بين هذا الحَال وذاك ،هاهُو ذا يجلِس القُرفُصاء، يمدُّ يديْه للمارَّة، بعدما أخذ القِمار سُؤْدَدَه وَمَجْدَه ، هُوذَاك الّذي تسلَّق مراتب المجتمع ،وطابت له الوَلَائم ذات يوم . اليومَ قد أخرسه الزّمان، وشلّ حركاتِه الدَّؤوبة.
وَسْوسَت له نفسه أنَّ في تلك التَّفاهَات حيَاة ، لكن يدًا خفيّة أرْدَتْه من عَلٍ ،وسقط مذْؤوما .
تَرَاهُ يسترسل في حديثه عن المال والْجاهِ والبَذْخ ،يتحدَّث عن سنِين مضَت لم يكن في نيَّتِه وحُسبانِه ما حدث وما آلَتْ إليه حاله ،ترَصَّدته الأقدار من حيث لايَدْرِي ،ليصير كالجرذان ينتقل بين جيوب المدينة في جيئة وذهاب ، يُصْدِرُ سُعَالا متتاليا وقد أنهكته الأقدار . الْتَفَتَ إِلَيَّ بغْتَة وأدَار رأسه، وصَعَّر خَدَّه ، كأنه لم يَرَنِي ،وتَجَاوَزْتُه حين بَدَتْ عليه علامات تدعوني للإبتعاد.
تابعت طريقي نحو الرصيف المقابل ، لم يكن ثَمَّة ما يستدعي منا الحديث فيه، ولكن الموقف كان يفرض علي أن أَنْأَى بعيدا عنه ،حتى لا يسبح في بيوت واهنة من بيوت الماضي الذي أوانا ونحن نبغي مستقبلا مُشبعا بالخيرات ،ومحمَّلا بأُمنيات ثَكْلَى بأنواع الجمال : ثروة، وغنى، ومال ،وجاه .
تحقق له ذلك لسنوات ،وتعالى عني علوًا كبيرًا ،ولكن الأيام مَا رَسَتْ على حَالٍ ،وسقط القناع الذي كان يواري مساره سنين، فاستوى بالمتسكعين، فلا مأوى له اليوم ،ولا طعام إلا من قذارة .
دنا من البؤس، فاستوى إلى جانبي، ثم سَارَ كلٌّ منا في مسَارِهِ .