جدلية الحضور والغياب في الأدب الرقمي: "صقيع"أنموذجاً-سمر الديوب-حمص-سوريا
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

جدلية الحضور والغياب في الأدب الرقمي: "صقيع"أنموذجاً

"واعلم أن الصمت في موضعه ربما كان أنفع
من الإبلاغ بالمنطق في موضعه، وعند إصابة فرصته"
رسائل الجاحظ

-1-
أسست الرواية الرقمية أسسَ سرديةٍ جديدة مبنية على جدلية الحضور والغياب حين لجأت إلى التلميح بدلاً من التصريح، وحين جعلت القارئ مشاركاً في العملية الإبداعية؛ لتحقيق التفاعل النصيّ. فتقوم الرواية الرقمية على التكثيف، والجمل القصيرة، قليلة عدد الكلمات، التي تأخذ شكلاً مختزلاً له خصوصية داخل النص الكلي.
وتحتاج الرواية الرقمية إلى متلقٍّ متفاعل معها؛ ليكشف ما حضر وراء الغياب، كما أن الموسيقى التصويرية، والمشاهد المتحركة تحتاج إلى فك شيفراتها السيميائية؛ لذا يُعدّ الغياب استراتيجية نصّية في مشروع الكتابة الرقمية، له منطقه الخاص. فيدعو المبدع المتلقي للمشاركة في إنتاج المعنى.
الرواية الرقمية رواية تنأى عن الاستطراد، وتعتمد اللغة الانتقائية. وفي الانتقاء والتكثيف انزياح باتجاه الشعرية، فتجعل المتلقي "المستعمِل" راغباً في الإبحار في العنوانات الفرعية والروابط القابلة للتنشيط، ومنها يعبر إلى العقد السردية، فتخفي كلُّ عتبة نصية وراءها نصاً آخر؛ لأن للعتبة النصية طابعاً شعرياً اختزالياً.
ويختفي في الأدب الرقمي مفهوم الكاتب؛ ليحل بدلاً منه مفهوم صانع النص، كما يختفي مفهوم القارئ؛ ليحل بدلاً منه مفهوم المستعمِل؛ ذلك أن الرواية الرقمية تكسر الطريقة المعهودة في تقديم الخطاب الروائي الورقي، فلم يعد الروائي يخط صفحات في الوصف، والاستطراد. إنه يجمع العقد والمشاهد، وينظمها، وبنقرة صغيرة يمكن أن يطلع المستعمِل على ما يمكن أن يغطي صفحات في الرواية الورقية.
ومن علاقات الحضور والغياب تظهر جماليات الرواية الرقمية. فالحضور والغياب ثنائية ضدية، بمعنى أنهما متوازيان، لا يلتقيان، بل يختفي أحدهما قصداً وراء الآخر، ففي الغياب حضور، لكنه حضور شعري إيحائي مكثف، وفي الحضور غياب للترميز والتكثيف، فتقوم الرواية على منطق الإخفاء والحذف، وهو الأمر الذي يجنح بالرواية الرقمية في مواضع كثيرة من السردية إلى الشعرية. فالإبحار بين الروابط سرد من نوع خاص، وهو سرد قائم على الحذف والتكثيف، فثمة روابط تتولى مهمة الشروح والتعليقات المتعلقة بحدث معين في مجرى السرد.
وتمثل الروابط خيطاً ناظماً يجمع ما تفرق في الرواية، فلها وظيفتان: سردية وشعرية: سردية؛ لأنها تسرد، وتفصل فيما أراد الراوي اختصاره، أو غيابه. وشعرية؛ لأنها تسم الرواية الرقمية بسمة الإيجاز والتكثيف، ويكون الغياب، أو التخفي في هذه الحال فعلاً مقصوداً من قبل صانع النص.
ولا تتوقف علاقات الحضور والغياب على النص الرقمي فقط بل تتعداه إلى فعل القراءة، فيحدد قارئ النص الرقمي فعلاً قرائياً كافياً ليعطيه صورة عن الرواية، ويعرّفه بجزئياتها، فتأخذ الرواية شكلاً مجازياً قائماً على الغياب من جهة، وتأخذ القراءة شكلاً مجازياً مقابلاً حين تحيل الأجزاء المقروءة على الكل من جهة أخرى.
يمثل الأدب الرقمي –إذن- حالة وعي جديد يتشكل. فقد تطور شكل التعبير، وقد استدعى هذا التطور تطوراً موازياً على مستوى الفكر، والإبداع. وقد انتقل المبدع والمتلقي في الأدب الرقمي من مستوى تواصلي إلى آخر، فمَن تقبل هذا الوافد الأدبي الجديد استعان بالوسائط التكنولوجية، فيمثل الأدب الرقمي –تبعاً لذلك- حالة جديدة في رؤية الوجود، وفي طريقة التعبير، وسبل التفكير.
ويعدّ النص الرقمي استمراراً للأدب الورقي، لا قطيعة معه، ويتمثل التغيير بلغة البرمجة المعلوماتية القائمة على علاقات الحضور والغياب، ومجاز العلم، فلا يلغي العلم والتقنية شعور المبدع الخاص.
وثمة مراوغة في الحرية الممنوحة للقارئ الرقمي وهو يبحر بين الروابط، فهو يستطيع الإبحار بينها، لكنه لا يستطيع التعديل فيها مع أنه يمتلك حرية إعادة ترتيب النص.
  إن علاقات الحضور والغياب تعني أن شيئاً ما غير مكتمل في الرواية الرقمية؛ فثمة استعانة بالصوت، والصورة، وبرامج المعلوماتية. ويتعين على ذلك أن النص الرقمي ينتعش من عدم الاكتمال.
إن بلاغة الغياب أقوى من بلاغة الحضور، والكلام المنطوق والكلام المستتر تقنية جديدة في الأدب الرقمي، تُقَدّم في هيئة لم يألفها قراء الرواية الورقية. فالغياب موجود بقوة لعلة سياقية، وخلافاً لأفعال الكلام المندرج بالكتابة والنطق يُحدِث الغياب فراغاً نصياً ونقصاناً يكوّن جزءاً أساسياً في النص الرقمي، وتعادل دلالته دلالة الكلام المتحقق.
ويتعين على ما سبق أن قراءة الرواية الرقمية قراءة كاشفة مؤوِّلة. فالنص ناقص –قصداً- ويشكّل هذا مدعاة لمزيد من التأمل والتفكير في صمت المبدع، وغياب الملفوظ.
يُدخِل الغيابُ النص الرقمي في غابة التعدد، فبلاغة الغياب تدخل في علاقة تضاد مع بلاغة الحضور ظاهرياً، لكنها تمثل حضوراً من نوع مختلف، فالحضور كائن في الغياب، والتكلم حاضر في الصمت.
ويقوي حضور الغياب شعرية النص الرقمي، فيتفاعل الغياب مع السمعي والبصري؛ لبناء إيقاع خاص للنص. والغياب عنصر أساس في إنتاج الدلالة، وتوازي بلاغةُ الغياب، أو الصمت بلاغةَ الحضور، أو الامتلاء، فالمستعمِل وحده مَن يملأ الفراغ. فكيف تجلت جدلية الحضور والغياب في قصة صقيع؟
-2-
  الغياب اختفاء للعلامة، لذا لا يوجد غياب حقيقي بل تخفّ مقصود. وللغياب منزلة أرفع من منزلة الحضور، وقد توسّل النص الرقمي بوسائل متعددة لتحقيق الغياب، بخاصة ما كان مرئياً كالتقنيات الالكترونية.
  وتغيب في قصة "صقيع" للكاتب محمد سناجلة في مواضع متعددة علامات اللسان، وتحضر العلامات التكنولوجية، إما على شكل أيقونة، وإما على شكل رابط، فيتقلص الكلام لدرجة أن النطق بالكلام يصبح نطقاً مقطعاً، فيستبدل بالدال اللساني الدال التكنولوجي الصامت حيناً، والناطق حيناً آخر.
  وتمثل قصة "صقيع" خرقاً للمألوف السردي، تعتمد على الصوت، والمشهد، والخلفية إلى جانب اللغة المعجمية الجديدة، وتحيل الروابط الفاعلة فيها على وظائف سردية مركِّزة على الذات، فتتولد ثقافة جديدة تتركز حول الذات التي أضحت مدار السؤال، والسرد في القصة.
وتأخذ قصة "صقيع" شكل مشهد واحد يُقرأ في وقت وجيز، يتضمن قصيدتين: أحتاجكِ، وبقايا، وخلفية موسيقية تتردد على امتداد القراءة، وتحاكي صوت الرعد، ونصاً أيقونياً سمعياً، وبصرياً، وكتابياً.
وتظهر بعد صوت الرعد في ليل أسود كثير الثلج والرياح صورة البطل وهو وحيد، جالس على أريكة. وفي الصورة علامة سيميائية تقوم على بلاغة الغياب، والصمت. فلون الصورة رمادي يُرى بصعوبة، يشبه مشهد الثلج المتساقط، والنص المكتوب "صقيع" بالأسود الداكن، وكلها أمور تظهر تشظي الذات، وانشطارها، وشعورها القاتل بالوحشة، والاغتراب.
  وتظهر العناصر في نافذة مستطيلة تتوسط الشاشة، وتأخذ لوناً أسود داكناً، فتحمل الصورة طاقة الكلمة، ويشعر المستعمِل أنه يقرأ صورة تشكيلية أو فوتوغرافية.
وثمة عشرة روابط باللون الأزرق، تمثل عتبات نصية تخفي وراءها نصوصاً، أو مشهداً سينمائياً، أو لقطة فيديو تجسد محتوى الجملة، وثمة رابطان يحيلان على قصيدتين رقميتين. والغياب في القصيدتين مقصود؛ ليحقق المبدع حضور الغياب.
  وفي القصيدتين الرقميتين: "أحتاجك، بقايا" يُدمج ما هو لغوي لساني مع ما هو لغوي شبكي، فيبحر المستعمِل، ويتصفح. وتفقد القصيدتان الحيوية لو نُقلتا على الورق؛ لأن ثمة دمجاً نصياً سمعياً بصرياً مستفيداً من الفن السينمائي، ومن تقنية النص المترابط الذي يعرض النص مجزَّءاً، متحدثاً عن واقع الذات التي تكشف تشظيها، وانشطارها، وأزمتها في عالم متغير.
"أحتاجكِ
لأهرب من ظلالي
أغتالها ظلاً ظلاً
لألقاني في النهاية واحداً بلا ظل"
وتترافق القصيدة مع موسيقى وكلمات أغنية وردة "محتاجالك".
وتندرج حركة المجزوءات في ثنائيات ضدية: الحقيقة/ الوهم، الذات/ الآخر، الوجود/ العدم، الأصل/ الظل. ويبحر المتلقي في القصيدة، ويتلقى الشذرات بخصوصيتها، وجمالها القائم على تسلسل ظهور الجمل، والخلفية، والأغنية المرافقة لها.
القصيدتان جزء من بنية القصة، يضفيان عليها بعداً إبداعياً، ويعدّ نص "صقيع" نصاً شعرياً بإيحاءاته، وتكثيفه.
"تتكثف الأشياء كما الغيوم، ثم تنداح خيالات عذبة وجنيات تخرج من قلب البحر، تلعب بالمتوحد مع ذاته كما تشاء."
لقد تعاظمت حال التوحد، والخوف في ليل البطل الطويل:
"أخذت أبكي، الضباع تحولت إلى ديناصورات هائلة ملأت ليل العتمة"
ثم تسير القصة في خط تصاعدي، فقد شعر أن سقف الغرفة قد طار:
"صرنا ننام في العراء، مزاريب السماء مازالت تنهمر، طار السرير"
ثم شعر أن أسرّة كثيرة انضمت، لها أجنحة داكنة، وأن السماء تمطر بلا غيوم. وتأتي المفارقة في جملة "يا الله عفوك" الختامية باللون الأزرق، والتي لا يتضح المراد منها إلا بالضغط عليها، فتكشف فكرة العمل كله؛ إذ تنهض زوج البطل من السرير، وتفتح ستارة النافذة، ويصحو من حلمه الحقيقي؛ ليجد شمس آب الحارقة تضيء غرفة نومه:
"كانت شمس آب/ أغسطس الحارقة تسطع في الخارج وأنا غارق في الصقيع"
وتُكتب الكلمة بالكل "الموسيقى، والصورة، والمشهد السينمائي، والكلمة التي تُرسَم، وتُصَوَّر" فقد وُضِعت الروابط المتشعبة لجمل محددة دون سواها، وبالضغط عليها نتحول إلى نص غائب. وربَّ سائل يسأل: لم وضعت هذه الجمل تحديداً باللون الأزرق؟ ربما كان ذلك رغبة من المبدع في التركيز على جدلية الحضور والغياب، فيغيب وراء ما يحضر ما هو أهم من الحضور، فيُظهِر الغياب حضوراً قوياً يجعل المستعمِل متفاعلاً معه، ومركزاً فيه بطريقة أفضل مما لو كان حاضراً. إن النص الغائب هو ما أراد المبدع التركيز عليه. فالغياب أنواع، وما غاب في قصة "صقيع" تكلم بصوت غير مسموع.
وحين بدأ المبدع بصورة البطل الجالس وحيداً في الليل يحتسي العرق انغلق الكلام على غيابيتيح للمستعمِل تخيل الحالة، وقراءتها بوصفه طرفاً فاعلاً مع صانع النص، فيشكّل الصوت الصامت كلاماً غائباً يتعين على المستعمِل هتك حجبه؛ لاكتشاف الغائب.
إن ثمة سوادَ صقيع، وبرودة حياة، وانقسام الأنا إلى طرفين كلّ منهما تصرخ طالبة من الطرف الآخر النجاة. إنه الصمت الناطق الذي يعقب السواد، والبياض.
" أرجوك هنالك ضباع في السماء تحاول قتلي، ضباع ضخمة، كنت أرتجف، لكنها ازدادت بعداً"
أما على صعيد الألوان فيحضر بعد استشرافي في إطار علاقات الحضور والغياب؛ إذ إن للونين الأسود والرمادي طاقة إيحائية تتعلق بالحال النفسية للشخصية، ويسهم البياض في مد صوت البطل من غير تلفظ، أو نطق.
  لقد عم الظلام بعد أن كان متوزعاً، وثمة وحشةُ روح تعاين مظاهر التردي في الزمان. لقد حضر الغياب، وربما كان ذلك لأن البطل عاجز عن إبلاغ الصوت، فيتعامل المبدع مع أقسى التجارب بقليل من العلامات، وتتحول النبرة الخافتة إلى نبرة صامتة. فالغياب لعبة فنية معاصرة في الأدب الرقمي؛ لأن الصمت يجلي حضوراً قوياً، يجعل المتلقي متفاعلاً معه، فتُطمَس العلامات اللسانية، ويُضمَر ما ينتظره القارئ فيما يتعلق بالشخصية، ويتحرك فضوله لمعرفة ما يستتر وراء الصمت.
  وقد وُصف البطل وصفاً بصرياً سمعياً، فيغدو الصمت قرين الأضواء والموسيقى، والصمت الذي يلفّ البداية يعقبه حضور، ويمثل هذا الغياب منطلقاً لبناء مشهد مغاير يعود إلى بيئته اللغوية، فيتناوب الحضور والغياب.
إن ثمة تكلّماً في صمت، وحضوراً في غياب. والصمت علامة تواصل لفظي، فيمثل انتهاء الكتابة انقطاعاً خطابياً يدعو إلى توقف المستعمِل قبل متابعة سلسلة الكلام، ويرسم المشهد في المخيلة.
ويعمق الغياب الحيرة، ويثير الأسئلة، فيتضافر الحضور والغياب، والصمت والكلام، ويكون الغياب دافعاً على تحفيز المستعمِل على كشف ما استغلق بالصمت، وهذا ما يجعل من قصة "صقيع" قصة رقمية ذات بنية مراوغة.
وتثير "صقيع" أفق توقعات يتعلق بالإبحار بين الروابط، وقراءة المختفي وراءها. ويشبه هنا عمل المبدع الرقمي عمل الشاعر الذي يلعب بالكلمات، فكل منهما يخفي شيئاً من الكلام؛ ليتمكن المستعمِل من فك طلاسمه.
  كما أن المفارقة في نهاية القصة تشدها إلى عالم التوقيعات والمفارقة الشعرية؛ لذا يُعدّ الغياب القائم على الإيجاز والحذف أوسع من الحضور؛ لأنه أعمق دلالة، وأشد حضوراً. وهو عمل إبداعي واع، وسمة من سمات الرواية الرقمية التي تستثمر الطاقات التعبيرية الهائلة التي تزخر بها اللغة.



 
  سمر الديوب-حمص-سوريا (2016-01-20)
Partager

تعليقات:
نسيمة مرزوق /المغرب 2016-01-26
جميل جدا .
البريد الإلكتروني :

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

جدلية الحضور والغياب في الأدب الرقمي:

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia