أسراب الحمام الزاجل-حسين السنيد-بغداد-العراق
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

أسراب الحمام الزاجل

  حسين السنيد    

كوب من الشاي المهيل , وقطع من البسكويت كانت كافية للجدة لتبدء برنامجها اليومي , الذي لم ينقطع ولم يتغير الا ماندر طيلة السنين الماضية ,فقط حين كانت تمرض الجدة ولاتستطيع ان تقوم من فراشها.
حتى الجدة نفسها لم تعرف بالضبط منذ متى بدأت عادتها هذه , فقط تتذكر انها بدأت  منذ ان غادر المنزل آخر ابنائها , وهو ابنها الاصغر ,حيث ذهب  قاصدا الدراسة و لكن بعدها احب المكان والشمس والماء والفتيات هناك .ليبقى حيث راح.
تتذكر ايضا الجدة انها حين بدأت تعتاد على الجلوس امام النافذة كانت ماتزال في رأسها بعض الشعيرات العنيدة , يرفضن الاستسلام للعاصفة الثلجية التي اجتاحت رأسها كله.
كان هذا برنامج الجدة اليومي , تجلس امام النافذة منذ انبلاج الشمس و يبدأ مسلسلها اليومي المثيربمتابعة كل من يمر من امام نافذتها . فهي تعرف اصحاب المحال والجيران وابنائهم و حتى الاحفاد ,وشاركتهم افراحهم وبكت في احزانهم.  وراقبت اولاد الجيران منذ ايامهم واشهرهم الاولى .
بالواقع الجدة لم تكن تنظر فقط للمارة والناس العابرين من امام النافذة , ,انما كانت تحس بهم وتتفاعل معهم و حتى تقدم النصح لهم و تواسيهم وتمازحهم احيانا. ولكن دون ان يسمعوها ..كانت تتكلم بصوت منخفض.
بدى للجدة ان هذه النافذة هي مدخلها الوحيد لعالم الاحياء ,عالم التحرك والتغيير . هذا العالم الذي كانت عاجزة عن اقتحامه منذ ان كانت فتاة يافعة بنهدين متورمين وشفاه وردية بطعم التوت البري . الى ان وجدت نفسها ام لاولاد وبنات و تتحمل مسؤولية بيت واسرة , لتجد نفسها بعد ذلك غريبة في دارها . حين كانت تجلس امام النافذة تلك ,كانت تحس كانها سمكة زينة ذهبية اللون في دورق . لها  عالمها الخاص في الدورق ولكنها لاتستطيع ان تقتحم عالم آخر غير عالمها ابدا.
-    صباح الخير فوفو...
هكذا همست الجدة لفتاة خرجت من العمارة المقابلة . حاملة على ظهرها حقيبة المدرسة التي بدت ثقيلة جدا على كتفيها . في حين مايزال وجهها الناعس يحمل آثار النوم .
-    يا حبيبتي ... لماذا ماتزالين نعسانة ,عليك ان تنامي مبكرا يا ملاكي.
ابتسمت الجدة للفتاة .. اما الفتاة فلم ترى الجدة ابدا , ولم يسبق ان رأتها او انتبهت لها .ولكن الجدة كانت تعرف جيدا الفتاة و راقبتها من عامها الاول في المدرسة .  بل حتى كانت تعرف اثر الندبة  في رأسها حين ضربها اخوها بحجارة صغيرة قبل عامين.
-    اهلا اخي ..
 حيت الجدة , الرجل الاربعيني العبوس الذي ركب سيارته و فيما كان يتململ منزعجا.
-    كالعادة .. سجال مع زوجتك ..تذكر ان صراخ الابوين امام الاطفال يؤثر على نفسية الاطفال .هذه النصيحة اقدمها لك للمرة العاشرة.

لم يسمع الرجل هذه النصيحة , ولاسمعها في المرات العشر الماضية .

لم تكن الجدة مجنونة ابدا ..بالعكس ,كانت وجدت طريقة لافراغ احاسيسها الامومية والانثوية ,طريقتها الخاصة للاحتفاء بالحياة وماتلبث ان تجد ماتبقى من وجهها و قلبها موزعة على الناس . كانت تحب النافذة وتحب الشارع ايضا وحتى تعرف تماما الروائح المنبعثة من الشارع من دخان السيارات  و رائحة الخبز الطازج في الصباح الباكر . و كانت تتصور ان للسماء رائحة محددة وللمطر ايضا وللظهيرة ومابعدها روائح خاصة.ولصبح المدرسةو ابواق السيارات و الطيور و الفتيات و الاسفلت الحارق ايضا روائح خاصة .
وكانت تحبها كلها و تشعر بان الحياة تغمرها ,حين تغمرها تلك الروائح المختلفة.

-    اوووووووووووه يا مشاكس.
انتقلت الجدة بنظراتها نحو طفل في العاشرة من عمره ,بعيونه الحادة كالسيف , وشعره مجعد . لكن هذا الذي تسميه الجدة بالمشاكس ,كان يختلف عن كل الذين مرو بها منذ الصباح.
رفع المشاكس يده و اطلق ضحكة مجلجلة و صاح :
-     صباح الخير ..
ردت عليه الجدة برفع يدها له مسبوقة بابتسامة عريضة.
لمح المشاكس من بعيد ابتسامة الجدة ,التي كانت مختلفة تماما عن كل الابتسامات التي نراها يوميا ,فالجدة حين تبتسم لم تكن شفاهها تبتسم فقط ! كانت عيونها ووجناتها و حواجبها ورموشها و حتى انفها الذي يزداد رفعا ,كان يبدو انه يبتسم . الجدة كانت تبتسم بكل  اجزاء وجهها, فتمزج عدة ابتسامات في ابتسامة واحدة وتتطاير من بين حواجبها سرب من الحمام الزاجل .فكانت تشعر المقابل بانها سعيدة كل السعادة .

اما قصة المشاكس هذا ..فترجع لقبل 3 اعوام .يوم خرج في صباح شتائي ماطر ,ليصطدمه سائق دراجة مسرع اثر لحظة غفلة و انزلاق الطرق ,هرب راكب الدراجة بسرعة وضاع في الفروع الضيقة  و ترك المشاكس مغميا على حافة الطريق . كان الشارع فارغا والكل فضلت البقاء في بيوتها لغزارة المطر . فاطلقت الجدة صرختها المنقذة عبر النافذة و هرعت لتنزل السلالم من الطابق الرابع  .. و هكذا انقذت الجدة هذا المشاكس ,في يومها قالو الاطباء لو انهم تأخرو في ايصال الطفل لدقائق بسيطة لكان اليوم في عداد الاموات.

تناولت الجدة رشفة انيقة من الشاي المهيل .. وتذكرت شبابها, حينما رمقت فتاة  فاتنة تترنح في الشارع ,مستعرضة قوامها وانوثتها . طبعا لم تكن الجدة فاتنة جدا , ولكنها كانت جميلة في شبابها بشكل مقبول . اما هذه الفتاة الفاتنة فتعرفها الجدة جيدا . ومرات ومرات نصحتها بان تقلل من المستحضرات التجميلية والملبس الضيق الذي يعرض قوامها بشكل مثير . فالرجال يسترقونها النظر وويسمعونها كلام كانغام الموسيقى الكلاسيكية , ولكن لايرغبون ابدا بالزواج بها. قالتها الجدة مرات عديدة و لكنها فتاة عنيدة و مغترة بشبابها . ولن تستمع لاحد.
عضت الجدة شفاهها عضة خفيفة وبان الخجل على وجهها المجعد.

لم تكن الجدة ثرثارة ابدا ..بل كانت قليلة الكلام ,تتكلم حين الحاجة و وفق الحاجة فقط. ولم تسمح لاحد من الجيران او الاصدقاء القدمى الذيم كانو يتذكرونها بين فترات طويلة ,تصل لاشهر ان يبقو كثيرا في منزلها . فكانت تجد منزلها كبقعة مقدسة .او صومعة خاصة بها لايحق لاي كان ان يدنسها بمجرد وجوده فيها.

كم ارتاحت الجدة وابتسم وجهها (( بتلك الابتسامة التي سبق وان وضحناها)) حين مرت المرأة التي تسكن في الجهة المقابلة, حاملة طفلها الذي لم يبلغ شهره الاول بعد .

قالت الجدة : لفيه جيدا يا ابنتي .. و دفئيه بغطاء صوفي .الجو بارد جدا على طفل رضيع. وراحت تداعب الطفل و تناغيه.
ابتسم الطفل و حرك رأسه يمينا وشمالا وكأنه سمعها واحس بها.

هكذا بقت الجدة طول النهار , و حين اختفت الشمس خلف ابراج المدينة و بدأت السماء تتثاقل بالنجوم و فرغ الشارع من المارة ,الا المستطرقين الذين كانت الجدة لاتعرفهم.
نهضت الجدة من كرسيها و كانت تلف حول كتفها كنزة صوفية ,  وكانت تشعر بالنعاس الشديد والتعب . اتجهت نحو غرفة نومها تجر نفسها على الارض , لاحظت رسالة دست من الفتحة الضيقة اسفل الباب .
برقت عيناها فرحا .. كان  قد تاخر هذه المرة ابنها الاصغر في ارسال رسالة لها . الان وصلت تلك الرسالة .
فتحتها على عجالة , وضعت مناظرها التي كانت تعلقها بخيط على رقبتها ..
(( لتاخركم الكثير في دفع ديونكم الشهرية , ولعدم ردكم على انذاراتنا السابقة , تم مصادرة بيتكم لصالح المصرف وسيتم بيعه في مزاد علني وعليكم اخلاء الدار خلال 15 يوم))

العبارات اعلاه ,كانت كل ما تحتوي الرسالة ,بالاضافة الى الكثير من الاختام والطوابع.
 الكلمات نزلت ثقيلة على الجدة ,لم تستوعب ما مكتوب في الرسالة , فاعادت القرائة مرات عديدة , تأكدت من العنوان والاسم .كان كل شيئ صحيحا . بيتها كان هو الذي تم مصادرته ,وهو الذي سيباع عن قريب .
 
ربما تتوقع ايها القارئ الكريم ,ان الجدة انهارت ,او بكت , او اغمي عليها . ولكن في الواقع لم يحدث اي منها . هي ببساطة تنهدت . تنهدت فقط .ثم مزقت الرسالة و اكملت طريقها الى الغرفة.

في صباح اليوم التالي ,نهضت الجدة قبل الوقت المعتاد ,احضرت كوب الشاي وقطع البسكويت . ثم اجرت اتصالا هاتفيا ..
كانت الجدة تنتظر و عيونها تتقافز بقلق على كل اجزاء الغرفة ..
طالت الفترة الى ان رد عليها صوت بعيد ..

-    قل لولدي ان عليه ان يدفع القرض الذي اخذته له لاكمال دراسته..انهم يريدون ان يبيعون البيت.
رد عليها الصوت البعيد ,بانه سيبلغ ولدها باتصالها باقرب فرصة .و حين وضعت الجدة سماعة الهاتف . كانت النافذة والكرسي و الكثير من الاولاد والبنات .. الكثير ممن تحبهم وتهتم بهم بانتظارها.
جلست الجدة امام النافذة و كأنها تجلس على شرفة العالم . وسرعان ما بدأت تجامل هذا و تنصح ذك و تداعب هذه و تسأل عن تلك .
كانت الجدة تنتظر ان يتصل بها ابنها الاصغر .. تبدلت الثواني الانتظار الى دقائق ,والدقائق ساعات و الساعات تلتها ساعات اخر . ولكن لم يرن الهاتف وكأنه اسلم روحه ومات.
انتظرت الجدة ليومين كاملين ان يتصل بها ولدها الاصغر.,فاعادت الاتصال مرة اخرى بكثير من القلق .
لم يرد عليها احدا , ظلت ماسكة سماعة الهاتف وقدسرحت الى كل مكان ولامكان, كانت تشعر بانها تدق على باب فولاذي مغلق .
اتصلت الجدة في اليوم التالي ايضا .. وكررت اتصالها مساء من امام النافذة . والايام التالية ايضا اعادت الاتصال و لكن لااحد كان يرد.
انقضى الاسبوع الاول هكذا ..
في هذه الايام , تغيرت ابتسامة الجدة , فاصبحت تبتسم من خلال شفاهها فقط ولم تعد اسراب الحمام الزاجل تتطاير من بين حواجبها . حتى المشاكس احس بذلك وتعمد ان يطيل الوقوف امام نافذتها خلال فترات المساء .
وبعد يومين جلست الجدة بجوار الهاتف و اتصلت .. ضغطت على الازرار بهدوء وقوة . انتظرت ..وكانت تعد الثواني .. لم يرد عليها احد.. وضعت سماعة الهاتف و من فورها فصلت الهاتف من المصدر. قالت في نفسها : لا احتاجك بعد اليوم ..اذهب الى صمتك الابدي.

جلست الجدة امام النافذة , قامت بكل ما تقوم به يوميا , وكانت فرحة جدا بسبب حفل زفاف الذي كان يقام في احد البيوت القريبة . ارتفعت اصوات الموسيقى و الرقص و التصفيق والهلاهل . كانت الجدة تصفق معهم ,تغني معهم , وحتى هلهلت بصوت هادئ جدا.
وحين انتهى الحفل و طغى ظلام الليل ,وذهبو الكل الى بيوتهم . لم تذهب الجدة الى اي مكان . كانت ما تزال تجلس امام النافذة , على الرغم من ان لم يسبق لها ان بقت لهذا الوقت .
بدأت الاضواء في العمارات والبيوت و الشوارع تنطفئ واحدة واحدة .. ولكن ضوء بيت الجدة بقى مشتعلا .  وحين انطفأت اضواء المدينة كلها بقى ضوء بيت الجدة مشتعلا .
وكان هذا مستغربا , فكانت شوارع المدينة واعمدة الانارة وبعض مصادر الضوء تبقى مشتعلة حتى الصباح ..ولكن في تلك الليلة كل المصابيح شعرت بميل عجيب للانطفاء وكانت تشعر بان النعاس يدب فيها, فتنطفئ على الرغم من وجود التيار الكهربائي. اما تلك المصابيح التي كانت تعاند النوم  فتنفجر وتتشظى اوصالا تحت وطئة قوة عجيبة وهائلة . وهكذا كل المصابيح استسلمت للنوم العميق .الا مصباح واحد .وهو مصباح بيت الجدة . و كانت الجدة ماتزال تجلس امام النافذة وعيونها مفتوحة يرفضان الاستسلام.
توسط الليل , و احتل الظلام الثقيل كل مكان , وحتى السماء تخلت عن نجومها و فرشت نفسها دون تطريزة نجمية . فقط السواد .انبعث خيط من النور خابي البريق من مكان ما بالمدينة , شق المدينة و امتد الى السماء.خيط من نور ابيض يميل الى الاصفرار و اخذ يشتد بريقه في كل لحظة الى ان لم يعد احدا قادرا ابدا ان ينظر اليه بشكل مباشر .استمر خيط النوربالاتساع شيئا فشيئا الى ان صار عمودا من النور الساطع. واجتاح نوره المدينة كسيل عارم . و تسرب من خلال الفجوات الى الاماكن المظلمة و السراديب والغرف  . و حطم النوافذ المغلقة و اقتحم كل البيوت و الاماكن .
 شاهدو ركاب طائرة عابرة ,كانت تشق السماء ,المدينة المظلمة و  عمود النور الذي كان يسطع من نافذة صغيرة ,ليجتاح كل مكان . حاولو تصويرها ولكن تعطلت كاميراتهم . حاولو رسمها فرفضت الاقلام وتكسرت.
غمر عمود النور في لحظة المدينة كلها واغرقها , ضرب رؤوس العمارات  برمشة عين , لم يكن احدا قادرا ان يبقي عيونه مفتوحة ولكنهم احسو من خلال عيونهم المغلقة ,بان الاف الوجوه تتطاير في السماء مبعثرة وتنظر لهم بعيون قلقة .لم يستطع اي احد ان يصرخ , ولا ان يهرب او يركب عجلته ليفر مسرعا من موجة النورالعارمة.
 مالبث ان توارى عمود النور بعد ثواني معدودة  وربما دقائق وترك المدينة التي ملاء شوارعها الناس الذين راحو يصطدمون باحدهم الاخر دونما وعي و ينظرون بعيون سكرانة و يشهقون ويقهقهون ويبكون بعدها لاشعوريا   .  لم يستطع احدا ان يحدد مكان عمود النور الذي اصبح كلام الناس لاشهر وسنين لاحقة .. الا عيونا مشاكسة ظلت تحتفظ بهذا السر الى نفسها للابد.
حين الصباح تنفس.. طرقت باب البيت, وكانو يقفون خلف الباب رجال المصرف . ظلو يطرقون الباب طويلاولكن لم يفتح احدا  لهم الباب, فاجبرو على كسرها , وحين دخلو لم يجدو احدا ولم يجدو شيئا الا النافذة المفتوحة و كرسيا فارغا وكوبا من الشاي وقطع من البسكويت.
في الايام اللاحقة .. كان كل من يمر من امام النافذة, يشعر بالاف النظرات ترمقه و تتقافزعلى اكتافه . وصوتا يهمس بين اذنيه. ويرى ايضا سربا من الحمام الزاجل يدور فوق سماء البيت ويعانق الفضاءات اللامتناهية.



 
  حسين السنيد-بغداد-العراق (2015-01-07)
Partager

تعليقات:
د. جابر الدليمي /العراق 2015-01-14
من دون شك ..هذا الكاتب سيكون من كبار كتاب العرب .. لك تحياتي حسين السنيد
البريد الإلكتروني : jabeer_khamees@yahoo.com

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

أسراب الحمام الزاجل-حسين السنيد-بغداد-العراق

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia