نَارٌ وَدُخَّان-محسن العافي-المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

نَارٌ وَدُخَّان

  محسن العافي    

ذلك الذي يجلس في جانب من الحديقة ،ذات الأشجار الباسقة ،يبدأ عمله صباحا ومساء بتهييئ  فتات الخبز،ويبقى منهمكا في عمله هذا حتى تتعب أصابعه وهو منحني الرأس ،ينظر تارة إلى تلك الأشجار التي أحاطت بالحديقة ،وتارة أخرى إلى ما اجتمع له من فتات ،ثم يذهب إلى حيث يضع علبته الكبيرة، وقد علق عليها ملصقات للسجائر التي يطلبها الزبائن بكثرة .
بالقرب من هذا المكان ،كان يهيئ مكانا آخر، فيقوم بتنظيفه بمكنسة خاصة ،ثم يضع فتات الخبز ، فتأتي العصافير الصغيرة  واحدا تلو الآخر ،فتبدأ حركات الإقلاع والهبوط ورفرفة الأجنحة تملأ المكان ،وهو منتشي غارق في فرحة عارمة ، فقد شح رزقه، ولكن الابتسامة ما فارقته يوما  ،إنه هكذا أحب الخير للجميع .
على عادته يستيقظ باكرا، ثم يروح  إلى منزله باكرا ،كأنه على موعد مع طيوره التي لا يريد أن يخذلها ،كأنه يتعهد الخِماص منها  حتى تعود بِطانا .
ذات يوم مرت سيارة كبيرة، وقفت قرب المكان، فزعت الطيور وطارت بعيدا ،واستقرت فوق أشجار الحديقة  ، أخذ راكبوها العلبة الكبيرة والكرسي الأبيض- الذي يعده البعض من المتلاشيات - ليرموا بهما بعيدا عن المكان، ليجعلوا مسارات ماضيه ومستقبله في مهب الريح  .
وقف محمد ينظر إلى ما يحدث أمام عينيه ، لم يحرك ساكنا ولم ينبس بكلمة ، سوى ترنحات بدت على حركاته العفوية ،وسخط باد على محياه ، لم تكن المرة الأولى التي يحدث فيها هذا الأمر ، ولكنها مرات  عديدة ،حملت في طياتها الكثير من العناء لصاحبنا لاسترجاع ما ضاع منه ليستقر حاله على رتابة معينة .
بعد مدة من الزمن استُدعي محمد إلى مخفر الشرطة لاستفساره في موضوع كان يجهله لأنه كان يعتقد أن الأمر قد انتهى ، آه!  لقد كان ذات الموضوع الذي فقد على إثره علبة السجائر الكبيرة ، أخذت الشرطة أقواله، ثم أخلي سبيله في الحال .
مرت مدة ليست بالكثيرة على استفساره ،فاستدعي للمثول أمام هيئة  المحكمة ،تردد قبل أن يقرر الذهاب لحضور المحاكمة ، وأخيرا ذهب  ليحكم عليه بغرامة مالية بتهمة عرقلة السير بالطريق العام، دون أن يجد آذانا صاغية لكلامه الذي حاول أن يدافع به عن نفسه .
من أين لك بما أوجبته عليك  المحكمة ؟هكذا تردّد هذا السؤال على مسمعه وهو يغادر تلك البناية  التي رُجّحت فيها أقوال ، ودُحضت فيها أخرى،  ثم قال في نفسه : لابد أن أعود إلى ذات المكان من أجل توفير المبلغ المطلوب .
وأخيرا عاد ليضع علبة السجائر ويلتقي بطيوره التي طال انتظارها هناك ،لتغرد وتشدو مبتهجة بقدوم حبيبها وراعيها .



 
  محسن العافي-المغرب (2014-10-22)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

نَارٌ وَدُخَّان-محسن العافي-المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia