رواية "سرير الأسرار" للبشير الدامون-طنجة الأدبية
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
إصدارات

رواية "سرير الأسرار" للبشير الدامون

صدر مؤخّرا عن دار الآداب اللّبنانية باكورة الكاتب المغربي البشير الدّامون، رواية "سريرُ الأسرار" التي وسمتها لجنة قراءة الدّار بما يأتي:
" ما تقدّمه هذه الرّواية التي تتناول حكايات تفصح عن شريحة واسعة من الناس تنتمي إلى ما هو تحت القاع الاجتماعي يتّسم بالمصداقية إلى حدّ كبير. وتصبح السّيرة الذاتية تحكي تاريخا اجتماعيا للمدينة وللأنوثة، وبذلك تبدو مأساة الفتاة أعمق وأشمل من كونها مجرّد مأساة أنثى. ثمّة وجود لمشاهد جميلة في الرّواية: مقاومة الفتاة لغرقها في النّهر، ومقاومة علي للخنازير..."



  البشير الدامون: تصوير اليومي والمخجل والبراءة بدفء وحزن
جورج جحا
بيروت (رويترز)- يطل الروائي المغربي البشير الدامون من خلال عمله الأخير "سرير الأسرار" بقدرة جذابة على السرد وعلى تصوير يفيض دفئا وحزنا وما يقرب من الحيادية أحيانا للمخجل اجتماعيا وللبراءة واليومي من تفاصيل حياة بعض المعذبين في الأرض.
واليومي عنده هو عادة مما لا يصرخ لافتا النظر والسمع وسط ضوضاء الحياة بل يمر ملفوفا بالتناسي وكأنه يطوى بتعمد في بعض الحالات ويدفن في أعماق الذاكرة هربا منه "خلقيا" أو استصغارا لشأنه "أدبيا" في حالات أخرى.
إلا أن هذا كله في رواية الدامون يتسلل إلى نفس القارئ ليذكره بأن كثيرا من ماسي الإنسان ومن أموره "الكبيرة" وغصاته ومنغصاته إنما رسمته الحياة بنتف وخيوط تبدو صغيرة مشتتة ليعيد الكاتب الناجح التقاط الصورة الكبيرة وإعادة رسمها بهذه النتف والخيوط.
وقد صدرت رواية البشير الدامون عن "دار الآداب" البيروتية في 221 صفحة متوسطة القطع. كلمة الناشر التي حملها غلاف الكتاب تشكل وصفا جيدا للرواية من بعض نواحي موضوعها إذ تقول "تتناول هذه الرواية حكايات تفصح عن شريحة واسعة من الناس تنتمي إلى ما هو دون القاع الاجتماعي. إنها حكايات تتعدى السيرة الذاتية لمأساة فتاة لتحكي تاريخا اجتماعيا للمدينة والأنوثة."
بعض ما ورد في رواية "سرير الأسرار" يشكل صورة الهيكل الذي بنيت عليه الرواية. نقرأ كلام الفتاة الصغيرة التي كانت الراوية والشخصية الأساسية التي تكلم الكاتب عبرها ووصف تلك الحال الاجتماعية الإنسانية من خلالها. قد يجد القارئ نفسه أحيانا خلال قراءته عن الوضع الاجتماعي المفجع ومقارنته بأوضاع اجتماعية تختلف عنه مسرحا لتساؤلات منها استرجاع فكرة "وجودية" أساسية وإن بشيء من التصرف في مفهوم " الوجود" ليصبح معناه هنا الوجود الاجتماعي لا المادي فحسب.. وليتساءل عنها وهل صحيح فعلا القول إن الوجود يسبق الماهية في المطلق إذا كانت "الماهية" تكيف وإلى حد بعيد "وجود" هذا الإنسان اجتماعيا.. المقصود هنا أن "الماهية" قد تحكم وجود إنسان ما سواء أبقته في حالة الغرق الاجتماعي التي أبصر فيها النور أم في حالة تتجاوزها إذا نجح في هذا التجاوز.

الفتاة التي ولدت في دار للدعارة فاكتسبت صفة "بنت الماخور" بطريقة شبه آلية جعلت هذه الصفة وولادتها المادية كأنهما توأمان في الزمن. تتحدث عن علاقتها بصديقتها في المدرسة فتقول "داركم دار بغايا... هذا ما قالته لي سعيدة ونحن متوجهتان إلى المدرسة. بدهشة نظرت إليها. لم أدرك معنى كلامها. ذكرت أن أمها حدثتها عن أشياء قبيحة تجري في دارنا وأن أمي مما زاهية ليست بأمي وهي امرأة غير شريفة قبل أن تخبرني أن أمها منعتها من اللعب معي.
بكيت كثيرا. هل لأنني لن ألعب معها بعد اليوم.. أم بسبب ما سمعته عن أمي وعن دارنا.. لم تتوقف دموعي. في المدرسة نهرتني المعلمة فازددت بكاء. قربتني إليها واحتضنتني. وددت لو اردد عليها ما حكته سعيدة وأن تبقيني قريبة منها."
وتروي لنا ما جرى معها فتقول "تنغيص سعادتي تلك بدأ يوم نهر ابن جيراننا يوسف أخته سعيدة مانعا عنها اللعب معي. "لا تلعبي معها. إنها بنت عاهرة" نترت الطفلة يدها مني. هرول كل الأطفال من أمامي وبقيت انظر بحسرة فاقد شيء لا يعرف لم فقده."
ومع أننا ربما تساءلنا في شيء من الشك عن نجاح الرجل أي الكاتب في تقمص شخصية طفلة صغيرة ثم فتاة وبعدها امرأة شابة فمما لا شك فيه قدرته الكبيرة على تصوير حياة ذلك الحي الفقير بنهاراته وأمسياته ولياليه وبمشكلاته ومرح أطفاله الفقراء وثرثراتهم ولعبهم. إنه أحيانا ينقل القارئ إلى تلك الأجواء ويكاد يجعله يعيش فيها بعينيه وعواطفه وبل يكاد يحمل إليه روائح أزقتها ونبض ناسها في منازلهم ودكاكينهم وألوان فقرها. يكتب الكاتب بقدرة شخص "ناضج" يستعير ذكريات طفلة صغيرة تروي حياة طفولتها وفتوتها مشاهداتها.
تتذكر الفتاة إذن طفولتها في ذلك الحي فتقول "محمولة بين يدي أم طويلة القامة عريضة الكتفين وتمد يدها لتشتري لي علبة بسكويت مغلفة بورق ذهبي وأنا ابكي من وجع ألمّ برأسي وأمي تنهر أطفالا يمدون أعينهم بنهم إلى علبتي. من هذه الساحة حيث اصطفت عشرات الدكاكين يمنة ويسرة تبدأ الدرج المؤدية إلى منزلنا صاعدة وقد رصت في انتظام بديع بحجارة ملساء يهبها انهمار المطر اللمعان.
"بدكاكين الساحة المتماثلة الحجم تعرض سلع مختلفة.. مواد غذائية وتوابل وألبسة تقليدية وجلود وأواني فخار. حوانيت من سلعها وسحنات أصحابها تجعلك تحس وكأنها تسافر بك لتحيلك على فضاء موغل في القدم لا يخترقه الزمن."
عندما تدخل الأم السجن بتهمة إدارة بيت دعارة تشفق الجارة "مما رحمة" على الطفلة فتنزلها في بيتها. يسيطر على الطفلة إعجاب بعلي الأخ الأصغر النبيل الخلق والقوي لماما رحمة الذي كان يزور أخته بين فترة وأخرى.
وصف الكاتب للحياة في الحي مؤثر موح يشكل حركة مستمرة وجدير بأن يتابع دون ملل. وبدا ان الكاتب يعوض بذلك وبنجاح عن عدم بروز " أحداث كبيرة" في الرواية. ولعل هذا العالم الصغير لا يمكن إلا أن تكون أحداثه في "حجمه" من الناحية "المادية" لكنها إذا قيست إنسانيا فهي كبيرة دون شك.
نقرأ مع الكاتب بلسان الفتاة ما قد تكون ذاكرته قد حملته من عالم طفولته هو نفسه "يزداد شغبنا ونهرول نحن الأطفال يوم الجمعة لاستقبال شيخ ومريدي حينا. ويبدأ الترقب في الجهة السفلى من المقبرة. على ضفة الوادي صارت تلوح لنا معالم الموكب. غبار يتطاير وصدى دقات طبول تسايرها نغمات المزمار. ينجلي الموكب ونقترب منه في وجل واحترام. حصان قوي ابيض بغرة سوداء تتدلى على عنقه خصلات شعر فضية تزيده جمالا يمتطيه رجل ذو وجه صبوح تكسوه لحية بيضاء طويلة وعينان ساهمتان واضحتا المقلتين يزيدهما الكحل نضارة."
وحتى نهاية الرواية يستمر ذلك الخيط الوجداني الحزين الجذاب الحافل بالصور والمشاعر التي تشبه قصيدة حزينة مشكلا لوحة نهائية بعد لوحات ولوحات تروي حكايات متداخلة لتكوّن مجموعة قصص لناس هم في النهاية عالم صغير وهم في النهاية "الرواية" كلها. وتبدو الصور أحيانا اقرب إلى لوحات "مجانية" جميلة.. ومجانيتها هنا هي أنها اقرب إلى أن تخلق في حد ذاتها متعة يغمرها أسى شفاف دون أن تكون جزءا أساسيا ضروريا من رواية متماسكة.
تصف عليا في معركته "الادونيسية" مع الخنازير البرية الشرسة التي تهاجم حقول الذرة وبعدها خيبته اثر رفضها الزواج منه وبعد خيبته الكبرى بالفتاة "حبيبة" التي تزوجها فلم تكن وفية فهربت مع آخر وأدى صدام معه و"بلطجية" من رفقائه إلى إصابة علي بعطب شديد.
في الختام قد تخطر في بال القارئ هنا قضايا كبيرة وشهداء فيتذكر مثلا قول الشاعر السوري الكبير الراحل عمر أبي ريشة.. "تجهل الأمة ان أرخت على/ جرح ماضيها كثيف الحجب/ شرف الوثبة أن ترضي العلى/ غلب الواثب أم لم يغلب."
ففي "رمزية" قد تكون ابعد من عالم الحيوانات والبلطجية العاديين لتتناول قضايا مفجعة في عالمنا العربي الحالي تقول الفتاة "غدروك يا علي. شطبوا وجهك وأسفل بطنك بسكاكينهم. أهدروا صحتك ووسامتك. أليست الخنازير البرية أرحم من هؤلاء القذرة. على الأقل واجهتك بشجاعة ولم تغدر بك... أعماك الوهم يا علي. وهم الغيرة والعرض وحمل القضية. لملم جراحك بيديك الآن وانظر لوجهك بشجاعة لا تنتهي. لا تخجل. انظر في المرآة وشاهد كيف أن ملامح صفائك لم تمح ولم تختف. لم تتشوه يا علي. كل المرايا كاذبة. مرآتك أنت الصادقة مرآتك الوحيدة نفسك. لا تيأس فخلف كل القضايا ضحايا..."
  طنجة الأدبية (2008-01-10)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

رواية

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia