عن يتامى الوطن أحكي-د عبد الكريم برشيد
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
 أنا الموقع أعلاه

عن يتامى الوطن أحكي

  د عبد الكريم برشيد    

يسألوننا عنا، نحن سيخ هذا البلد، ويقولون، أنتم من أنتم، ومن أي أرض جئتم؟ ولماذا أنتم هنا؟ وما محل وجودكم في هذه الجغرافيا المادية والرمزية من الإعراب، وأجيب كل السائلين وأقول:
ــ نحن في هذا الوطن، يتامى الوطن..
لقد تسللت هذه الكلمات على لساني، وأدركني الشعور باليتم، ولاحقني الإحساس بالافتقاد وبالضياع وبالمحو وباللا انتماء، ووجدت أن كل الكلمات التي في رصيدي لا تسعفني، وأدركت كم أنا شقي وسعيد في نفس الآن، لقد باغتني هذا الإحساس المركب والمعقد والملتبس وأنا أكرم في دمشق الفيحاء، وذلك من طرف وزير الثقافة السوري الفنان والمثقف والإنسان رياض نعسان آغا، والذي جمعتني به صداقة قديمة ومتينة، صداقة ترجع إلى سنة 1977، وكانت المناسبة يومئذ مهرجان دمشق العريق والعتيق، وكانت بطاقة تعريفي هي مسرحيتي (قراقوش الكبير) التي قدمها المسرح الطلائعي بمدينة الدار البيضاء وأخرجها إبراهيم وردة.
يحدث هذا التكريم خارج الوطن الذي أحمل بطاقته الوطنية، والذي أسافر بجواز سفره، وبعد أن ضاقت بي الأرض التي أمشي عليها، وبعد أن لحقني الأذى ـ بكل أنواعه وألوانه ـ من طرف وزير الثقافة المغربي في حكومة التناوب، ومن طرف زبانيته، ومن طرف صحافته ونقابته ومن طرف عسسه وعسكره ومن آل نعمته.. لقد أحسست بأنني أصبحت عاريا في العراء، وبأنني مجرد من كل ثياب الوطن، وبأنني أصبحت مفصولا عن جذوري، وبأنني غير موصول إلى أية أرض، وبأنني مقتطع من جذع شجرة محترقة، أو من شجرة غائبة أو ميتة؛ شجرة لا هي شرقية ولا غربية، وبأنني قد ضيعت مواطنتي، أو أنها انتشلت مني في زحمة الأيام والليالي، وأصبحت يتيما من يتامى هذا الوطن..
وأقول الإحساس باليتم، ولا أقول الإحساس بالغربة، لأن لي في كل البلدان العربية أهل وأصدقاء، ولي أخوة ورفاق درب، وإنني أردد دائما مع الأنشودة الفيروزية :
ليس لي في هذه الدنيا ربوع
وحيثما وجد الهوى
تلك ربوعي
وما أكثر البلدان التي أجد فيها الحب والهوى، وتعطيني جرعة محبة، وتحنو علي بلمسة وفاء، وأجد فيها الوطن الثاني والثالث، وربما العاشر أيضا.
إنني أحس الآن، تماما كما أحسست من قبل، بأن أبانا الذي في الأرض، والذي نسميه الوطن، قد نسينا، أو أنه قد تبرأ منا.. لقد هجرنا، وطردنا من بيته العامر، وأصبح وجودنا لديه في حكم الخواء والعدم، وأصبح حضورنا مترجما في أسفاره إلى كل لغات الغياب، أو إلى كل لغات الإقصاء والتغييب، هكذا كان إحساسي في تلك الأيام التي مضت، والتي مازال على جلدي وشمها
ويتامى الوطن ـ ونحن منهم ولا فخر ـ كثر بلا شك، ويمكن أن تجدهم في كل أرض، وأن تراهم في كل مكان وزمان يبحثون عن فسحة أرض يقفون عليها، أو يتمددون فوقها، أو يدفنون داخلها، ويبحثون عن فسحة سماء يحلقون فيها، ويتمددون في فراغاتها، ويبحثون عن علاقات إنسانية جميلة وحقيقية وشفافة، فيها دفء وحرارة، وفيها صدق وحقيقة، ويبحثون عن جرعة ماء في صحاري هذا الوطن الممتد من .. الماء إلى الماء، ويبحثون عن جرعة هواء، تكون صافية ونقية، ويبحثون عن لمسة حب وعن لحظة فرح، وعن دفقة نور وضياء، وذلك في أحشاء هذا الوطن الوحش، وفي  مغاراته المظلمة والظالمة والموحشة.
يسألوننا عنا، ويقولون، أنتم من أنتم، ومن أي أرض جئتم؟ ولماذا أنتم هنا؟ وما محل وجودكم في هذه الجغرافيا المادية والرمزية من الإعراب، وأجيب كل السائلين وأقول:
ــ نحن في هذا الوطن، يتامى الوطن..
أقول هذا ولا أزيد حرفا، ولا أضيف كلمة، لأن هذه الجملة تقول كل شيء..
ومن المفارقات الغريبة والعجيبة، أن نكون يتامى، مع أن هذا الوطن ـ الأب مازال حيا يرزق، ولكن رزقه لا يصيب إلا المحظوظين والسعداء من أخوتنا.. هذا الوالد الحي ـ الميت، لا يعرفنا، ولا يعترف بنا، وهو لا يلتفت إلينا، ربما.. لأننا شرفاء أكثر مما يلزم، وأن شرفنا يحرج الفاسدين والمفسدين من ( إخوتنا) وربما لأننا علماء، وأن علمنا يحرج الحمقى والجاهلين والأميين من ( أهلنا).. قد يكون.. وربما لأننا نرى ونسمع، ونعي كل شيء، وأن هذا شيء يحرج العميان والطرشان، ويحرج كل الخرسان في هذا الوطن.. وهذا أيضا جائز جدا.. وربما لأننا نضع نبوغنا في خدمة هذا الوطن، ونضع خبرتنا ومعرفتنا ومحبتنا في خدمة قضاياه، وفي خدمة فكره وفنه وعلمه، وهذا شيء يزعج الغشاشين بلا شك، ويضايق المقامرين والمهربين والمهرجين والدجالين والمشعوذين..
نحن الأيتام في مأدبة اللئام، لم يعد لنا من دور في هذه الأيام سوى أن نتفرج فقط.. نتفرج على ( سيرك الدنيا) ونضحك على الحيوانات التي تقوم بدور الإنسان في عالم الإنسان، والتي تم ترويضها، وتدجينها بشكل جيد، وأصبحت تقوم بكل شيء، وذلك في مقابل .. لا شيء ..
إن الذين هجروا ـ بضم الهاء ـ من فضاءات هذا الوطن، وقطعوا من لحمه، وماتوا غرقى في مياه بحر هذا الوطن، هم بكل تأكيد بعض يتامى هذا الوطن، وأنتم تعرفونهم بكل تأكيد، لأن فيهم بعض أهلكم، وفيهم بعض أصحابكم وبعض جيرانكم..
والذين لم يجدوا شغلا، وأغلقت في وجوههم كل أبواب العمل، هم أيضا، من يتامى الوطن.
والذين أبعدوا، وجردوا من كل حقوقهم، ونحن منهم، لا يمكن أن يكونوا إلا يتامى الوطن.
والذين يعيشون الغربة في أوطانهم، والذين يطردون من بيوتهم، والذين تحتقر لغتهم وثقافتهم في عقر دارهم، والذين تبتلعهم حيتان هذا الوطن، هم بالتأكيد من يتامى هذا الوطن..
والذين ليس لهم تغطية حزبية، والذين يجدون أن الحزب في هذا الوطن، أهم وأخطر من الوطن، لا يمكن أن يكونوا إلا يتامى الوطن.. 
والذين تضيق بهم هذه الأرض، رغم رحابتها الجغرافية، والذين لا تصلهم خيراتها، رغم وفرتها، والذين يجدون أن كل مواطنتهم مختزلة في بطاقة التعريف الوطنية، ولا شيء أكثر من ذلك، كل هؤلاء.. من يتامى الوطن ..
لقد اخترع الحزبيون في بلادنا مصطلحا (جديدا) وأضافوه إلى معجمهم البئيس، وكان هذا المصطلح هو التوافقات، والذي يترجم فعلا لا يخلو من معنى قدحي، لأن الأصل في التوافق أن يتم دائما بين جهتين، وذلك على حساب جهة ثالثة، ولقد كنا نحن دائما ـ ولا فخر ـ هذه الجهة الثالثة.
لقد كان التوافق بين الأحزاب في اتحاد الكتاب، وكان في اللجان، وكان في نقاباتها وجمعياتها المتعددة، ونحن.. لم نكن في هذه المعادلة حزبا، ولا كان لنا غطاء حزبي، ولا كنا من هؤلاء ولا من أولئك، اعتقادا منا بأن الانتماء إلى الوطن ـ وحده ـ يكفي، فهل كنا نحن الخاطئين، أم كانت تلك المرحلة السياسية المجنونة، والتي مازالت ممتدة إلى الآن، هي الخاطئة؟
لست أدري.. وماذا يفيدني أن أدري، إذا كنت سأبقى يتيما كما كنت.. يتيما من يتامى هذا الوطن؟



 
  د عبد الكريم برشيد (2014-03-15)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

عن يتامى الوطن أحكي-د عبد الكريم برشيد

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia