررية من داخل الإنسان العربي، وتوقه لبناء وفرض "عنصره" في ذاته والعالم، وهو في غمار متناقضاته الظاهرية والباطنية...تحية لهذه الدراسة الوارفة
البريد الإلكتروني : mr.roudali@yahoo.fr

tassa abdellah /khouribga 2013-05-17
je crois que monsieur Halimi traite de la chose littéraire à partir de l'angle de vue d'un philosophe. la philosophie et la littérture sont deux soeurs jumelles comme en témoigne l'ecriture de M AZiz Lahbabi lui- même
البريد الإلكتروني : tassa_abdo@yahoo.fr

طارق التالي /المغرب 2013-05-12
هناك بنيات خفية تحكم المعرفة، فما يسري سياسيا يمتد إلى الأدب. وأعمال الماضي هي بمثابة استشراف للمستقبل
البريد الإلكتروني : tarikettali@gmail.com

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

شخصنة الرواية، جيل الظمأ نموذجا-د. عز الدين حليمي

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia