لي أكثر من نصف قرن مع هذا الرفيق الذي لم يخذلني يوما، و إن خذلته كثيرا، في محاولتي التعرف عليه أكثر، و معرفة خِصاله و طِباعه، و أدب مرافقته و مجالسته.
و الحق أقول إنني أبذلُ ما أستطيع بذله، و أستمتع بما أبذل. رحلتي دائمة، و هو، أعني الشعر، قريب، ناءٍ. واضح، غامض.
كأن الحياةَ بأسرها ساحة للشعر و ملعب. و كأنني مكلف بأن أذرع هذه الساحة في محاولة بلوغ الفن، بلوغ الشعر.
هل الشعر قراءة للحياة فقط؟
أعتقد أن الأمر أوسع و أعمق.
للبشر، طرائق عدة في قراءة حياتهم، طرائق بينها العلم و السياسة.
لكن شأن الشعر مختلف.
إن كان العلم و المسعى السياسي يَعِدان، و يُعِدّان زمنا ما، فإن الشعر راهنُ، مباشر، و فوري.
أعني أن قدرةَ الشعر على القراءةِ و المشاركة و التغيير هي أكثر فاعلية، و أعمق في مجرى العروق.
الشعر مغير.
الشعر مغير في اللحظة الحميمة التي تجمع، بين الراهن و الأبدي، في عناق عجيب.
الأداة التي يستعملها، هي الأكثر تداولا، و عادية، و يومية، في حياة الناس. إنها في الأسواق، و على شفتي الطفل، قبل أن تكون بين دفتي كتاب. إنها أداة متاحة، بسيطة و ديموقراطية. هي اللغة المستعملة.
إذا، من أين تأتّى للشعر أن يأتي بمعجزته؟
أحسب أن ثمّت جذرين غائرين لهذه المعجزة:
أولهما، أن الشعر يعود باللغة إلى بداءتها، أن الكلمة مرهفة كالوتر الحساس.
و من هنا علاقته.
و ثانيهما، أن الشعرَ يقدم الخطوة َالأولى في السلم الذي يحمل البشر إلى السماء.
و من هنا إغراؤه.
و أقول عن نفسي : ليس لي من حياةٍ فعليةْْْْ، خارج الشعر.
الشعر خبزي اليومي.
و أريد له أن يكونَ خبز الناس جميعا.