الموسيقا من البدء إلى الخلاص-محمد ابوعراق
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

الموسيقا من البدء إلى الخلاص

  محمد ابوعراق    

بين الموت والبعث فاصل، يسمى: البرزخ


بين الوجود والعدم ثمّ " ممكن ". الممكن: برزخ


تلك – عند ابن عربي - مراتب ثلاث:


العلوية: الوجود المطلق الإلهي. مرتبة التجريد


السفلية: العدم المطلق. مرتبة الحس والمحسوسات


البرزخية: الوجود الخيالي. واصلة بين العلوية والسفلية – محسوسة معقولة في آن -. مرتبة الممكنات.


في البدء، لم يكن بدء، لو لم يسبقه تصوّر 


( كُنْ. فيكون ) قبل الـ( كُنْ ) كان ثمة تصور لما أريدَ له أن يكون. هذا التصور – المُتخيّل – برزخ بين ما قبله ( العماء )، وما بعده: التجسّد ( فيكون ).


البرزخ إذن، ليس سوى ظلاً للمطلق، أما التجليات/ الموجودات فهي ظلالاً لهذا الظّل. هذي الظلال – الظاهر – هي الصورة التي تمثّل نموذجها في العلم الإلهي قبل خلق الخلق.


إذن، تبعاً لذلك، فإن أي تجسّد " كن "، لوجود ما، يسبقه تصوّر لكي يتجلّى " يكون ".


النافذة، على سبيل المثال لا الحصر، قبل أن تكون دائرية أو مستطيلة على الجدار، فإنها كانت كذلك في مخيلة البنّاء. أي أنها ظلاً – ظاهر - يمثل النموذج الأصل الموجود في المخيلة/ البرزخ.. وقس على ذلك.


منذ الإنسان، وعبر قرون الوجود البشري، ارتبطت قوى الشر بالأسفل – العالم السفلي -، بدءا بالأساطير، مروراً بالديانات، وانتهاء بالوعي الجمعي. كما ارتبطت كذلك قوى الخير بالأعلى – العالم الفوقي -.. الأسفل باطل. الأعلى حق. أو الباطل يسقط، والحق يعلو.


يعني هذا بصورة أوضح ما يلي:


أي تجسّد لوجود شرٍّ ما، فان نموذجه في الأسفل.


وأي تجسّد لوجود خير ما، فان نموذجه في الأعلى.


بالتالي، فان الإنسان الذي يقوم بفعل شرير، يكون قد تخيّل هذا الفعل أثناء وجوده – معنوياً – في الأسفل


والإنسان الذي يقوم بفعل خيّر، يكون قد تخيّل هذا الفعل أثناء وجوده – معنوياً- في الأعلى.


الأول على اتصال بالعالم السفلي. والثاني على اتصال بالعالم العلوي.


هذا الاتصال: موطن الممكنات/ البرزخ.


ونتيجة لهذا التناقض الأزلي، كان الصراع بين قوى الخير وقوى الشّر. بين السقوط والتحليق.


نخلص إلى القول، أن الحالة التخيّلية/ البرزخية، تكون إما في الأعلى أو في الأسفل، ومن ثمّ تتجسد في المنطقة الواقعة بالوسط/ في الواقع.


بعبارة أخرى: للوصول إلى حالة برزخية، فلا بدّ من أحد الأمرين: الصعود/ التحليق. أو النزول/ السقوط.


دخول الحالة البرزخية، في الحالتين، يعني بالضرورة الغياب عن الواقع.


حرصت الديانات – السماوية منها، وغير السماوية – على دفع الإنسان تجاه الأعلى، عبر شعائر وطقوس توجب التأمل أو الخشوع – التماهي مع المطلق-، باعتبار أن الكائن البشري مخلوق مفطور على السقوط وميال بطبعه إلى أسفل. (( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا)) قران كريم.


إذا كان الأمر كذلك، سندرك انه لكي يكون الإنسان خلاقاً قادرا على الإبداع مما يسهم في تحيق الغاية من وجوده – اعمار الكون – والنهوض بالإنسانية، فلا بد من سلخه عن الواقع بين الحين والآخر، وهذا يعني أن الواقع حجاب بين الإنسان وذاته، لذا فان استغراقه في الواقع استغراقا كلياً، يبعده عن ذاته، وبالتالي يهوي به إلى الحضيض/ الأسفل.


الدين/ الإسلامي مثلاً – عن علم أو عن جهل – تم فصله عن العالم الأرضي والحياة الدنيا، وقصره على الحياة الأخرى – وذلك بطريقة عجائبية تستعصي على المنطق، فالذين يروجون الدين على انه رصيد للحياة الآخرة وانه يحتقر الدنيا ومن يتمسك بها، هم أنفسهم - وهذا معروف – الذين يسعون إلى امتلاك العالم واستعباد البشر باسم الدين وبمباركة خالقه -.


ثمة اتجاهات دينية، أدركت هذا الشرخ/ الانحراف كـ( الصوفية )، التي حاولت إعادة الدين إلى مساره الصحيح وهدفه الأسمى، فكان أن حوربت منذ فجرها - حتى الآن – كما اتّهم أعلامها بالزندقة واعتبروا كفاراً، فتم ذبحهم، وتقطيعهم وصلبهم باسم الله.


كيف حدث أن صار الشر – الذّبح والتنكيل – منزل من فوق فجأة؟! فوق، الذي هو منذ الأزل مرتبط بالخير.


أيضاً، وخارج إطار الدين، ظهرت اتجاهات مدركة لهذه الحاجة عند الإنسان، وضرورة عدم الغرق في الواقع، فبرغم اختلافها الظاهري، بل وتناقضها، فإن ( السوريالية ) - وهي حركة إلحادية – تلتقي جوهرياً في نقاط عديدة مع ( الصوفية )، منها التماهي مع الغيب/ المطلق، فاليقظة عندها، كما عند الصوفية، حالة غياب عن الحقيقة.


وما يعرف في الصوفية بـ( الانخطاف )، هو ذاته ما يعرف في السوريالية بـ( الهذيان أو الإشراق ).


خلاصة القول: إنهما تشتركان في دفع الإنسان للتحرر من القيود التي تحدّ من حريته وحركيته بكل أشكالها وأنواعها، بغية معرفة الذات والوجود معرفة حقيقية، وبالتالي تكون الحياة في مستوى هذه المعرفة ومطابقة لها. 


وقد أوردنا هنا ( الصوفية، والسوريالية ) على سبيل التمثيل لا الحصر.


إذن، لنقل أن الدين في البدء- سماوي أو غير سماوي -، ومن ثمّ بعض الاتجاهات والحركات - دينية أو إلحادية - تقرّ بحاجة الإنسان للعروج خارج هذا الواقع، إلى واقع آخر. واقع أعلى.


ولأن هذا العروج- التغيب عن الواقع -  يتم ضمن شروط معينة كالخشوع في الصلاة، أو التلاشي في التأمل أو الانخطاف....الخ، فقد لا تستوفى هذه الشروط عند العامة، أو قد تطبق بشكل خاطئ، لذا فقد انحصر الأمر على الخاصة. وفي تطبيق الشعائر الدينية المعروفة لدى الجميع، وصل الأمر إلى مجرد أداء شكلي خالي من أي جوهر، مما أفقدها الغاية التي وجدت أصلا لتحقيقها – دفع الإنسان تجاه الأعلى -.


ولما كان الأمر كذلك، فقد بات الإنسان يهوي إلى أسفل بتسارع مجنون، حتى بلغ الانحطاط في القيمة الإنسانية، عند الإنسان نفسه أوجه، متجسداً في القتل.


القتل من أجل السيطرة على الواقع، وفي سبيلها/ سبيله. القتل من أجل فرض الرأي على الآخر، ولأسباب استعراضية. القتل حتى على خلاف أي الطرق أقصر إلى روما.. بالتالي: القتل من أجل القتل.


القتل، بوصفه فعلاً شريرا – أفظعها شرا – فهذا يحيلنا إلى أن الإنسان استغرق في الواقع استغراقاً بلغ قاع الأسفل؛ ولأن الدين – بفضل تطبيقه الخاطئ " تطبيقا شكليا " – صار عاجزاً، مما أدى إلى حرفه عن مساره، وإبعاده عن هدفه، وهذا يتضح في استخدامه لغايات هو ابعد ما يكون عنها، بلغ الأمر بأبناء الدين الواحد أو الطائفة أو المذهب الواحد، قتل بعضهم بعضاً.


أقول، لأن الدين صار عاجزا عن تحقيق الهدف الأسمى الذي وجد من أجله، والمتمثّل في الارتقاء بالإنسان، فلقد صار من المحتم إيجاد آلية تأخذ على عاتقها إعادة الاعتبار للدين، من خلال توضيح الهدف من وجوده.


آلية حيادية. تمتلك القدرة على سلخ الإنسان من الواقع. تدفع إلى الأعلى بقوة تضاهي قوة القتل بالدفع إلى أسفل.


هل نقول أن هذا كله يتوفر في " الموسيقا "؟


في حديثه عن الموسيقا، وصفها الفيلسوف الألماني نيتشه بأنها " المنقذ ". 


وأرسطو بـ" الأسمى ".


وأفلاطون، بالشرارة التي تعيد إلى النفس نورها، إذا انطفأ


وجعل منها روبرت شومان معيارا لأخلاق الشعوب.


أما عند بولين فكان هذا التساؤل الاستنكاري المر " كيف يجرؤ، من لا يتذوق الموسيقا، على أن يسمي نفسه إنساناً؟! ".


وفي العقد الفريد: " قد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف وصلة الأرحام والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب ".


هل نردد وراء نيتشه " هي المنقذ "؟.


إن الإنسان – المستمع – يكتشف من الوهلة الأولى عند سماعه للموسيقا، انه مسكون بهاجس التحرر من العالم المادي، فيبدأ تدريجيا – على نحو تلقائي – بالتماهي معها، ومجاراتها في الصعود، وهناك في الأعالي يشعر بأهمية فريدة، أهمية لم تخلق إلا له وحده.


فهي تجربة تصله بذاته الشاسعة العميقة، وتتجاوز به الواقع الذي يقف بينه وبين هذه الذات، إنها تجربة تنفض عنه اغترابه في الواقع، وتتخطى به كل المألوف، لتدله على ما هو ابعد وأغنى. إنها قوة رفض لكل ما هو عادي. رفض للسائد. للظاهر. للثابت. للتقليد، وقوة دفع في اتجاه اللاعادي. الابتكار. التحول. الإبداع. باتجاه الأفضل. الأجمل... الأعلى


إنها تجربة في عوالم الباطن. الغيب. ما لا يرى. لا يقال. ما كلما انكشف منه شيء، جرّنا إلى المزيد من الكشف، ولا أقاصي في أقاصيه. إنها اللاواقع الواقعي، واقع أكثر واقعية من هذا المرئي، فهي من خلال ظاهره المألوف المستهلك، تكشف عن باطنه المجهول


بالأحرى.. إنها تجريد. تعيد للإنسان كل ما هو ملك له. كل ما يمكن أن يفكر فيه.. أو يحلم به. تعيده في ذلك العالم الحقيقي – المخيّلة/ البرزخ – ومن ثمّ ستتجسّد ظلاله في هذا الواقع.


عبر أبوابها اللانهائية، يدخل – المستمع - في عالم غير هذا العالم – عالمه الخاص.. انه هناك في الممكن.. انه في الأعلى.


الأعلى الذي هو أصل الموسيقا، ومصدرها الأول/ الطبيعي.


الحب. منها، وفيها واليها.. هي الحب. هي بدءه ولا منتهاه.


يعبر ابن عربي: " سماع كلام الله هو السبب في بدء الحب – حبنا له -. نحن نتحرك. نحلّق، عند سماعنا النغمات بسبب كلمة ( كُنْ ) التي صدرت عن الصورة الإلهية غيباً وشهادة "


" يظهر الوجد في الإنسان، خصوصاً، عند سماعه الألحان، فهي في نزولها عليه تمرّ على الأفلاك، ولحركة الأفلاك نغمات عذبة مستلذّة"


وأخيراً " إن الحقائق الإلهية التي يستند إليها النغم، أقوى من تلك التي يستند إليها الكلام ".


كيف للقدرة، ألاّ تحقق خلق الكون دون ( كُنْ ) لو شاءت؟


كيف لصوت " الله " ألاّ يكون عذباً؟


( كُنْ ).. سمعَ المُنادى، فاضطرب وطربَ، وتماهى مع المُنادي.. فـ(كان ).


العودة إلى إنسان راقٍ. خلاّق. إنسان يشارك الكون في اضطرابه وطربه الأول، استجابةً وتلبيةً، لإرادة علوية – خيّرة -، تتطلب التماهي مع الصوت – النغم – الأول/ الأصل (كُنْ). لـ(يكون).


 التماهي الذي يبدأ من التساؤل: هذا الصوت – صوت الآلة. الكمان أو الناي أو... ألخ – كيف وماذا، يكون نموذجه في العلم الإلهي؟. وينتهي إلى صعود لا نهائي.





 
  محمد ابوعراق (2014-06-17)
Partager

تعليقات:
العربي الرودالي /تمارة-المغرب 2014-07-04
*قدرة هائلة على الكشف من خلال الوصف والتحليل والكلمة..يلاحظ أن الكاتب محمد أبو عراق يحيلنا إلى "النغم" كبرزخ ينطلق من منزلته هذه نحو الأعلى فتصفو الروح في نقاء "كن"..إذن هي للصفوة ك"صوفية" تنآى بالإنسان عن الواقع والمعتاد.. وبذلك تتجاوز افتراضا عجز الدين عن الإيفاء بالغاية..لكن لا ننسى أن الأمر يتمفصل دوما إلى علوي مع الخاصة وسفلي مع العامة..ولذافهناك الدين العالم والدين الشعبي، وهناك صوفية الحلول وصوفية "الحضرة"، كما أن هناك موسيقا الذوق وموسيقا البذخ...فتحية وشكرا للكاتب على هذه المقالة الرائعة
البريد الإلكتروني : mr.roudali@yahoo.fr

حسن لختام /المغرب 2014-07-03
شكرا لك، أخي الكريم محمد ابو عراق، على لذة القراءة
محبتي وتقديري
البريد الإلكتروني : lakhtame@gmail.com

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

الموسيقا من البدء إلى الخلاص-محمد ابوعراق

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia