تصطك أسنانه من شدة البرد، يحاول الطفل أحمد بشق الأنفس الوقوف، وبخطوات متثاقلة يكاد يصل بها إلى الباب وذلك بفعل كثرة الملابس التي قد أرغمته أمه بارتدائها تفاديا لنزلة برد محتملة لا سبيل لمعالجته منها في هذه القرية النائية التي قد عزلت عن عالم هذا الوطن إلا من هوائه النقي والبارد، تخطى بكل ثقة وحيوية تخوم جبال الأطلس الكبير، وما جادت به شمسه من أشعة لم يقدر أحد منهم على كسرها، حرارة دون الصفر، يصعب تحملها.
يفتح الباب تتشنج عضلات وجهه بفعل زمهرير لا يطاق، فيتسرب الصقيع إلى قاع الكوخ حيث تجلس الأم بجوار فرن الخشب التقليدي الذي يستعمل لطهي الطعام والخبز والتدفئة، تأمره فورا بإغلاقه حتى لا يتسرب البرد لأخيه الصغير الغارق في النوم مغطى بأغطية بالية تعود لسنوات مضت، يرجع أحمد إلى جوار أمه وعيناه اغرورقا دمعا، تسأله أمه ما بك؟
- يجيبها بسؤال يتكرر مند أكثر من شهر، أريد الذهاب إلى المدرسة؟
- فتجيبه جوابا يُردد على ألسنة ساكنة المنطقة قاطبة كلما حل موسم الثلج: الطرق غير سالكة والمدرسة مغلقة بفعل غياب المعلمين الذين منعهم تساقط الثلج من تسلق الجبال والوصول إلى القرية.
- وأين أبي؟
- تنهدت تنهدا شديدا وزفرت زفيرا أطفأ جزء من نار الفرن وأجابت وعيونها تدمع: أبوك لا نعلم عليه أي خبر مند أن غادر كعادته إلى المدينة ليجلب لكم لقمة العيش لكن هذا العام طال غيابه، وليس من عادته أن يغيب عنا في أيام الثلج، ربما وقع له مكروه ونحن عنه غافلون.
- أجابها ببراءته: أبي سيعود وسيجلب معه الأدوية لأخي الصغير وملابس جديدة ودافئة أفضل مما نرتدي الآن، أبي سيعود بعد ذوبان الثلوج وفتح الطريق وعودة الحياة الطبيعية لقريتنا ومعه النقود لشراء حطب التدفئة، أبي سيعود ونفرح ونسعد وندفأ، أليس كذلك يا أمي؟
- وبعينين محمرتين من شدة البكاء والتأثر بكلام الطفل الذي يتحدث وكأنه شيخ وليس طفل، نسي الألعاب ومذاق الحلويات.
غابت الأم بعقلها في الخيال وتركت الطفل يحلم فتذكرت أيام الربيع الزاهية والأطفال يلعبون ويمرحون دون توقف طول النهار والمواشي بخير أما الزوج فيعود من المدينة كل شهر أو شهرين محمل بوابل من المأكولات والمؤن والملابس، واليوم لا أكل يكبح جماح جوع الأطفال المتواصل إلا ما طبخت من فول أو حمص أو عدس، أطراف أطفالها تشققت حتى سال منهم الدم ولم يعد يجدي معهم نفعا خليط الشمع المذاب وزيت الزيتون، حطب التدفئة أوشك على الفناء وإذا لم تتحسن الظروف وتفتح الطرق خلال أسبوع أو أسبوعين سنحسب في عداد المفقودين،
أحس الطفل بالملل الشديد وعدم اكتراث الأم بكلامه فأشعل جهاز التلفاز الذي يشتغل بالطاقة الشمسية لمدة ساعتين في اليوم على موعد أحوال الطقس:
- مذيع النشرة يقول: "لا زالت أفواج الأوربيين تتوافد على مطار مراكش المنارة وكلها شوق ورغبة في الاستمتاع بثلوج جبال الأطلس الكبير، ولله الحمد أن الثلوج لازالت في تهاطل وستستمر إن شاء الله لأشهر أخرى ببلادنا".