لا رغبـة-زكي شيرخان
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

لا رغبـة

  زكي شيرخان    

وهو خلف مقود السيارة، كان من ناحية ينازع رغبة في إسكات المذياع الذي يشدو بأغنيات فيروز تذيعها محطات كثيرة في الصباح منذ عقود طويلة من زمن تغير فيه كل شيء إلا إذاعة أغنيات وكأن ليس هناك غيرها، ومن ناحية أخرى ينازع واجباً فرضه على نفسه ألا وهو تلاوة أذكار هي الأخرى لم تتغير عبر فترة زمنية طالت بأكثر مما يجب.
ود لو اجتاحته رغبة في التمرد. افتعل رغبة، ومد يده إلى مفتاح المذياع. تردد هنيهة، وبدل غلقه حوّل اتجاه أصابعه إلى محوّل الموجات فضغط عليه. سمع عبارة "MUSIC FROM EVERY WHERE" ثم تبعتها عبارة "NON STOP    MUSIC" إذن هي الـ FM. قرف منها مثلما قرف من فيروز وهي تردد "سْهارْ بعد سْهارْ". مد يده ثانية نحو مفتاح الغلق، وبدل غلقه، أداره نحو اليسار ليصبح الصوت واطئاً إلى درجة إنه لم يعد يميز بين أصوات المغنين وأصوات الآلات الموسيقية، وبدأ بفرضه اليومي في ذكر الأوراد وبدون رغبة.
دار في رأسه سؤال، هل حقاً إنه راغب في شيء ما؟ لم يجد إلا ما يعتقد إنها رغبة، وإن كان غير متأكد من ذلك. يريد أن يصبح ثرياً جداً، وغب الانتهاء من أوراده يسأل ربه أن يغنيه. هو يردد هذه الأذكار كلما جلس خلف مقود السيارة، لأنها فرصته الوحيدة في التلاوة. إذن هذه أيضاً أصبحت عادة. ترى كيف يمكنه أن يقود السيارة بكل ما تحتاجه القيادة من تركيز وانتباه ودقة ملاحظة وفي نفس الوقت يركز على الآيات التي يتلوها حتى لا يخطأ؟ هو يعتقد بأنه إذا تنبّه إلى ما يتلوه فإنه سيكون ربه أقرب أليه، ويكون ربه أكثر رضاً عنه. وربما أعتقد بأنه سيكون أكثر استجابة لدعواته. تنبّه إلى شيء، ربما لأول مرة، متسائلاً، هل يمكن للإنسان أن يفكر بموضوعين في آن واحد؟ أو هل يستطيع أن يوجه انتباهه إلى شيئين في آن واحد؟ هو لا يعتقد ذلك. إذن كيف يقود في مثل هذه الفوضى المرورية، وعدم الالتزام بالإشارات الضوئية ويتلو في سره هذه السور؟ لا بد أن يتنقل انتباهه بين القيادة والتلاوة. هو التفسير الوحيد الذي وجده.
عاد إلى رغبته في أن يصبح غنياً بلا حدود وثرياً جداً. لماذا هذه الرغبة؟ وسرعان ما حضر الجواب هازئاً من التساؤل. إنه الظن منه بأن الثراء هو الحل الوحيد ربما لجميع مشاكله. هو يظن، وتكاد هذه الفكرة أن تكون مسيطرة عليه تماماً، إن ثراؤه سيمكّنه من العيش بسعادة لم يعد يذكر طعمها. أما ما يجره الثراء من تبعات فلا داعي بأن يمنحها حتى أقل جهد من التفكير.
سابقاً، كان عندما يخطو خطوة يحسب كل التوقعات مهيئاً نفسه لها، لكن في ظل الظروف العامة، لم يعد للحسابات ولا للتوقعات مكان في الحياة. أختلط التوقع المبني على معطيات معينة مع الأماني المبنية على الرغبات والعواطف. هل هو خطأ منه أو تبرير لاخفاقات متتالية عندما يعتقد بأن الظروف هي التي تتحكم بكل شيء بعد أن كان الإنسان يتحكم، إلى حد كبير، بكل شيء؟!
مر وقت لا بأس به على مسيره منذ خروجه من الدار دون أن يستأجره أحد. ما زال في دوامة (فيروز) و(الرغبة). وجرّته (الرغبة) ثانية، ليطرح سؤالاً عن حقيقة طالما أقلقته، "هل هو فعلا متمسك بأهداب الدين؟" بمعنى آخر "هو مؤدي للتكاليف المفروضة من الله برغبة صادقة صدوقة"، أم ترى إن الإحباط الذي أفقده الرغبة أدت به أن يمارس الطقوس ليوضع في قائمة المتدينين؟
هو لا رغبة له في إتيان المعاصي. لا رغبة له في طعام أو شراب. لا رغبة له باختصار بالحياة في جملتها. إذن هو ليس أنساناً ذا رغبات يُثاب على الصمود أمام اغراءاتها. إنه في الفترة الأخيرة حتى طقوس عباداته لم يعد يؤديها برغبة، فهل إنه لن يُجزى على أداء فرائض، آمن كما آمن الملايين بأنهم، يجب أن يؤدوها لأنهم آمنوا بصحتها؟
ود لو به رغبة لعمل أي شيء. هذه هي المرة الأولى التي يعرف إنه إنسان بلا رغبات. واستكمالاً لهذا الحوار الداخلي الذي بدأه مع نفسه، تسائل، "منذ متى يا ترى فقد رغباته؟" إنه عاجز عن الإجابة، لأنه لم يكن يعرف تماماً إنه كذلك، بالرغم من أنه أحس خلال الفترة الماضية بتغير ما طرأ عليه. أراد تحديد هذه (الفترة الماضية) هل هي أسابيع، أشهر، سنوات؟ لم يستطع أن يجد جواباً. ولكنه ظن إن التغير الذي طرأ عليه ربما يكون نتيجة الظروف العامة التي مر بها المكان الذي يعيش فيه، والناس اللذين يعيش معهم، ويعاني من ثقل الغربة عنهم.
عاد ثانية إلى ما توصل إليه من (فقدان الرغبة بالحياة)، وسأل نفسه، "هل يتمنى الموت؟" حقيقة لا يعرف، ولكنه ظن إن الإجابة هي اقرب ما تكون إلى (نعم). هل تراه يأثم لأنه يتمنى الموت؟ هكذا يُقال. لا يعرف الحكمة من عدم تمني الموت إلا إذا خُشي من الفتنة في الدين، أو ليس ما نمر به هو الفتنة بعينها؟
ظل معظم ساعات نهاره يشغل باله هذا الموضوع، به رغبة أن يُسجل كل هذا الحوار الذي دار في داخله، وأن يقرأه أحد ما، واحد قريب من نفسه، يثق به، أو يحبه، أو… ها هو ذا (يرغب). أخيراً شعر بـ (رغبة)، إذن فليحققها. سرعان ما ركن سيارته عند أقرب مقهى صادفته. اشترى عدة أوراق وقلم من محل قرب المقهى. دخلها متخذاً مكاناً قصياً. عاد ثانية إلى رفيقي عمره الطويل في الوظيفة، القلم والورق. بين الثلاثة أُلفة امتدت سنوات تقرب من عقود خمسة قضاها ما بين المدارس والوظيفة. إنه يحترمهما أكثر مما يحترم الكثير من رموز مرت عليه عبر مراحل عمره الطويل.
ترى لمن يكتب؟ ليس في ذهنه إلا شخص واحد يمكن أن يراسله، أو بالأحرى يمكن أن يتحمل منه، مكرهاً، الكثير من أنانيته. لماذا عليه أن يكتب؟ ولماذا يحمّل الآخرين همومه التي يسطرها على الورق؟ لو ظل يفكر بهذه الطريقة لخلق رويداً رويداً مبررات وأد رغبته التي عثر عليها في كومة من اليأس والقنوط. إذن عليه أن يكتب حتى لو لم يقرأ أحد ما يسطره قلمه. ثم بدأ يكتب:
عزيزتي …
أرجو أن تتحملي قرفي وتقرئي هذه الأسطر الني ابعثها إليك وأرجو أن …



 
  زكي شيرخان (2015-01-02)
Partager

تعليقات:
محمد المهوض /المغرب 2015-01-02
شكرا جزيلا لزكي شيرخان
البريد الإلكتروني : lmhaoud1974@hotmail.com

محمد المهوض /المغرب 2015-01-02
شكرا جزيلا لزكي شيرخان
البريد الإلكتروني : lmhaoud1974@hotmail.com

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

لا رغبـة-زكي شيرخان

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia