الحذاء-جواد أمهمول
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

الحذاء

  جواد أمهمول    

أيقضته ككل صباح أصوات الأطفال و هم متوجهون إلى المدرسة. كان يلعنهم كل صباح سرا و علانية و في بعض الأحيان يغادر بيته و يتعقبهم ثم يلقي القبض على أحدهم و يشبعه ضربا و هو يقول:


- ألا تستطيع أن تمشي و أنت صامت يا ابن القح...


ظل مستلقيا على سريره يتأمل الآثار التي خلفها تسرب الماء من سقف بيته القصديري. أمطرت السماء هذه السنة بسخاء على غير عادتها. كان يكره الجو الماطر لأنه يحول "براكته"  إلى مكان آسن لا يمكن العيش فيه.


 كانت الفوضى تعم المكان و رائحة التحلل و العفن تجعل التنفس أمرا صعبا.


ألقى بالغطاء جانبا و نظر إلى أكبر أصابع رجله اليمنى الذي كان يطل عليه من ثقب كبير في جرابه. ليس من عادته ارتداء جوارب ليلا. كان يكره ذلك .يمنعه من النوم. يحس بالاختناق يصعد من قدميه ليعم كافة جسده. لكن الطقس البارد اضطره كما اضطر الكثيرين، بدون شك، إلى تغيير بعض عاداته النومية. 


مد يده تحت السرير و أخرج علبة حديدية صغيرة، شبيهة بعلب الشوكلاطة. تأملها قليلا و ابتسم. ثم انتزع غطاءها. أدخل يده في كنفها و أخرج منها بعض الأوراق و القطع النقدية. تلمسهم، غرس أنفه فيهم ليشم رائحتهم ثم أعادهم إلى مكانهم الأصلي و أقفل العلبة بإحكام.


غادر فراشه و قصد ذلك الركن الذي حوله إلى ما يشبه حماما. رش على وجهه بعض الماء ثم عاد إلى غرفته.


أخذ ينظر في اتجاه مائدة صغيرة و يبحث بين الكؤوس و فضلات الأكل المتناثرة فوقها عن علبة السجائر. ثم توقف عن البحث حين تذكر بأنه دخن السيجارة الأخيرة قبل أن ينام، بعد أن قام، بعد النقود التي يخبأها في العلبة الحديدية. 


تناول الإبريق و قام بتحريكه لمعرفة ما إذا كان لا يزال فيه بعض الشاي، ثم وضعه فوق قنينة الغاز و قام بإشعالها. إستغل الفرصة ليقوم ببعض الحركات الرياضية للتخلص من الكسل الذي يلازمه كل صباح ثم تقدم نحو النافذة. فتحها على مصراعيها و أخرج رأسه منها ثم قال:


-المعطي أعطيني كارو .


مد يده ليتلقف السيجارة ثم عاد إلى داخل الغرفة. أشعلها و صب الشاي في كأس لم يكلف نفسه عناء تنظيفها. 


جلس فوق سريره و أخذ يدخن بعمق و هو يحتسي الشاي الذي قام بتسخينه. و بدأ يفكر فيما سيفعله نهاية الأسبوع بتلك المبالغ التي تمكن من جمعها بعد جهد جهيد.


قصة تلك العلبة تعود إلى تسعة أشهر.


حين تذكرها تذكر تلك اللحظة التي تأملت فيها حذاءه القذر بازدراء و ذلك السؤال الذي ظل صداه المتعجرف يتردد في رأسه رافضا الرضوخ للصمت طوال تلك المدة: "ألم تنظر إلى حدائك؟". 


لم يستوعب لحظتها مغزى ذلك السؤال. بقي مسمرا في مكانه بين أكوام الملابس الداخلية و على وجهه نفس الابتسامة البليدة التي اعتاد الكثير من الرجال وضعها فوق وجوههم كلما تحدثوا إلى امرأة للمرة الأولى و كأنها أداة إغراء لا يمكن الاستعاضة عنها بغيرها.


انصرفت هي بخطوات متعجرفة مثلها و هي تتأفف ضيقا. كانت ترتدي سروالا أسودا يبرز أردافها الضخمة و قميصا ضيقا يوهمك بأن ثدييها برتقالتين شهيتين يبعثان في نفسك رغبة جامحة لقطفهما. 


كل ذلك كان مجرد خدعة هندامية. لكنه لم يكن يعرف. لم تتح له الفرصة من قبل لمعاشرة فتاة مثلها و التأكد من أن ما ترتديه الأنثى يوهم الذكر بأشياء لا يجدها في اللحظات الحميمة. حينها فقط تبدو الأطراف على حقيقتها. تنهار الأرداف و كأن تربتهما تعرضت لانجراف شديد و تذبل البرتقالتان على حين غرة.


كل النساء التي عاشرهن من قبل كن يرتدين جلبابا واسعا لأنهن كن في معظمهن سمينات. 


لم يكن يحب القصص الطويلة التي تبدأ بنظرة فابتسامة و التي قد تنتهي بعد شهور من المواعيد و اللقاءات و الكلام العذب و التغزل بعناق أو حفنة قبل لا غير. كان يرى في ذلك إهدارا للجهد و الوقت بدون أدنى مبرر.


كان يفضل العاهرات. معهن الأمر مختلف تماما. فهن لا يجبرنك على الكلام أو التغزل بهن لساعات طويلة ليأذن لك بتقبيلهن. يمنحنك كل جسدهن منذ الوهلة الأولى شريطة أن تدفع مقابل ذلك نقدا، و انتهى الأمر.


كان يرتاد نهاية كل أسبوع شارع محمد الخامس عند بداية الليل.  لما تتجول فيه تتصوره إنسانا يبكي على مجده الضائع. فبعد أن كان الناس لا يجرؤون على وطئه إلا إذا كانوا يرتدون أزهى ثيابهم ها هو ذا يتحول إلى مستنقع تفوح منه رائحة البول و التعفن.


في البدء كان يقوم بجولتين. يكتفي في الأولى بمعاينة البضاعة و يفاصل في الثانية عن تلك التي أعجبته. لكن مع مرور الوقت أصبح وجهه مألوفا لدى بائعات الهوى. كان لا يكاد يخطو خطوته الأولى على الضفة المقابلة للسوق المركزي حتى تستوقفه إحداهن و تعرض عليه خدماتها. و حين تحس أن جسدها لم يعد يغريه تخبره عن فتاة جديدة التحقت بهن منذ أسبوع و تقترحها عليه نظير بعض الدراهم.  كان يطلب منها في هذه الحالة أن تصفها له. يحب أن تصف فيما يشبه التغزل بائعة هوى جسد إحدى منافساتها.


استمر على هذه الحالة مدة طويلة  حتى مل كل تلك الأجساد المتشابهة. كانت بائعات الهوى اللواتي تقفن تحت أقواس ذلك الشارع في انتظار زبون تجمعهن الكثير من القواسم المشتركة. نفس الجسد الممتلئ. نفس الجلباب. نفس أحمر الشفاه الرديء، و نفس الرائحة النتنة التي تنبعث منهن حين يتجردن من ملابسهن.


ممارسة الحب كانت بالنسبة لهن عمل مضن يذهبن إليه على مضض بدون أن يكلفن أنفسهن عناء التزين. اللهم إذا استثنينا وضع الكثير من أحمر الشفاه الرديء فوق شفاههن الغليظة.


كان سعيدا بالرياضة التي كان يمارسها مرة في الأسبوع رغم كل شيء.  لم تكن السمنة و النتانة تزعجانه إلى أن أتى ذلك اليوم الذي حدثه فيه إحدى أصدقائه عن فتاة تعرف عليها في شارع المسيرة الخضراء، حيث تصطف المحلات الأجنبية الفارهة و المقاهي الأنيقة.


قال له أن فتيات ذلك الشارع يختلفن عن غيرهن من النساء و الفتيات اللواتي اعتاد رأيتهن في حيه القصديري و في الأحياء المجاورة. ثم أردف:


-سيتغير في نظرك جنس بائعات هوى شارع محمد الخامس إذا عاشرت واحدة من أولئك. ستعرف حينها أن اللواتي كنت تضاجع هم في الحقيقة رجال متنكرين في زي نسائي. 


في اليوم الموالي قرر أن يكتشف الأمر بنفسه.


لم يقصد الميناء كعادته كل صباح لاقتناء بعض السمك الرديء و بيعه بالتقسيط لسكان الحي. ارتدى أجمل ثيابه. وضع الكثير من الذهن فوق شعره الأشعث و استقل الحافلة التي تقود إلى ذلك المكان الذي قال له عنه صاحبه. 


بعد وصوله أخذ يجوب في أرجاء ذلك الشارع بدون أي اتجاه محدد، منقلا نظراته بين الفتيات اللواتي كن يمشين في ضفتيه مزهوات بأجسادهن و أردافهن.


كان يتربص بهن، ينتظر أن تجود إحداهن عليه بنظرة فيها و لو القليل من الإعجاب ليتعقب خطواتها و يبادرها للكلام.


و طبعا لم تأبه أي واحدة منهن به و لم تنطلي عليهن خدعة المجهود الذي بدله لتحسين مظهره و التلطيف من قبحه. كانت رائحة الفقر تفوح منه أكثر من رائحة العطر الذي وضع منه الكثير ليوهم من يقابلهن بأنه واحد من أولئك الرجال البررة الذين يمنحونهن إمكانية الافتخار بمقاسمتهم السرير أمام زميلاتهن.


صور تلك الفتيات التي كانت تجتاح مجاله البصري من كل حدب و صوب حولت قضيبه إلى جسم متناهي الصلابة. لم يضايقه ذلك الأمر. كان يبدو مزهوا بالإعلان عن هويته الذكورية الخالصة في عالم يحكى أنه لم يعد لرجاله نفس القدرة على اختراق أجساد النساء. و كأنه كان يقول لكل بنات حواء اللواتي كان يصادفهن "كل ما ترونه من عظمة ستكون من نصيب أوفركن حظا".


لم يغير ذلك الأمر شيئا. ظلت الفتيات تمررن بدون أن تكبدن أنفسهن عناء إلقاء و لو نظرة خاطفة عليه، و كأنه تحول فجأة إلى جسم شفاف في ذلك الشارع الذي يخيفك رونقه أكثر مما يبهرك.


مل من انتظار أن تبادره إحداهن أو تشجعه على الحديث إليها بعد مرور ساعتين. قرر أن يأخذ الأمر بجدية ضانا أن عزوفهن عنه قد يكون مجرد غنج فتيات ليس إلا.


تعقب خطوات فتات كانت تمشي أمامه. لم يكن في حاجة إلى المفاضلة بينهن. في ذلك الشارع يمكنك أن تختار و عينيك مقفلة بدون أن تخشى ارتكاب أدنى خطأ.


دخلت إحدى محلات الملابس الجاهزة فدخل وراءها. قلب النظري في أرجاء المحل فلم يلمحها. 


من سوء حظه -أو ربما من حسنه- كان ذلك المحل مختصا في بيع الملابس النسائية الداخلية. وقف على بعد أمتار من المدخل الزجاجي يتأمل ذلك العالم الغريب المملوء بالتبانات و رافعات الصدر و فساتين الليل. كان الذكر الوحيد الموجود بداخله في تلك اللحظة. تقدمت نحوه إحدى البائعات و قالت له بالفرنسية:


-هل بإمكاني مساعدتك يا سيدي.


لم يفهم إلا الكلمة الأخيرة.


أحس بالكثير من الفخر. تلك كانت المرة الأولى يخاطب فيها على أنه "سيد".


نظر إليها متبسما. بقي صامتا و أخذ يتأمل وجهها و جسدها.


تأمل زرقة عينيها التي تبدت له و كأنها تجتاح عدستيها لتنتشر في أرجاء البياض المحيط بهما.  نظر إلى شفتيها و تمطط شوقا و توقا لارتشاف رحيقهما. لمح صدرها و تمنى لو تسنى له أن يمرح فوقه. فكر أن الذي يعانق فتاة بمثل ذلك الجمال كل ليلة يمكنه أن يطمع في الخلود.


أثار صمته الطويل في نفسها بعض الشك. لم يكن دخوله بمفرده إلى ذلك المحل مجرد حدث عابر. نادرا ما يأتي رجل لوحده ليشتري بعض الهدايا لزوجته أو خليلته. و نادرا ما يتجرأ مثلي على المغامرة بالكشف عن هويته الجنسية  أمام بائعات يعرف عنهن عدم قدرتهن على حفظ حتى الأسرار التي يؤتمن عليها.


لم تكن هيئته توحي بأنه مثلي. الحفاوة التي استقبلته بها تلك البائعة يعود سببها إلى تجربة مرت بها منذ شهور، عندما ازدرت زبونا بسبب هندامه ليتضح فيما بعد أنه رجل أعمال عربي كبير أتى لشراء نموذج من كل الأصناف المعروضة للبيع لإهدائها لفتاة مغربية كان ينوي الزواج منها. كادت تفقد عملها الذي تستعمله للتغطية على نشاط آخر تمارسه ليلا و سرا بسبب قلة بصيرتها. منذ ذلك اليوم قررت أن تحترم كل من تطأ قدماه ذلك المحل أيا كان شكل هندامه.


أعادت ترديد نفس الجملة التي استقبلته بها بالعربية و الانجليزية لمرات و مرات. فلم تكن تدري من أي الأجناس هو.


ظل صامتا يتأملها و يتأمل الفضاء الأنثوي الذي تمنى لو قضى فيه ما تبقى من حياته. 


تقدم نحوها قليلا و قال لها بنبرة الواثق من نفسه :


-هل يمكن أن أراك بعد العمل؟


قطبت حاجبيها فجأة. نظرت إليه بازدراء. تطلعت فيه من الأسفل إلى الأعلى ثم أجابت:


-ألم تنظر إلى حذائك؟


ثم انصرفت عنه.


وجد نفسه في ثوان خارج المحل. وقف بجانب حارس الأمن الذي تكلف بتنفيذ قرار الطرد يتأمل حذائه الجلدي الأسود محاولا أن يستوعب معنى ذلك السؤال الذي طرح عليه.


كان حذاؤه قديما و موحلا. اشتراه من بائع الملابس المستعملة منذ سنتين و لم يفكر قط في تغييره لأنه   لم يتمزق. لكن يبدو أنه أخطأ التقدير. اكتشف أن الناس في ذلك الشارع يغيرون أحذيتهم و ملابسهم باستمرار ليس لأنها تمزقت و لكن لأنها لم تعد تواكب الموضة. 


صفير حاد دوى في أذنيه ساعتها. فكر في اقتحام المحل من جديد و صفع تلك البائعة المتغطرسة التي أهانته بسؤالها. فكر في إضرام النار في الثياب. فكر في تكسير الواجهة الزجاجية التي كانت تصطف فيها ثلاث عارضات أزياء بلاستيكية. لكنه تراجع عن ذلك خوفا مما قد تؤول إليه الأمور إن هو ارتكب واحدة من تلك الحماقات.


بحث في أعين حارس الأمن داكن البشرة عن بعض المواساة لكنه لم يعثر إلا على كثير من اللامبالاة. 


غادر يومها ذلك الشارع على مضض. استقل أول حافلة و عاد من حيث أتى، حيث أناس يشبهونه و بإمكانهم رأيته. كانت بعض النساء و الفتيات في حيه ينظرن إليه بإعجاب أكبر من ذلك الذي كان يبحث عنه في نظرات فتيات شارع المسيرة. لكنهن كن يشبهن نساء شارع محمد الخامس في كل شيء.


دخل بيته القصديري و أقفل عليه الباب. ظل يدخن السيجارة تلو الأخرى طوال الليل و ما بقي من النهار و هو يفكر في تلك البائعة التي أهانته. و قرر أن ينتقم لنفسه منها. 


في اليوم الموالي اشترى تلك العلبة الحديدية من بائع الخردة. نظفها و أخذ يدس فيها كل يوم بعض الدراهم يقتطعها بمشقة من مصروفه اليومي. و لكي يصل إلى مبتغاه في أقرب الآجال قرر أن يقلص من أكله و شربه و السجائر التي يدخنها. 


بعد تسعة أشهر أصبح في حوزته ثلاثة آلاف درهم. كان ذلك المبلغ كافيا في نظره للانتقام أصالة عن نفسه و نيابة عن كل فقراء العالم من عجرفة فتيات الشوارع النقية.


و حلت نهاية الأسبوع. استيقظ باكرا و ذهب إلى الحمام. بدل جهدا أكبر في دلك جسده و قبل خروجه وضع بعض المعجون فوق أسنانه و فركها حتى سالت منها الدماء. قصد بعد خروجه حلاق الحي. دفع له أكثر مما اعتاد منحه إياه و طلب منه أن يبدع في حلاقة شعره.


لما وقف ينتظر الحافلة المتوجهة إلى حي "المثلث الذهبي" حيث شارع المسيرة و فتياته لم يكن يبدو عليه – على الرغم من العناية الفائقة التي بدلها – الكثير من التغيير. كان ينتعل نفس الحذاء الذي دعته تلك البائعة إلى النظر إليه.


كان الجو حارا. اضطره ذلك للهجرة إلى الضفة المقابلة لتلك التي كان عليه أن ينتظر فيها خوفا من أن لا يأتي العرق الذي قد يتصبب من مسامه على المجهود الكبير الذي بدله ليبدو أكثر رونقا.


من حسن حظه أن الحافلة لم تكن ممتلئة. وجد كرسيا شاغرا بجوار شيخ في السبعين تتقاطع التجاعيد في ربوع وجهه العابس قرفا من الحياة. جلس فوقه و عانق في خياله ذلك الحلم الذي عاش على أمل تحقيقه تسعة أشهر. كان ينام على ذكراه كل ليلة و يحيي فور استيقاظه جذوته في نفسه التي كانت تحترق كل يوم توقا إليه.


لما بلغ مبتغاه أخذ يمشي في خطى متسارعة و كأنه قائد أتى ليأخذ بالثأر لجيشه المهزوم في واقعة لم تتوارى بين أحضان النسيان بعد.


دخل أول متجر و سأل عن أحذية رجالية. نصحته بائعة سمينة بالذهاب الى المحل المجاور. انصرف دون أن يشكرها. توقف عند الباب و استدار نحوها و كأنه نسي أمرا مهما ثم قال:


-مكانك ليس هنا. عليك بشارع محمد الخامس.


بقيت المسكينة مسمرة في مكانها تحاول أن تستوعب معنى كلامه.


دخل المتجر الذي دلته عليه و طلب أغلى حذاء. بعد هنيهة أتوه بمجموعة من الأحذية و دعوه ليختار النمط الذي يناسبه. نظر إلى البائع و قال:


-أريد حذاءا يواكب آخر صيحات الموضة. 


اقترح عليه واحدا. جربه. دفع ثمنه ثم انصرف دون أن يأخذ معه حذاءه القديم.


توجه رأسا إلى محل الملابس النسائية الداخلية في نفس الخطوات المتسارعة. في الطريق لا حظ أن بعض الفتيات كن ينظرن إليه خلسة، لكنه لم يبالي بهن. هذه المرة تختلف عن سابقتها. كان يعرف جيدا ما يريد.


دخل المحل و قصد نفس المكان الذي كان يقف فيه قبل تسعة أشهر وشرع يقلب نظره في أرجاءه بحثا عنها. كان المحل فارغا ذلك الصباح. كانت هناك فقط ثلاث بائعات. كن منشغلات بوضع آخر اللمسات على ترتيب الأصناف التي يعرضونها في انتظار الفوج الأول من الزبونات.


لم تأت إحداهن لاستقباله و استفساره عما يريد كما المرة السابقة. في لحظة صفاء ظل ينتظرها طويلا لمح جسدا صغيرا منحيا في العمق كما يلمح غريق طوق النجاة. كانت هي نفسها البائعة التي صدته بازدراء. تقدم نحوها مسرعا و توقف على بعد سنتمترات قليلة منها.


لم تنتبه إليه إلا عندما كانت تستعد للنهوض. أفزعها تواجده بالقرب منها لكنها مع ذلك ابتسمت و خاطبته بنفس الجملة و كأنها ببغاء لا يعرف غير الكلام الذي لقنه له صاحبه:


-هل بإمكاني مساعدتك يا سيدي؟


كانت هذه المرة ترتدي تنورة قصيرة تعري على الجزء الأكبر من فخديها التي تبدو متناسقة مع سيقانها الممتلئة و حذاءا بكعب عالي يساعدها على ربح بعض السنتيمترات و إضافتهم إلى جسدها الصغير.


بقي صامتا و كأنه يريد أن يفسح لها المجال لتستعيد وجهه من أرشيف ذاكرتها. دون جدوى.


اقترب منها أكثر و قال لها:


-لقد اشتريت حذاءا جديدا أتمنى أن يعجبك.


ألقت نظرة على حذائه. ابتسمت ثم قالت:


-و ما علاقتي أنا بالموضوع.


أجابها متحسرا:


-أنت طلبت مني أن أغيره لأكون جديرا بك.


لم يساعدها ما قاله على تذكر الحادث الذي جمعها به قبل تسعة أشهر. فكثيرون هم الرجال الذي مروا في حياتها ما بين اليومين. منهم عاد غانما و منهم من عاد بخفي حنين.


نزعت عن وجهها تلك الابتسامة الباردة التي اعتادت مقابلة الزبائن بها و قالت:


-ما ذا تنتظر مني الآن و قد غيرت حذاءك؟


أدخل يده في جيبه الأيمن و أخرج كل النقود المتبقية لديه. دسها في يدها اليمنى التي لم تكن تدري كيف أمسكها في غفلة منها و قال:


-أريدك أن تذهبي معي بعد العمل.


تطلعت إليه من الأسفل إلى الأعلى كما فعلت في المرة السابقة و قالت بنفس الازدراء:


-أعترف بأن حذاءك جميل. لكن هذا لا يكفي ليكون لك حق العبث بجسدي. لا زال ينقصك الكثير. قميص أنيق و بذلة محترمة و حزام و نظارات و سيارة فخمة و شقة في حي راق يمنع دخوله على الحشرات التي لا شك أنك اعتدت على العيش بينهم.


ثم أردفت:


-خذ نقودك و ارحل منها فورا. و لا تعد إلا إذا حققت كل ذلك.


ثم ختمت كلامها قبل أن تنصرف عنه و كأنها تذكرت أخيرا الحادث الذي جمعها به:


-لا أظن أني بحاجة للاستعانة بحارس الأمن من جديد.


غادر المحل من تلقاء نفسه. وقف بجوار حاسر الأمن الجديد. كانت بشرته أكثر بياضا من سابقه. أخذ يتأمل العارضات المزيفات المصطفات في الواجهة الزجاجية. 


لم يعد لبيته على التو. قصد الكورنيش على مضض. جلس في أحد المقاعد الخشبية و أخذ ينقل نظره ما بين البحر و حذائه الجديد. أحس و كأن الغضب الذي كان بداخله قد تحول إلى بركان يغلي مهددا بالانفجار في أية لحظة. 


بدون تردد خلع حذاءه الجديد. ألقى به في سلة القمامة الحديدية و بقي ينظر إلى البحر فقط.


عاد إلى بيته في المساء حافي القدمين. كان يقول للذين يسألونه عن سبب ذلك بأن حذاءه سرق منه في المسجد لأنه لم يفعل بنصيحة الإمام و يضعه أمامه.





  1 بيت من القصدير.
2 سيجارة
  جواد أمهمول (2015-09-11)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة
جواد أمهمول
الحذاء-جواد أمهمول

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia