وجع الحياة-أحمد الوكيلي-المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

وجع الحياة

  أحمد الوكيلي    

كالعادة ، كان جالسا في  المقهى ،  يرتشف من قهوته  السوداء ، ويدخن سجائره الرديئة . فجأة داهمه ساعي البريد !!
-السلام عليكم،
-وعليكم السلام ، الله يسمعنا خبر الخير ..
-خيرا انشاء الله ، لديك رسالة ، من جمهورية الصمت !!..
سلمه الرسالة ، عبارة عن ظرف ابيض عليه طابع بريد  لتمثال الحرية , شكر ساعي البريد , ساعي البريد قال له انه دائما في الخدمة وانصرف في هدوء ..
وضع الرسالة في جيب معطفه الرمادي جهة اليمين , جمع اشياءه الموجودة على الطويلة , ووضع جريدته اليومية تحت ابطه , ترك خمسة دارهم على الطاولة . قال له النادل :
-صافي هل انت ذاهب ؟,
قال الاستاذ مع نفسه " كم هو فضولي هذا النادل" واردف بصوت مسموع :
- سوف اعود في المساء,
-انشاء الله , الى بقينا فالحياة .. وعيونه تدور في أركان المقهى , يراقب الصغيرة والكبيرة , انه النادل .. !!
عادة , الاستاذ يمكث في المقهى الى منتصف النهار لكنه اليوم غير عادته !! . لا ضير ، هذي هي طبيعة الحياة , فالناس معرضون لرياح التغير في أي لحظة وبدون سابق انذار . وصل الى باب العمارة التي يسكن فيها  ، وتسكن فيها  قبيلة من الناس افرادا وجماعات . يسكن هناك  اكثر من ثلاثة عقود .. رغم كابتها ومنظرها المقزز ورائحتها الكريهة , الا انه مرتبط اشد الارتباط بهذا الكهف الدنيوي . هكذا هو الانسان يرتبط بشيء ما بدون مبرر مقنع , ان الكبار كالصغار يحبون ويرطبتون هكذا وبدون تعبير. اننا تلك الصفحات اليومية التي نشترك في كتابتها ، كالمجلة الحائطية التي يشارك الجميع في كتابتها ..
عند باب العمارة يجلس رجل خريفي العمر على كرسي خشبي وبجانبه مذياعه القديم المتبث على الاذاعة الوطنية , انه العساس ابا المهدي , في الحقيقة , يتضامن معه سكان العمارة فهو لا يستطيع ان يراقب حتى نفسه .. هو الاخر يعرف قدره ويتعامل مع الجميع على قدر من الاحترام , كما انه يؤدي واجب وطني عظيم وهو توصيل اخبار العمارة الى المقدم . فهو يعرف الداخلة والخارجة ,   لكن الاستاذ يشكل  له لغز لم يستطيع ان يحله .. من هو ؟ وماذا يفعل ؟ وماذا يوجد داخل منزله ؟ .. الاستاذ كذلك لا يفتح له باب التواصل او التعارف , فهو يعرف هاته المخلوقات من ايام الجامعة ..!! .
وقف العساس هو يقول
-على السلامة اسي الاستاذ ,
-الله يسلمك , شكرا,
-الى احتجت لشي حاجة انا موجود
-وخا, شكرا..
صعد الى الطابق  الثاني حيث توجد شقته , فتح الباب , دخل , اخرج الرسالة من جيب معطفه ووضعها على الطاولة التي توجد في وسط المنزل, هذه الطاولة المتسخة والمعفونة اول شيء يصادفك عندما تدخل الى منزل الاستاذ .. علق معطفه المهتريء على باب الغرفة الخشبي المشقوق. دخل الى المرحاض , خرج من المرحاض , اخرج شيء من الثلاجة , واشعل سيجارة , جلس الى الطاولة , شرب شيء من الشيء الذي اخرجه من الثلاجة , احس بالدفئ يسري في جسده النحيل المسحوق المهلوك من ضربات الزمان والمخزن .. رفع الرسالة بيده اليمنى وهو يتصفحها مكتوب على ظهرها باللغة الانجليزية :
-من حميد الى استاذي العزيز ادريس !!
فتح الرسالة , نعم انها لحميد انه يعرف خط يده كما يعرف الاشياء التي تحيط به في هذا المنزل الجميل والقبيح في نفس الوقت .. مرة كتب الاستاذ يصف منزله فقال في حقه
-ان هذا المنزل هو الماضي الذي ينمو يوميا ويكبر معي بكل تناقضاته , انه يحمل ذكريات رائعة وأخري سوداء قاتمة .. انتهى كلامه.
الرسالة :
-أستاذي العزيز ادريس , ان هذا العالم شاسع وكبير جدا وأكثر مما نتصور انه متنوع شكلا ومضمونا , انه صعب , قاس ، ببساطة لا يرحم . ولأنه كذلك يجعل منا اناس نعيش في كثير من الاحيان بدون قلوب .. كم هو بشع ورديء !!. الاجتهاد , العمل , الدراسة !!النجاح والالتزام بالواجب ... ما فائدة كل هذا، اذا كنت مجرد متشرد ومرمي في اللامعني ، وشارد لا اهمية لك .. ما الذي يجعلنا نبني  حياتنا على اوهام و اشياء لا معنى لها ,  مثل الحب , الاحترام ,المال , الشهرة ,المكانة ... اليست هاته الكلمات تعيد نفسها ..  ما الفائدة من نسخ أنفسنا مرات  ومرات ., ما الغاية في الارتباط بهذا العالم البارد والرتيب , تقضي حياتك وأنت تبحث عن شيء ترتبط به , والنتيجة الته والدوران والمعاناة .. لا فرق بيننا وبين اطفال الشوارع . الفرق الوحيد هو اننا منافقون بما يكفي .. اغلبنا وقبل خروجه من منزله في الصباح يضع رابطة العنق ويلبس لباسه الرسمي , ويخرج ليمارس عملية النفاق الاجتماعي .. لكن عندما نجلس الى ماهيتنا والى ذواتنا .. نصطدم بالحقيقة الموجعة .. اننا متشردون , نفتقد لمعنى البيت والعائلة والحب والأشياء  الجميلة .
دائما استاذي العزيز اتسائل , هل سبق ان تكلمنا مع انفسنا وجلسنا الى ذواتنا ونمارس عملية لانصات الذاتي . طبعا , الجواب بالنفي , اننا انانيون واشرار بما فيه الكفاية حتى مع انفسنا  , نشبه  وبشكل  كبير الكتب العلمية المليئة بالحقائق , وليس فيها ذرة واحدة من المشاعر !!.
اننا ماكينات يجب ان تنتج وباستمرار , لهذا الاخر , المجتمع . في المقابل هذا المجتمع لا يرحم .. كل ما يقدمه لنا هو الشعور بالاحباط , واننا لا شيء وليس هناك ما يدعو الى العيش, اذا لم نمتثل لقوانينه الحديدية !! . المجتمع  يمارس  علينا العنف النفسي كل يوم وباستمرار ، كل ما نحصل عليه منه هو أيام كالضوء الخافت , والامل المنكسر , وشمس الشتاء . نستيقظ في الصباح ونتناول وجبة الفطور , ويجيئ الزوال ونتناول وجبة الغداء ويليه الليل فوجبة العشاء وننام ونستيقظ تم نعاود العملية كل يوم كل سنة وهكذا , ونقول يوم جديد !! يا لا العجب !!في الحقيقة، اين الجديد في كل هذا !!.., المشي والدوران والهرولة الى حفرة البداية.
استاذي العزيز , انا الان اعاني من ثقل الساعات والايام.. وثقل الاشياء التي اقوم بها يوميا , الاكل , الشرب , النوم , الصباح , المساء , اجلس في المكان الذي جلست فيه السنة الماضية .. سئمت من كل هاته السخافات اليومية . الكتابة هي كل ماتبقى لي , كل شيء مسلوب مني , اعاني الاختناق والضعف والوهن .. لقد  مر  علي وقت طويل وانا احاول التكيف مع هذه المغارة التي  تسمي الحياة .. انني مقيد المعصمين والرجلين ومرمي داخل هذا الكهف  .. فهل من خروج ؟؟!
استاذي , اكتب لك وانا مقيد ومن داخل المغارة , و اعرف ان كل ما يحيط بي هو وهم .لقد اثقلت عليك و اعرف انك تتاسف وتشفق لحالي ولحال الانسان الذي ألقي به ليواجه الاخرين وذاته  .. فكان بالامكان ان أقذف بهاته الرسالة الى  النفايات، كما فعلت مع العديد من الكتابات فاريحك واريح الاخرين من كل هذا العذاب الذي يعبر القارات..  ما يدفعني لأكتب لك , هو قوتك على الفهم وقهر الزمان وتكسير الفوارق بين المكان والمكان !!... باختصار انك " اجتماعي منفرد " كما يقول كيركجردر .. كلما اشتدت الازمة و بلغ وجع الحياة أوجه, تاتي صورتك الى مخيلتي عندما تخاطبنا بقولك " يا صغاري الاعزاء تعلموا القراة والكتابة , سوف تكبرون وتتغيرون كلحياتي هاته , - وانت تمرر يدك على لحيتك الكبيرة المشعة المرشوشة بالبياض - , عندها سوف تحتجون الى الكتابة , كما تحتجون الى اللعب الان " كنت رائعا !!  و كنا نضحك دائما خصوصا عندما كنت تمسك بلحيتك , كم كنا نتمنى  ان تكون لنا لحية مثل لحيتك .. كنت اذكي من الزمن تخاطب عقولنا الباطنية وترسم وتنقش الاشياء الجميلة على صخورنا الباطنية التي كسرها فأس الحياة . حقا كنت رائعا يا ايها الرائع والاكثر من رائع .. انتهت الرسالة .
كان تتغير قسمات وجهه وهو يقرا الرسالة , لقد عاد الى الماضي عندما كان يقرا كتاباتهم على المجلة الحائطية للمدرسة . لقد كان مدمنا على قراءة المجلة الحائطية للمدرسة و مجلة العندليب الورقية..
اخرج قلمه الاسود من جيب سرواله المهترئ , وأخرج  ورقة  بيضاء من رزمة الاوراق التي كانت على يمينه . وكتب الى تلميده !!
-عزيزي حميد, لا تتوقف عن الكتابة , فمن خلالها تستطيع ان تتصالح مع الوجود والموجودات , مع الذات والاخرين , مع الماضي والمستقبل , انها الباب المفتوح ودائما .. عندما تحس بالدم يختنق ويتجمد في عروقك , وتفقد القدرة على الحركة , اهرب الى الورقة البيضاء وخد قلما واضرب بقوة واكتب بعنف واصرخ الى ان يغمى عليك, لا تلتفت  , اكتب وبدون توقف , فالكتابة سلاحك ضد الوجود , زادك لمواجهة وجع الحياة وقسوة سكان الارض , ارم العالم بكلماتك . هذا العالم الذي يجهل ابنائه ويمارس القتل  البطيء المتجلى في  عدم الاكتراث وقلة الاهتمام. اكتب عن حماقات العالم , وسوف يصفونك بانك الاحمق والان العالم على ما يرام .. لا ضير فلهم قلوب لا يعقلون بها .فالكتابة هي الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها  انها المعنى في اللامعني والشيء في اللاشيء . انتهى الجواب
وقف الاستاذ ولبس معطفه ووضع الورقة التي كتبها في الجيب الايمن من معطفه , وتوجه الى مقر البريد , من اجل ان يراسل تلميذه في منفاه الاختياري و القاطن في جمهورية الصمت , وراء بحر الظلمات.
-عفاك هذا الرسالة الى امريكا,
-وخا , خمسة واربعين درهما ,
-بزاف , خذ .
شكر الاستاذ الموظف , شكر الموظف الاستاذ , وانصرف . احس برغبة في المشي في الشارع العام , اثناء ممارسة عملية المشي , لمح , تلميذه يوسف يخيط الشوارع , ياسين ناذل  في مقهى شعبي صغير  ,  هاجر تجر قافلة من الاولاد الصغارواحد فوق ظهرها والباقي ورائها، لقد تزوجت وانجبت وهي الان مطلقة.. , المعطي اصبح مقدم الحومة ..قال الاستاذ في نفسه مند صباه وهو يحب التبركيك، فالتلاميذ كان يلقبونه بالصحفي .. هنا وهناك جماعة من المعطلين , كلهم كانو تلاميذته ..
احس بالضيق في الشارع العام , وهرول الى منزله , فعلى الاقل هناك لا عين شافت ولا قلب يتوجع ..



 
  أحمد الوكيلي-المغرب (2014-02-06)
Partager

تعليقات:
عبد الواحد ابروح /تطوان 2014-02-14
النص السردي الطويل هذا يحمل هموم الكاتب وعشق الحكي لكنه لا يستقر على خط سردي ظاهر لانه يتلمس ابعاد وشظايا السرد الفلسفية والشعريةوالمسرحية ويحاول النص بلغة ذات منحنيات مقاربة و رصد صور وجع اليومي في حياة كاتب شاعر استاذمهاجر يحلم بوطن اجمل حر بعيد عن عيون المخزن ربما النص مقطع من رواية لم تنته الا بماساة لا يعرف عمقها سوى الادباء
البريد الإلكتروني : a aborouh@gmail.com

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

وجع الحياة-أحمد الوكيلي-المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia