اللمسة-عبد الرحيم الطورشي (المغرب)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

اللمسة

  عبد الرحيم الطورشي    

في ليلة رأس السنة، يحتفل كثير من الناس بهده المناسبة. بعضهم من أصحاب الإمكانيات المالية الكبيرة يتوجهون إلى الخارج. متوسطوا الحال يذهبون إلى المقاهي و المسارح لحضور الحفلات أما أغلبهم فيقبع بمنزله يتفرج في سهرات التلفزيون. و كان أمين من الطينة الأخيرة لأنه لا يملك ما يمكنه من الإنفاق الكثير فهو شاب أعزب فقير يعمل موظفا بإحدى الإدارات العمومية. درجته الثالثة لم تمكنه إلا من اكتراء شقة صغيرة بها غرفة و مطبخ. كان من عادته في الليلة الأخيرة من السنة الميلادية أن يغلق عليه باب منزله و يفكر في حياته كأنه شخص مهم له حياته الخاصة و العامة فيشعر بالارتياح لهذا الفعل التمويهي و تتخايل له أشباح مستقبل زاهر لا يلمسه و لكن يشعر به قريبا منه كالهواء الذي يتنفس و إن كان يدرك في أعماقه أن دار لقمان ستبقى على حالها و ليس هناك أي جديد سيدخل البهجة على نفسه و يجعله معتزا بحياته. يأخذ ورقة و قلما و يسطر أجوبة على تساؤلاته. ما هي الأحداث التي وقعت له و ما هي التوقعات بالنسبة للمستقبل ؟ يحدد أهدافه الجديدة و طرق تنفيذها كما يفعل المقاولون الكبار و لكن نقطة ضعفه أنه لا يمر إلى التطبيق فهو لا ينفذ و لو ربع هذا البرنامج لأن الملل و اليأس يحل بنفسه بعد فترة فيترك كل شيء و يعود إلى حياته البئيسة يحياها بحياد تام و بدون أي تدخل إرادي منه و رغم هذا الفشل الدريع فهو يكرر نفس العملية عند نهاية كل سنة ممنيا النفس بتغير ممكن سيطرأ على حياته، في هذه الليلة كتب أمين في مذكرته الكلمات التالية: << يمكنني تقسيم حياتي إلى فترتين مختلفتين : ما قبل اللمسة و ما بعدها >>.
و لم يضف شيئا لأنه يخاف أن يطلع أحد أقربائه أو أصدقائه على سره، يضع القلم و يكتفي بالتفكير و تذكر ماضيه القريب.
تذكر صديقته الوحيدة كوثر. كانت الدمامة تغلب على وجهها و لكن لطافتها و شجاعتها حببتها إليه. كانت دائمة الابتسام مولوعة بفن الملحون تشنف أسماعه بمقطوعات جميلة كلما شعرت أن الملل تسرب إلى نفسه. تنتمي إلى عائلة فقيرة و تعمل مساعدة صيدلي بوسط المدينة. تطمح إلى الزواج و لكن دمامتها لم تسعفها في إيجاد عريس مناسب؛ لكنها تمكنت من التعرف على أمين بواسطة قريبة له جارة لها. كانتا تخرجان أحيانا في جولات في الأسواق و الشوارع. التقتا به مرة فقدمته القريبة لكوثر و كانت صورته لها موضع ما في ذاكرتها فقد سبق أن التقته مرارا بالحافلة العمومية التي تقلها إلى مقر عملها أما هو فلم يسبق له أن لاحظها فشرعت تسلم عليه كلما التقته و تطيل حبل الحديث معه إلى أن تشجع مرة فاقترح عليها موعدا بمقهى صغيرة توجد بإحدى الأزقة المتفرعة عن شارع محمد الخامس فقبلت و منذ ذلك التاريخ توالت اللقاءات و استأنس بها أكثر دون أن تبلغ مرتبة الحب. كانت تملئ عليه وحدته و تشعره بشيء من طراوة الحياة و حركيتها دون أن يتعدى ذلك إلى اللمس أو القبلات رغم حاجته الملحة و ذلك لسببين: كان خجولا لدرجة كبيرة و كان يعتبر تلك المعاملات لا تليق بفتاة محترمة تصبو إلى حياة شريفة نزيهة. أما شهواته البهيمية فكان يخفف عنها في دار للمتعة توجد بحي هامشي يذهب إليها مرة في الشهر. و كان حين يتفرج على التلفزة أو يقرأ الجريدة ينتابه شعور بأنه يعيش على الهامش.
يغبط تلك الشخصيات التي يعرفها جل الناس و تتحرك في دائرة ضيقة تحكم و تملك  الكثير من المال. و كان عزاؤه الوحيد هو حضور العروض السينمائية و المسرحية و قراءة المجلات و الكتب فيشعر بنوع من الاطمئنان و على أنه يشارك المجتمع في مسيرته تلك التي تتكلم التلفزة عنها يوميا. سبق له أن سمع في أحاديث عابرة بأنه لكي تكون للفرد مكانة تحت الشمس يجب أن يندمج إما في عالم الاقتصاد أو عالم السياسة أو هما معا. عالم الاقتصاد بعيد عنه بعد الشمس عن الأرض فهو موظف من الدرجة الثالثة يتقاضى أجرة هزيلة لا تكفيه و ينهي آخر الشهر بالاقتراض من معارفه الأكثر حظا فكيف يمكنه أن يدخر و يستثمر. أما عالم السياسة فقد حاول ولوجه. حضر اجتماعات لأحد الأحزاب اليسارية و كان يسمع خطباء يتحدثون عن حرب ضد الاستغلاليين و الرأسماليين و الانتهازيين و عن الشغب المستغل الذي يمتص دمه، استغرب أمين لهذا الكلام فهو لا يشعر بأن هناك أشخاص يريدون استغلاله أو اضطهاده. و لما سمع دعوات للحاضرين من أجل الصمود و مقاومة القمع الحاصل و الآتي ، انتابه الخوف و قطع كل صلة له بأولئك الناس. فكانت تلك التجربة اليتيمة هي المحاولة الأولى و الأخيرة للانضمام لحزب. أما فيما يتعلق بالجمعيات، فقد اقترح عليه أحد أصدقائه القدامى حضور الجمع التأسيسي لجمعية تهتم بمحاربة الأمية و التأهيل الاجتماعي و جاء إلى دار الشباب و هو يمني النفس بالأمانة أو الكتابة و لكنه انتخب مستشارا. حضر عدة اجتماعات استمع فيها لعدة آراء و أدلى هو كذلك بوجهة نظره و لكنه لاحظ أن الرئيس هو الذي يتحكم في الأمور و يفرض آراءه كما لاحظ بأن عدد الحاضرين في الاجتماعات يتناقص مع توالي الأيام و لم يقع أي تغيير حاسم في مسيرة الجمعية فأصيب بالملل و السأم و تغيب عن عدة اجتماعات إلى أن انتابه شعور بالاغتراب وسط أعضاء الجمعية فانقطع عن الاتصال بهم و كان ذلك الانسحاب غير مخطط له بل جاء صدفة. أما الذي أثر فيه و ما زال فليس تلك الإنضمامات ثم الانسحابات بل حادثة وقعت لغيره و شهدها هو، ما زالت ذكرى تلك الحادثة قوية و ناصعة في ذهنه، حين تصعد إلى صفحة وعيه، يحتقن وجهه توترا و غضبا و كأنه هو الضحية. كان عباس عاملا بفران الدرب يحبه الجميع لبشاشته و استعداده لتقديم المساعدة و كان صوته القوي يسمع في أرجاء الفران مختلطا بروائح الخبز اللذيذة. يسكن في منزل مهترئ متداعي يقع في خلاء قرب الدرب. فرح أطفال الدرب لما علموا أن هذا اليتيم المعدم قد تزوج، في أحد الصباحات كان أمين واقفا مع جماعة من الأطفال المراهقين مثله يتمازحون و بين الفنية و الأخرى يسترقون النظر إلى امرأة نحيلة بلباس بسيط تتبادل الحديث مع رجل ضخم الجثة كرشه أمامه و معتليا دراجة نارية من النوع الكبير. كان يهش في وجهها و قد أخذ يدها اليمنى بين راحتي يديه يتلمسها. كان هذا الثنائي ينضح بالرغبة. حتما هما عاشقان لبعضهما البعض. و فجأة يظهر عباس من الجهة الأخرى للزقاق يهرول نحوهما و يصيح محتجا. هرب الرجل الغليظ على متن دراجته النارية. أما عباس فلم يحاول القبض عليه فقد كان قصيرا ذو قد نحيل كما أن صحته متضعضعة بسبب العمل الشاق الطويل بجوار النار الحامية للفران. توجه نحو المرأة و صفعها فلم تحتج، خفضت بصرها و ابتعدت بتثاقل. لحظات بعد ذلك اختفى عباس. فهم الأطفال حقيقة ما حدث في الزقاق و تضامنوا مع عباس في مأساته و كان أكبر المتألمين هو أمين. لم ينس أبدا نظرات ذلك الرجل ذي الكرش الكبير و ابتسامته الخبيثة. كرهه كراهية عمياء و في نفس الوقت أثار فيه قلقا غامضا. تخيل نفسه و هو يقطع أطراف ذلك الرجل بسيف حاد. حملت إليه تلك الصورة بعض المتعة. و في أحيان أخرى كان يتراءى له ذلك الرجل مثل غول مصاص للدماء. سيفترس كل نساء العائلة. لن تفلت أية واحدة منهن حتى أمه المسنة سيعرف كيف يغويها. يضع أمين يده على جبينه و يطرد هذه الصور المرعبة. مرت سنوات عديدة و لم ينس أمين أبدا صورة الخزي و القهر التي ارتسمت على محيا عباس. تألم لألمه و كره الدنيا من أجله. لم يعد يثق في الأنثى. كل واحدة منهن تحمل بذرة الخيانة.
 نظر أمين إلى ساعة معصمه فوجدها العاشرة مساء، مازالت هناك ساعتان قبل أن تحل السنة الجديدة. تذكر رفاقه في الشغل. حتما هناك منهم من يكرع الآن الكؤوس في الحانات أما رفيقات الشغل فأغلبهن متزوجات. لن يتركن هذه المناسبة تمر دون أن يقمن حفلا عائليا فقد كن من النوع النشيط المستغل لكل فرص الأفراح. في الشغل كان يستغل بعض فترات الاستراحة المسروقة من أجل تدخين بعض السجائر و قضاء وقت ممتع في الحديث مع الرفاق و الرفيقات خلسة من المدير الذي يتعامى عن ذلك. تذكر سارة، تلك المرأة اللعينة التي غيرت حياته رأسا على عقب. كانت متزوجة بكبور أحد أعز أصدقائه في الشغل. كان يردد دائما << خادم الناس سيدهم >> و يطبقها ففي أفراح تلك المؤسسة كان هو الذي يتكلف بالتهيؤ و الترتيب كما كان يقف إلى جانب زملائه، إذا حل بهم مصاب يؤازرهم و يقدم  لهم المساعدة و المشورة، و مما كان يزيد من تعاطف أمين معه هو سوء أحواله الماضية. فهو يتيم الأبوين قضى طفولته في ملجئ للأيتام حيث المعاملة قاسية و رغم ذلك تخطى الصعاب إلى أن حصل على هذا الوظيف بهذه المؤسسة و تمكن من الارتباط بإحدى الموظفات بها. أما زوجته سارة فقد كانت منفتحة على الحياة متمتعة بها بدون خوف، تجلجل ضحكتها لأتفه الأسباب و تقضي جل وقتها متجولة بين المكاتب تحدث هذا و تلك. كانت تزور أمين أحيانا في مكتبه طالبة منه مشورة أو قرضا صغيرا و كان يستجيب لرغبتها و لا يخيب ظنها، فقط لأنها زوجة كبور ذلك الرجل العظيم. ما زال أمين يتذكر بقوة ذلك اليوم المشؤوم الذي نزلت فيه سارة عند أمين بالأرشيف تريد ممازحته. كان أمين ينظر إلى سارة كأخته الكبيرة ربما لأنها تشترك معها في نفس الاسم ولم يفكر أبدا أنها يمكن أن تتحول إلى أنثى مشتهاة. طلبت منه مساعدتها على ملء استمارة و بينما هو يقدم إليها الشروحات اللازمة و سارة تصغي إليه باهتمام أو تتظاهر بذلك، قامت هذه الأخيرة بوضع يدها اليسرى على الجزء العلوي من ظهره و تركتها هناك بعض الوقت ثم سحبتها بهدوء. لم يدر أمين كيف أن تلك اللمسة كانت كافية لإثارة زوبعة في جسده. كان قبل تلك اللمسة يفكر بتثاقل و جسده هامد كالضيف الذي لا يشارك أهل الدار في أعمالهم و كانت تلك اللمسة السحرية كافية لإشعال النار في جسده و فتح عينيه على لذة محرمة لم يكن يشعر بها مسبقا سواء مع كوثر أو غيرها من النساء. هل يحب سارة أو ربما يرغب في جسدها و يشتهيها و لكنه يقمع بطريقة لا واعية تلك الرغبة لأنها معارضة لقوانين المجتمع؟ أثارت تلك اللمسة زلزالا عنيفا في جسده و اجتاحته رغبة جنسية قوية في تلك المرأة ولكنه بسرعة سيطر على الموقف أو أن لا وعيه قام بعملية قمع سريعة فعادت الأمور إلى نصابها وأكمل أمين حديثه و كأن شيئا لم يقع . بقيت سارة معه بعض الوقت ثم عادت من حيث أتت و هي تقهقه بقوة كأنها تستهزئ به. في ذلك المساء لم يغادر أمين شقته. بقي يفكر في أمر تلك المرأة. أيعقل أن يشتهي تفاحة محرمة؟ سالت دموع حارة على خديه حين تذكر كبور ذلك الإنسان المكافح و الكريم. أتبلغ به الخسة هذه الدرجة حتى يتمنى زوجة صديقه؟ << ربما أنا إنسان لئيم و نذل ! >> تساءل أمين. و اجتاحه شعور بالذنب كمن اقترف جرما شنيعا و أحس بوخز الضمير و برغبة قوية في تعذيب نفسه. في خضم تلك الصراعات النفسية، فقد أمين راحة البال و قل اهتمامه بما يحيط به .
في الغد لم يستطع أن ينظر في عيني كبور كما كانت عادته من قبل. كلمه و هو مطأطأ الرأس ثم انسحب من جماعة الرفاق و هو متوترا. كان أمين عاجزا منذ صغره عن الكذب و إخفاء مشاعره و شعر بأن كبور قد شك في أمر ما و لكن ذلك لم يعد يهمه فقد امتلئ صدره بالآلام و الأحزان و اجتاحته رغبة في ترك كل شيء و الهروب. و لكن إلى أين ؟ قاوم هذا التيار الجارف محاولا تبرئة نفسه. << و لكنني اشتهيتها فقط و لم أقم بأي عمل مشين >>. حدث نفسه التي لم تزدها هذه التساؤلات إلا هياجا و انكسارا. ترك الرفاق و الرفيقات في الشغل و ازداد ثقل رأسه كما ارتسمت على وجهه بصورة دائمة حالة من اليأس و الغضب.
أضحى مشوش الذهن كثير التفكير أما سارة فقد أخطأت في فهم مشاعره الداخلية و ظنت أنه يكرهها لسبب ما لما لاحظت تجنبه لها و لذلك عملت كل جهدها لخلق المشاكل له.
انزوى أمين في مكتبه وحيدا لا يغادره إلا لحاجة ملحة كما يغادر مقر العمل بدون رفيق، أما سارة فلم تزدها هذه التغييرات في سلوك أمين إلا شراسة و رغبة في الانتقام فألبت عليه زوجها كبور الذي أضحى هو الآخر يكره أمين بدون سبب و يحاول تنكيد حياته وعرقلة ترقيته الإدارية.
 دائما عند الخروج تقف سارة بمحاذاة بوابة المؤسسة مع رفيقات لها تنتظره. حين يمر أمامها تلعلع ضحكتها في الجو قوية فتشنف سمعه كالزلزال، تهتز لها  كل أركان جسده و يخبط قلبه في صدره بتسارع و تعمى بصيرته فيتابع السير و هو غير مدرك بما يحيط به حتى أنه قد لا يرد على من يناديه أو يسهو عن التسليم على معارفه و تتلئلئ بعض قطرات العرق بين أصابعه و على جبينه. كان المرور أمام تلك السمراء المكتنزة يعذبه و يتمنى لو انشقت الأرض واختفى أو لو تم اختراع آلة تنقله مباشرة من مكتبه إلى مسكنه دون أن يراه الآخرون أو يسمع ضحكات جارحة لا يفقه معناها هل هي لصديق أم عدو أم أنها محايدة لا تحس حتى بوجوده.
عند هذا الحد من التفكير، أخد أمين قلمه و كتب في مذكرته:
<< يمكنني أن أقول بوثوق أن مرحلة ثالثة ستبدأ في حياتي من هذه الليلة، لأنه بعد تفكير عميق اتخذت قرارين مهمين سأعمل على تنفيذهما ابتداء من الغد: الانتقال من المؤسسة إلى فرع لها بحي آخر و الزواج بكوثر>>.



 
  عبد الرحيم الطورشي (المغرب) (2009-03-13)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

اللمسة-عبد الرحيم الطورشي (المغرب)

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia