اللغة بين السياسي والمثقف-يونس إمغران
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مساحة للنقاش

اللغة بين السياسي والمثقف

  يونس إمغران    

*** اللغة أداة أساسية للسياسي قبل المثقف.. ولكن بالرغم من ذلك فإن رجل السياسة نادرا ما يهتم بإتقان لغة ما نطقا وكتابة، أو أنه ليس حريصا بما يكفي على هذا الإتقان، لأن اللغة المتقنة أو الرصينة أو المبدعة ليست هدفا له، بقدر ما هي – مجرد – وسيلة لإنجاز طموحه في بلوغ مراميه المتمثلة في تحقيق مصالحه المختلفة السياسية والمادية. إن اللغة عند السياسي ذات وظيفة لا تخرج عن هدف تحقيق المصلحة ذاتية كانت أو موضوعية.
      لذلك من الخطإ على أي مراقب أن يعيب على السياسي ركاكته اللغوية، أو كثرة سقوطه في لحن الكلمات بكسر الفاعل، أو نصب المجرور، أو رفع المفعول به. ولكن ينظر إلى براعته في الدفاع عن مصلحته، أو إلى كيفية كشفه عن مبدئه الإيديولوجي وطريقة  الاعتزاز به، أو إلى بذل جهده اللغوي – رغم ضعفه وهشاشته – في اتجاه التعبير عن تطلعاته السياسية وأهدافه المصلحية.
      فالسياسي يمتاز عن غيره بانفتاحه على الإنسان والمحيط والعالم، بل وعلى الزمن.. أي أنه مجتهد في فهم المعقول واللامعقول في السياسة والاجتماع والعمران. وعنيد في اقتفاء دلالات المفاهيم والتشريعات والمناهج المرتبطة بالمصالح، وحركية المجتمع، وسيرورة الحياة.. ببعده عن استحضار أي لغة متينة في لحمتها، سواء كانت جاهلية قديمة أو غربية حديثة. بمعنى أن السياسي رجل واقعي بامتياز؛ يشعرك بأنه لا يبدع في اللغة بقدر ما يبدع في تحقيق المصلحة لحزبه أو حكومته أو دولته. ومن ثمة؛ فإن أهم ما يلاحظه المتتبع في لغة السياسي؛ هي أنها بسيطة، وغير معقدة، ولا صلة لها بالتكلف أو التصنع.. كما أنها لغة متربة، طينية، لصيقة بهموم المواطن في سذاجته وقلة فهمه، ومرتبطة بأحلامه وتطلعاته الصغيرة والكبيرة، الصعبة والممكنة.   
       بينما المثقف يختلف جذريا عن السياسي في اعتنائه باللغة، بحرصه على أن تكون لغته أنيقة ومتألقة، بل ومبدعة؛ حركة وصوتا وصورة. ذلك أن المثقف قد يفقد سلطته المعرفية وتأثيره الثقافي إذا ما كانت لغته هشة، ومكسرة، ومعطوبة، وذات رضوض وأعراض مرضية من لحن وشذوذ وغرابة.
      لذلك فإن وظيفة لغته تكاد تنحصر في تحقيق الإشادة بها، والإقبال عليها، والاعتراف بقدرتها على النفاذ والتأثير والتغيير في بعض الأحيان.. أي هي كما يقول العالم للغوي أزفالد ديكرو "نحن نتكلم عامة بقصد التأثير" . فلغة المثقف تحمل بصفة ذاتية وموضوعية وظيفة ما، قد تكون إبداعية، وقد تكون إنسانية ضد الحروب والعنف والظلم، وقد تكون من أجل تحقيق المتعة الفنية والنفسية والروحية لمتلقيها.
      إن اللغة عموما، عند السياسي والمثقف معا، كائن غير جامد، ووعاء غير فارغ، وحركة غير صامتة. بل هي ثابتة ومتغيرة.. قوية ومؤثرة.. مفعمة بالحيوية الإيديولوجية والمرونة السياسية.. بريئة ومذنبة في ما تحمله من ذاتية وجوهر.. ذات هوية حضارية سالبة وموجبة.. أي أن اللغة غير معزولة عن واقعها الذي تتفاعل فيه ومعه، وغير بريئة باعتبارها خطابا طبيعيا يصدر عن النفوس الأمارة بالسوء، أو تطلق رسائله الأرواح الراضية المطمئنة. فاللغة الفرنسية على سبيل المثال في الذهنية العربية، وخاصة المغاربية؛ هي جماع تاريخ من الاستعمار والقتل وسرقة خيرات البلدان.. كما أنها بالنسبة لتراث الإنسانية الفكري جماع أدب وفن وفلسفة وحضارة.. كذلك الإنجليزية بالنسبة لمصر والهند.. والروسية بالنسبة لليابان، والعبرية للفلسطينيين والأردنيين والسوريين الجولانيين.. لكن المؤكد هو أن هذه اللغة بحجاجها وفلسفتها، تختلف من السياسي إلى المثقف إلى الفلاح إلى المواطن الأمي البسيط.. وهي بذلك لغات متعددة لا لغة واحدة.  



 
  يونس إمغران (2015-03-05)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

اللغة بين السياسي والمثقف-يونس إمغران

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia