عودة الأنوار-محمد بقوح
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

عودة الأنوار

(..مدينة الدشيرة تغيرت كثيرا، ولم تعد كما كانت في سنوات خلت..صامتة.. هادئة وخضراء..).هذا ما فكر فيه، وهو في طريقه إلى "المارشي".. ثم تدارك.. (هذا أمر طبيعي..التطور والتغير سنة الحياة). لكن رغم هذا التغير السريع الذي عرفته مدينته، فهي لم تفقد جماليتها المنبعثة من رائحة الدكاكين الصغيرة الموجودة على جانبي الطريق الرئيسي.. والسنوات الطويلة والصعبة، في كثير من الأحيان، لم تنل من شوارعها.. وجدرانها.. وكذلك من بعض أشخاصها..، إلا بصورة أقل مما كان يتصور قبل أن يجمع لوازمه في حقيبته، في بلاد الأنوار كما يسميها : بلاد الغربة والعجب، ويعود متلهفا حتى النخاع، إلى وطنه وبلدته..، لكن كما سافر منها، من مدينته، في ذلك اليوم المشئوم، يعود إليها خاوي الوفاض.. هذه المدينة التي كانت في ذلك الزمن الغابر عبارة عن قرية غارقة في بدويتها، تتخللها حقول فلاحية، وتخترقها السواقي الجارية والباردة..، حيث تعلم الدروس الأولى للسباحة، مع ثلة من رفاقه المشاغبين آنذاك..، قبل أن يكتشف أمواج البحر الواسعة.. بعملية الأوتوستوب..

لحسن حظه يملك اليوم دراجة هوائية، لا يوجد في حيه أصلب منها..رحم الله أباه الحاج الحسن التاجر، الذي زار الديار المقدسة مشيا على الأقدام، وعندما رجع من بلاد الحج..، لم يرجع خاوي الوفاض، كما رجع الآن ابنه البكر السيد عمر، وبعد "مضي سنتين بالتمام والكمال – يحكي لحجام الحومة – (استطاع المرحوم أبي أن يجمع ثروة كبيرة، وأن يبدأ حياة تجارية نشيطة نال منها أرباحا لا تحصى.. لكن أين هو العقل؟؟ لو فكر جيدا في ذلك الزمن..لاشترى الدشيرة بترابها وحقولها وبنواعرها وأشجارها وطيورها، هذه التي لم يعد لها وجود اليوم، في حياة هذه المدينة المليئة بالضجيج والثرثرة..).

نزل من دراجته بحذر شديد، ثم أسندها بلطف إلى قضيب فولاذي مشدود إلى الأرض في الجانبين.. الحركة في السوق، ككل يوم، تكاد لا تتوقف..، ازدحام الأجساد عند مدخل الباب الوحيد لهذا السوق في المنطقة.العربات هنا وهناك تبحث عن القوت بأية وسيلة.
وضع السيد عمر- هذا هو الإسم الذي عرف به في حيه منذ عودته غير المتوقعة - القفل الأول حول العجلة الأمامية، بحيث أحكم ربطها بالقضيب الحديدي، في حين وضع القفل الثاني حول العجلة الخلفية، التي يعتبرها صاحبنا أهم جزء في الدراجة " لأنه هو الذي يتحمل ثقل الجسد كله ".

إذا بدأ يحدثك عن عالم الدراجات والسباقات التي فاز فيها، قبل أن يسافر، أو خلال السنوات الأولى التي قضاها هناك، في ديار الروم – كما يسميها - وكذلك الأخرى التي فشل في كسبها أيام عنفوان الشباب – كما يقول – فاعلم أنه لن يسكت إلا بعد سماعه للآذان الموالي.. و كثيرا ما كان يجمع حوله الراغب في تحليق الشعر، والقاطن بالقرب من الحجام الحسين، خاصة منهم المسنين الذين يكونون، في وقت من الأوقات، قد ملوا من لعبة "الضاما"، وعندما يسمعون لصوت السيد عمر يتدفق، كشلال ضائع يخترق أجواء فضاء "الدكان"، ينهض أحدهم فيقول للمتحلقين حول رقعة "الضاما": (توقفوا عن اللعب، لقد حان وقت الاستماع لمذياع الدشيرة..). فيبدأ الصبي الذي يساعد الحجام في جمع "بيادق الضاما"، ليضعها داخل علبة من خشب الأركان، فيخرج الجميع منشرحا من الغرفة الضيقة، المخصصة أصلا للعب وتدخين "الشقوفا"..، وشرب كؤوس الشاي "المشحر"..، لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة في يوم عادي وقديم.. الجميع يعرف نهايته كيف ستكون... حديث وحكي، ثم حكايات.. وضحك فتعليق، و أحيانا نقاش فجدل حول موضوع أقل من تافه.. ثم ضحك فضحك.. فسخرية ثم إغراق في الضحك..، وأحيانا يسمع التصفيق.. فيعود صاحبنا في نهاية المساء على متن دراجته ذات الإطار المعدني الصلب، هذه الدراجة التي لا يعرف إلا بها في دروب حيه.. و"قفة" أغراض "المارشي" خلفه، في ما يشبه صندوق خشبي عميق، ربما لن تجد نسخة منه في جميع الأسواق، ولدى كل الحرفيين مهما صلت وجلت....صندوق مصمم خصيصا لدراجته وحمل أغراضه..هو دون غيره..

و حين يصل صاحبنا إلى رأس "الدريبة"، ينزل من دراجته، التي لا لون لها سوى لونه هو، على بعد العشرات من الأمتار من حيث يقيم. يمشي واثقا من نفسه كالجمل، ليقول مؤكدا للجميع أنه ما يزال قويا.. وسيعيش أكثر من هذا الشباب الطائش، والذي لم يذق طعم الحياة الحقيقية... لسوء حظه..غش..، ومسخ.. وتزوير.. وهلما جرا..يجد نفسه مارا وسط حشد من أطفال الحي، الذين يلعبون بكرة صغيرة، وعندما يشعرون به قادما، يكفون عن اللعب، ويتقدمهم الأشطر منهم، فيحاول استفزاز حفيظة السيد عمر.. الذي هو في الأصل لا يحتك بالأطفال، ولم يسبق له أن فكر في أن يتزوج، رغم أنه تجاوز الستين في عمره..
- إه.. مسيو عمر..كيف حالك.. أعطني دراجتك أجربها، وأعطيك هذه الكرة..
وقبل أن يجيب صاحبنا الصبي المشاكس، يتابع صبي آخر ما قال رفيقه بنوع من السخرية الواضحة.
- واهلي..اطلب من مسيو عمر أن يعطيك عينه الثانية، ولا تحدثه عن دراجته، التي ورثها عن أبيه..إنها قرة عينه..
وقبل أن ينهي الصبي كلامه، يدع صاحبنا دراجته تسقط على قارعة الطريق المزفت، دون شعور منه، ويجري كالحصان وبشكل طفولي، مطاردا الأطفال الذين أغضبوه باستفزازهم لمشاعره... وكثيرا ما تكرر مشهد سقوطه على الرصيف كلما هم بالجري وراء صبيان الحي، للقبض ولو على الواحد منهم لمعاقبته.. لكن يكون جريه دائما بدون جدوى. .ليعود إلى مكان وقوع الدراجة مزمجرا وغاضبا، لكن رأسه مرفوعة إلى فوق. فيحمل برفق دراجته وهو يشتمهم ويسب "طاسلتهم" محملا مسئولية ما وقع لآبائهم قائلا :"ينجبون كالأرانب دون السهر على تربيتهم".
يمضي السيد عمر إلى حال سبيله، ويده اليمنى ممسكة بمقود الدراجة الغريب في شكله، والذي يسبب له الكثير من المتاعب مع الناس، وخاصة الصبيان.."لأنه مقود مثير للسخرية والضحك في نفس الوقت "، كما قال أحد جلساءه ذات يوم (..مقود شبيه بقرني كبش مسن..).

هذه الدراجة في الحقيقة تمثل الإرث الوحيد – ويسميه السيد عمر الكنز الثمين – الذي انتقل إليه من أبيه، الحاج الحسين، الذي أفلست تجارته في آخر أيامه. أما ابنه الوحيد عمر فقد كان حينئذ كالنحلة..، يستمتع بزهرات زينة الحياة، وكان مولعا أكثر بالنساء الشقراوات والأنواع الغالية من النبيذ الأحمر..و لعبة اللوطو، التي أنهت مع ما تبقى من أجنحته الطويلة وقوة فحولته الشبابية.. حتى في موت أبيه لم يمهله الزمن لمصافحته وتوديعه.. ولا حتى حضور جنازته. أزيد من أربعين سنة قضاها متسكعا ومستمتعا بسحر وجمال وبهاء وعبقرية العالم الغربي.. عالم الدهشة والأنوار.. حسب تعبيره، إلا أنه بقي أمام هذا العالم، منذ وصوله في أول يوم إلى باريس، وحتى اليوم الذي لفظته حروف أهرامها الزجاجية.. عاريا حتى من اسمه وهويته..، بقي مشدودا ومستغربا ومندهشا..أمام ما رأت عيناه، وما سمعت أذناه، وما ذاق لسانه، وما لمست يداه من أجساد وأشياء..و هلم جرا.
وعندما عاد....عاد منكسرا ومنهارا. وكأنه طعنته يد الزمن من خلف ظهره.. عمر كامل مر مرور البرق دون أن يحافظ له ولو على ماء وجهه ولا احترام أطفال حيه ومدينته.. كمن كان ميتا وعادت إليه الحياة فجأة..، لكنها حياة بذوق مر.. أو كمن كان حيا داخل قبر حلم، استيقظ منه بلا توقع، لكن يقظته تلك كانت متأخرة جدا، إنها أشبه بحياة ديدان التراب..



 
  محمد بقوح (2008-01-14)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

عودة الأنوار-محمد بقوح

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia