الصمت المعلن والبوح الصامت قراءة في نص "حين يقاتل الحمام" للشاعرة أمينة الدياج-عواد الغزي - العراق
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

الصمت المعلن والبوح الصامت
قراءة في نص "حين يقاتل الحمام" للشاعرة أمينة الدياج

  د.عواد الغزي    

كلما أعدنا القراءة الفاحصة في شعر الشاعرة أمينة الدياج تتبدى لنا سلاسة اللفظ وانسيابية اللغة الشعرية التي تجعل من اللغة السهلة المتداولة لغة شعرية جديدة، تحفل بالفصاحة من جهة، والعذوبة من جهة أخرى. فهي لغة السهل الممتنع التي تطاوع القارئ المحقق في تليقه، وتتمنع على المتلقي الذي يفقد الاستجابة اللغوية الثقافية للشعر ومرجعياته البنائية. وقد اتفق النقاد على أن للغة الشعرية بناء خاص. فقالوا: الشاعر يعيد بناء اللغة المعجمية في نصه الشعري، وفي ذلك بون بين اللغتين. إن الشعر لا يهدف إلى الغموض، كما أنه لا يبتغي السهولة المجة، ولكل شاعر معجمه الخاص، وقالوا قديما إن الفرزدق أحيا نصف اللغة، وذلك يعني أنه اتجه إلى اللغة المعجمية المعيارية. ولكن هل اللغة وحدها صانعة الشعر؟ بالتأكيد لن تكون اللغة شعرا ما لم يمنحها الخيال الوهج الذي تحيا به، هذا الخيال الذي يعيد تشكليها سياقيا. ولذلك قال أحد الشعراء القدماء: لنزع ضرس عندي أهون من قول بيت شعر.


 وكما استوعب هذا النقد العربي القديم، وجعل للشعر أوقاتا وأزمانا محددة، وللتيمة /الموضوعة الشعرية علة ما؛ فقالوا بالرغبة والرهبة والعزلة وغيرها. إن سهولة اللغة الشعرية هي معجم أو ذيل معجم جديد يضاف إلى معجم الشاعر المعياري، وفي ذلك تكمن مزية جديدة للشاعر، تتجسد في إمكانية خلق لغة من لغة تتشرب الخيال والموضوع والصورة وتحشد لها متلقيا مستمالا. ونحن إذ نستقري نص الشاعرة أمينة الدياج حين يقاتل الحمام، وبحسب تصرفنا في اجتراح العنوان، إذ توخينا المفارقة النصية بين دموية القتال ورمزية الحمام السلمية. يتبدى لنا ذلك النسج الشعري الجميل واللغة الوافية بالدلالة في مستهل النص ومطلعه:


أسرق النظر على مراجيح الأطفال خلسةَ ويأخذ الصمت مأخذه من النص في أول تكوينه (أسرق/ النظر/ مراجيح/ الأطفال/ خلسة) فالنظر أيقونة صمت ولغة صامتة. وكما قالوا للعيون لغة، والمراجيح جماد رامز للدلالة على الفرح الصامت، إذ هي دلالة حركة سرورية. والأطفال كناية عن البراءة وصمتها الأبيض. وأما الخلسة، استراق صامت أيضا. وما بين الصمت والبوح الصامت، تتعاضد الدلالات لتؤدي معاني السكوت. وذلك كله صورة تشبه صورة: كما يفعل الليل بمعاجم الكلام حين يفترش ظله للأسرى، للمتيم بحلم الحياة. إن التأكيد على معاجم الكلام، هو إحالة معرفية من الشاعرة على خزينها المعجمي وذيل معجمها الجديد. ولكن الذي يبدو لنا، أن للسياق اللغوي وظيفة جديدة وقصدية أسلوبية في الظهور. إذ نلمح فيه إشارة إلى دلالة الصمت والسكوت التي ينتهي إليها الكلام في الليل، وذلك مستوحى من قوله تعالى (وجعلنا الليل لكم سباتا). فهو إحالة على الصمت والسكوت الذي يحيل على منولوج ذاتي يشتغل فيه العقل ويسكت اللسان ويغدو الأسير مثالا لذلك. وحدها تتطاول على الحصار رفقة العصافير، تزقزق على المعابر، لا وقت للأحلام حين يقاتل الحمام، وليس غريبا أن العصافير تبعث الحياة، وهي رمز دال على الحياة وإشارة موحية إليها؛ فهي من يكسر الصمت المشابه للموت للتغني بالحياة تغنيا عفويا. وتلك الإشارة الموحية تحيل على وجودية الحياة: فلا أحلام ويوتوبيا مع وجود حقيقي للحياة. وتلك الحياة ماحقة في سلمية الحمام. فما قتاله إلا لوجود خطر يهدد سلمية وجوده: "لا وقت للأحلام حين يقاتل الحمام على برج من الأغصان/ ويثورُ صغار الأطفال/ يعزفون سمفونية الأحجار.." وذلك يعني تأجيل الأماني أو الأمنيات. فالحمام يوحي بنهاية السلم وتهديد الأوطان، ويدافع عن الأغصان التي هي عرين السلم وكينونة الحياة بالنسبه إليه. وكما أن ثورة الأطفال هي التي تكتنف دلالة فطرية، فهي بوح ورغبة في الوجود، من دون مشروع مؤدلج أو فكر واع. ذلك أن الطفولة تتكلف بدلالة الحياة الصامتة، أي الخالية من الصخب والتهديد. وبنهاية الأحلام وتهديد سلم الحمام وثورة الأطفال؛ يأخذ البوح الشعري الصامت جدية الظهور، فيدخل نسق صامت آخر، دال على السكوت المميت: "لا وقت للوجع/ فالمسامير لا تئن على الجدران" لا صوت يدوي نتيجة القيد والحصار فالمسامير صامتة على الرغم من ضيقها بالوجود واستلاب حريتها من الجدار، وكما أن التوجع قد ولى زمنه، فالسكوت لا يعني الرضا أو عدم القيد، بل يعني الاختناق والضيق في وطن الشهداء..  صمت قاتل، وصلاة الغائب تقام على سجاد من الأحشاء، سماؤنا لا تمطر غير الخذلان، إن الصمت يسري في بنية النص، ويستوعب كل سياقاته البنائية. وعلى الرغم من قوافل الشهداء، إلا أن الصمت والسكوت وعدم البوح، لم يكن  سبيلا للخلاص، بل كان رؤية للصبر المميت وتأبين الشهيد إثر الشهيد. فكل السجادات أديمها أحشاء الشهداء، وذلك يتناص مع قول أبي العلاء المعري: خفف الوطأ ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد. ويتضافر ذلك كله في خلق دلالة الخذلان، ويكون الصمت خذلانا يناقضه البوح الصامت في الدعوة إلى تناسي الأحلام والأمنيات، فقد ولى زمن سلمية الحمام وجاء زمن الارتهان بالحدث والقيام به. الرعد يقصف مواقع الأبطال، تلك إرادة الجبناء المدججة بحلم الأوهام، ويخلص النص في خاتمته إلى البوح الصامت، على أن الصمت والسكوت إرادة الحالمين بتحقيق الأوهام والصابرين صمتا لأجل الوعود الكاذبة على الرغم من سيادة إرادة الجبناء على الأبطال. إن الصمت الشعري والصمت المتخاذل يتضادان في النص، فيغدو الصمت الشعري في دلالاته بوحا، والصمت المتخاذل زيفا ووهاية تتحكم بالجبناء. وذلك التحكم صمت وسكوت وخنوع يهدد رمزية الحمام ودلالته على السلم ووجودية الأطفال ودلالتهم على الحياة العفوية، في فضاء استباحه الأغراب وصمت عنهم الجبناء وخنعوا بالبقاء وبالصلاة على أجساد الشهداء. سلم نبضك أمينة الدياج وسلمت الأوطان من الجبناء والخانعين، وعادت البلاد إلى أطفالها الأبرياء ودامت زغردة العصافير وسلمية الحمام.





حين يقاتل الحمام / أمينة الدياج 



أسرق النظر على مراجيح الأطفال

 خلسةَ 

كما يفعل الليل بمعاجم الكلام

 حين يفرش ظله 

للأسرى 

للمتيمم بحلم الحياة 

وحدها تتطاول على الحصار رفقة العصافير 

تزقزق على المعابر 

لا وقت للأحلام 

حين يقاتل الحمام على برج من الأغصان

 ويثور صغار الأطفال 

يعزفون سمفونية الأحجار 

لا وقت للوجع 

فالمسامير لا تئن على الجدران في وطن الشهداء.. 

صمت قاتل..، 

وصلاة الغائب تقام على سجاد من أحشاء 

سماؤنا لا تمطر غير الخدلان 

الرعد يقصف مواقع الأبطال 

تلك إرادة الجبناء المدججة بحلم، بالأوهام..











 
أمينة الدياج
  عواد الغزي - العراق (2015-10-23)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

الصمت المعلن والبوح الصامت
قراءة في نص

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia