المجاز الرقمي وبلاغة الصوت والصورة.."تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق أنموذجاً"-سمر الديوب-حمص-سوريا
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

المجاز الرقمي وبلاغة الصوت والصورة.."تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق أنموذجاً"

  سمر الديوب    

لا ينفصل الحديث عن الشعر الرقمي عن الحديث عن أزمة الشعر في عصرنا الحالي، فثمة أزمة تلقي الشعر، وأزمة في الشعر نفسه على الرغم من العدد الكبير للشعراء وإصداراتهم. وقد حدثت أزمة علاقة بين المبدع والشعر والمتلقي حتى غدا الشعراء المتميزون ضيوفاً عابرين في العصر الحالي.
ويتخلى الشعر الرقمي1 عن الكلمة، فلا يقتصر عليها؛ ذلك لأنه يستعين بوسيط تكنولوجي؛ لذا لم يعد الشاعر شاعراً فقط، بل صانعاً للنص، ولم يعد المتلقي متلقياً فقط، بل مشارِكاً في صنع النص، ومستعمِلاً للحاسوب ببرامجه.
ويتولد الشعر الرقمي من التقاء الشعر المعلوماتيةَ، فيغدو الحاسوب حامل القصيدة التي صُمِّمت لشاشته، وهي قصيدة تفاعلية، ذات سمة تشعبية، فيستثمر صانع النص شاشة الحاسوب ببعديها، وينشر نصّه مترافقاً مع الصوت والصورة، ويعني هذا الكلام أن الشعر الرقمي لا يمكن نقله على الورق؛ لأنه يقوم أساساً على دعامة حاسوبية أو شبكية معتمداً على تنشيط الروابط من قبل المبحِر الذي يتولد لديه أفق توقع مع كلّ نقرة على رابط، فيتولد سحر لحظة وهو يكتشف، ويستمتع.
إنه الأدب المولود من رحم التكنولوجيا2، فهل يمكن أن تعيد التكنولوجيا للشعر ألقه بعد أن خبا في عصرنا الراهن؟
الشاشة في الأدب الرقمي فضاء حركي تكتب فيه الكلمة، وتُرسم، وتُصوَّر، وتتحرك إيقاعياً. ويرى بعض النقاد أن ثمة فنوناً قريبة إلى الأدب، ويختلفون في أقرب هذه الفنون إليه، فبعضهم يرى أن الرسم أقربها إليه من جهة المحاكاة والتصوير، فالرسم –كما يقول سيمونيدس الإغريقي "556-468 ق.م"- شعر ناطق، والشعر رسم صامت. وبعضهم الآخر يرى أن الموسيقى أقربها، والمهم أن جميع النقاد متفقون على حاجة الأدب إلى الأنواع الأخرى الأدبية وغير الأدبية. ويجمع الشعر الرقمي فنون الموسيقى والتصوير والرسم والفن التشكيلي، ويثير اعتماده على الصورة إشكالاً، فالشعر قائم على التكثيف والإيحاء والرمز والتعريض بالكناية، فكيف تستطيع صورة واحدة أن تحمل هذه الأبعاد؟
تشترك الأنواع الأدبية في التصوير، لكنها تختلف في استخدام الصورة. فما علاقة الشعر الرقمي الذي أوجد مجازاً خاصاً به بالصورة، والصوت؟
  وسنتخذ من قصيدة تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق للشاعر العراقي مشتاق عباس مادة للدراسة، ويختلف النقاد في ريادته3 في ميدان القصيدة الرقمية، ومع ذلك تبقى هذه القصيدة من أوائل القصائد الرقمية العربية القائمة على نظام التشفير اللغوي وغير اللغوي القائم أساساً على التشعب النصي عبر العقد المترابطة بروابط، والوسائط المتشعبة بإدخال وسائط سمعية وبصرية إلى نص القصيدة.
وقد اعتمد مشتاق عباس على قرص مدمج C D مع إمكان عرض نصه4 على الشبكة العنكبوتية بيسر.
-وصف القصيدة
ثمة طريقان للولج إلى تباريح رقمية، الأول خط عمودي ممثَّل بأيقونتين تحملان عبارة "اضغط فوق ضلوع البوح"، وبالضغط فوق ضلوع البوح يحصل المبحِر على خيار شعري يميزه بوح خاص عبر مقطع شعري، ويحيل النص على نصوص أخرى بما يظهره للمتلقي من أيقونات تحمل عبارات توافق أفق توقع المبحِر الذي مرَّ على النصوص السابقة، وتولدت لديه انفعالات خاصة في أثناء مروره.
أما الطريق العمودي في الواجهة الرئيسة فيتضمن خمس أيقونات مصفوفة رأسياً كثُب عليها بالتسلسل أيقنتُ، أنّ، الحنظل، موت، يتخمر، وكل كلمة تنضوي على نص شعري ينفتح بتحريك المؤشّر على كل واحدة.
وتعدّ الأيقونة عتبة نصية للمتن الشعري، وتضمر جملة اضغط فوق ضلوع البوح أكثر من نص، يجمع هذه النصوص رابط محوري واحد، وتتألف المجموعة من تسعة نصوص، ففي الصفحة الأولى جملة "اضغط فوق ضلوع البوح" تكررت مرتين، بالنقر عليها تظهر أيقونة أولى بعنوان "المدار العتيق"، تدور حول معنى الطريق الذي سلكه بعد طول شتات، فوجد أنه طريق دائري لم يوصله إلا إلى طريقه نفسه، وتنفتح أيقونة "حاشية" على نص عمودي في معنى الرحلة التي تكرِّر ذاتها، ثم تنفتح أيقونة "مكابرة" على نص تفعيلة، فقد حاصرته رحلته بأنواع الألم، لكنه قرر المواجهة؛ ليصل إلى الخلاص، وتنفتح أيقونة "هامش" على نص نثري في معنى أوجاع رحلته التي لم توصله إلى بر الأمان، وهذه المعاني متحصلة من النقر فوق ضلوع البوح، أما النقر فوق ضلوع البوح الثانية فيوصل إلى أيقونات جديدة تضمر نصوصاً شعرية، فثمة أيقونة بعنوان "يعقوب والوطن المحاصَر بالعمى"، وأيقونة "الهامش" المنفتحة على نص عمودي، وأيقونة "نصيحة" في معنى رحلته، وشعوره بالضياع، وهكذا، وفي أعلى الشاشة شريط "بلا عجلة.. الطيور التي تعشق لا تستحق الجناح".
وقد جمع فيما احتوته أيقوناته بين الشعر العمودي، وشعر التفعيلة، وقصيدة النثر التي كان حضور الجانب الفني فيها ضئيلاً، ومنها قوله:
في قريتي بعض من الثمر الضال/ والثمر الناضج/ والثمر القابع في الأغصان/ لكن الساكن أدرد
ومن نماذج الشعر العمودي قوله:
تمهَّلْ أيها الجسرُ الأعفُّ
        سيسرقُ ماءك الرقراقَ جرفُ

وتسرقك السواقي آسناتٍ
        وتحفرُ في محاجركَ الأكفُّ

ويخنقُ وجهَك المجدافُ سراً
        وفي مرساكَ كلُّ الغدرِ يغفو

يكوِّرُ في حناياكَ المنايا
        ليُغرقَك الخريرُ المستخَفُّ


ترجّلْ فالصحارى فاغراتٌ
        وحضنُ الرملِ أودية يزفُّ


وهذه القصيدة عمل رقمي في لحظة مخاض، يقوم على تعالقات الموت والبعث. فتحمل الأيقونة الجانبية العمودية عنوان "أيقنتُ"، يتفرع منها خمس أيقونات فرعية "أيقنت، أن، الحنظل، موت، يتخمر":
-أيقنت:
أيقنتُ
حين قرأتُ (كتاب الدنيا)/ أن الناس توابيت/ وأحلام برأس الموتى/ كـ (طراز القبر/ المنقوش بأحلى مرمر/ والعطر المنثور على أبواب اللحد/ وبخور الأعواد الثكلى/ تنزف عنبر/ أيقنتُ أن المولودين ضحايا/ ونعيش/ لكن.. لكي نقبر)
-أيقونة أنّ:
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها/ وأرضي تنث ملوكاً/ كان آخر من أورق فيها ملك الموت.
-أيقونة الحنظل:
الحنظل أدمن شرب بوح المنصاعين لبوح الحزن.. فتحنظل!
-أيقونة موت:
موت يعدو.. ماذا يبغي هذا العدّاء المسكين؟
-أيقونة يتخمّر:
يتخمّر ظلي في الغرفة.. وأنا عار في طرقات الروح/ أتلمّسني/ لعل الغربال المتلفّع جلدي/ يوقظ ظلي/ الموغل في التوحيد بدوني/ كي يشرك بي.
ثمة ترابط ثيمي ودلالي بين العبارة العمودية وما يتفرع عنها من مقاطع أفقية بعد النقر على الأيقونات، فالأيقونة مصدر، والمقطع متفرع منه.
وقد فصل بين المقاطع الخمسة وعباراتها بعلامات السلاش، وهي العلامة التي تختزل بها الأسطر الشعرية في النصوص التقليدية، ويعني ذلك أن المقاطع الشعرية تستحضر الأسطر الشعرية التقليدية القائمة على سيميائية البياض والصمت، ولعبة البياض والسواد مع أنها توحي بغير ذلك. ويعني ذلك أن الكتابة الرقمية امتداد للكتابة الورقية، لا انقطاع عنها، تحمل ذاكرة الكتابة الورقية، وتنزاح عنها في حدود معينة.
وفي قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر يصبح المعنى أكثر ثراء حين يتفاعل مع اللوحات والحركة، فقد وظف لوحة الساعة المائعة لسلفادور دالي في أيقونة قصيدة التفعيلة بحمولتها الدلالية.
لقد ترافق النص اللغوي مع الوسائط الالكترونية، والمؤثرات الصوتية والتصويرية، وهي ذات حضور فاعل يضفي دلالة على النص، وليست تزيينية، لكن المبحِر يستقبل الفكرة المكتوبة نصياً مدعمة بتأكيداتها السمعية والبصرية، فهل في هذا العمل مصادرة لخيال المتلقي وحدوده؟
-مجاز الصوت والصورة في التباريح الرقمية:
يتولد المجاز الرقمي في التباريح من حوارية الأنواع الأدبية: السمعية، والبصرية، فثمة شعريةُ لون حين اختار ألوان الخلفيات، وألوان الحروف، وألوان اللوحات، وما تحمله هذه الألوان من قيمة إيحائية مؤثرة في تلقي النص. وثمة شعريةُ صوت بالشعر الذي يؤدَّى مترافقاً مع الموسيقى، والمعزوفات الموسيقية المرافقة لعرض النصوص، وشعرية الأيقونات وما تنضوي عليه، والمنحوتات، وما يرافق النصوص من صور فنية، وشعرية متولدة من ترقب المبحِر، وأفق توقعه وهو يبحر عبر الأيقونات، ويشعر بضرورة التفاعل مع النصوص، وضرورة الذهاب في أحد الخيارات التي تظهرها الأيقونات. وما عليه سوى النقر على الأيقونة، وتتبع الأيقونات بدقة، اختيار نهاية القصيدة بنفسه.
فالقصيدة نص لغوي يتكون من معزوفات موسيقية، وأناشيد مترافقة بالموسيقى، ومساحات لونية، وصور فوتوغرافية وفنية معبرة، ولوحات تشكيلية، ومنحوتات وتماثيل، وثمة هندسة أيقونية، ويعتمد البوح الشعري على نسبة حضور المكونات الفنية في تفاعلها مع المبحِر، فيبلغ أفق التوقع ذروته، ويتبادر إلى ذهنه أفكار وآفاق توقّع عبر ظهور الدوال الموحية واختفائها.
وثمة عنصر الاختيار، فالمبحِر يختار ما يريد، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال: أي نقد يمكن أن يواكب النص الرقمي؟
تمثل القصيدة الرقمية ثقافات فنية متنوعة، وتحتاج لمقاربتها نقدياً إلى نقد منفتح على تنوع الثقافات وتنوع الفنون معاً مما يعني أنه نقد ثقافي رقمي يحاور فنون الهندسة الرقمية، ويتعامل مع الفنون المتنوعة المشاركة في بناء القصيدة الرقمية، ويوسع مفهوم النصية، فيشمل كل ما يستطيع التأثير في المبحِر، ويهتم باللون والصوت والصورة والحركة والكلمة، ويجعل الهندسة الرقمية حجر الأساس في تحليل النص الشعري.
ولغة التباريح الرقمية أدبية، لكن أدبيتها لا تمنعها من أن تصوَّر وترسم. والصوت المصاحب للصورةجزء من المضمون الذي يكتسب مؤثرات صوتية متعددة الدلالات، فثمة مزاوجة بين القدرة الإبداعية، وقدرة الذاكرة على الاحتفاظ بانطباعات بصرية من جهة، وما يحمله النص من صور صوتية من جهة أخرى. فالقصيدة الرقمية قصيدة تشكيلية قائمة على حوارية الأنواع، تستخدم مبدأ الإدراك البصري المرتبط بالخط، والرسم، والصورة الفوتوغرافية والتشكيلية؛ لإيجاد قصيدة هندسية بصرية سمعية.
فما مدى قدرة الكلمة على مزاحمة الصورة في التباريح التي هيمنت فيها مفردات الصورة والصوت على مفردات الكلمة.
الغلبة في القصيدة الرقمية لصالح الصورة مع أن الكلمة أهم أدوات التعبير، لكنها أضحت كلمة تكنولوجية جديدة.
لكن الحوار بين ثقافة الصورة، وثقافة الكلمة مشحون بالصدام في ثقافتنا العربية، فماذا قدّمت الصورة للكلمة؟ وماذا قدمت الكلمة للصورة؟
تبدأ القصيدة بصورة لتمثال يتطاير منه شظايا الغضب والاندفاع، فمه مفتوح صارخ، عيناه مطبقتان بألم شديد، جبهته مقطبة تحيل على الألم المبرح. إنه قناع فني للشاعر الرقمي، لونه يتدرج من الأسود مروراً بلون التراب.
صورة هذا التمثال الصارخ بصمت تم تجميدها سعياً للقبض على اللحظة الشعرية، وجعل هذه اللحظة فاتحة للدخول إلى المقاطع الشعرية ببوحها الخاص، فيتوازى الصوت والصمت، والموت والحياة، ويتقابلان في ثنائيات ضدية توضح عمق الألم الناجم عن الشاعر.
ثم تفتح التباريح الرقمية لسيرة بعضها أزرق بمقاطع موسيقية مقصوصة، تذكّر بالأصل، وتتوازى مع صمت الصراخ في المقدمة، ويرتبط سماعها في ذاكرة المبحِر بوجه التمثال الصارخ في صمت، وألوانه.
وتأتي ألوان التمثال متدرجة من الأسود إلى ألوان أخرى مروراً بلون التراب، وتتراسل الألوان مع خلفية الصفحة الزرقاء الداكنة. إنه يضغط على الحزن، ثم يلوّن بالأحمر موحياً بدورة الموت والحياة، الألم والأمل، لهج المشتاق وضغط الأشواق. فثمة بوح شعري خاص.
أما الجمل اللغوية فتوحي بالحيرة والاستسلام القدري لدورة الموت، فهو ابن العراق الجريح، لكن هذه التباريح احتقان يتأهب لولادة جديدة.
ويحقق التقطيع المونتاجي إثارة، فيلتقي الواقع الحلم، وتغتني اللحظة الشعرية، وتتكثف، وتحضر الفكرة بالصورة، فتتنحى الكلمة لصالح الصورة باستخدام تقنية تقطيع المشاهد والتوليف بين الحواس انطلاقاً من حاسة البصر.
لقد هيمنت الصورة على القصيدة، وللصورة بلاغة خاصة، لها لغة إشارية مختلفة عن الكلمة المكتوبة، فالكلمة المكتوبة ذات حمولة تكثيفية إيحائية، والكلمة المصوَّرة ذات حمولة سمعية بصرية تخضع لبناء حركي صوتي، تختزل كلاماً كثيراً يمكن أن يوجد في الخطاب الوصفي.
إن الشراكة بين فن الكلمة وفن الصورة في التباريح يخصب أدوات التعبير الفني المشتركة بين الطرفين، فقد استفادت التباريح الرقمية من فن الصور المتحركة، والفن التشكيلي، والتقانات المتطورة، وحررت النص من الذاتية، وجعلته خطاباً إعلامياً اكتملت دورته: رسالة- مرسل- حاسوب- متلق، فثمة حوارية بين الأنواع، فلا يرى الشعري مانعاً من حضور السردي، والتصويري، والموسيقي، وصار الشعر سمعياً تصويرياً بعبور النوع.5
الشاعر الرقمي ليس شاعراً فقط، بل صانع نص، يحوّل باستخدام التقنيات كلماته إلى صور بصرية سمعية مقروءة. فالكلمة تصوَّر بالصورة التشكيلية والفوتوغرافية، وعليه إتقان لغة الرقمنة HTML وعليه معرفة الإخراج، فلا يُستكمَل الشعر الرقمي من غير مؤثرات صوتية تصويرية، فلغة الشعر العادي تكثيفية إيحائية، فهل استطاعت هذه الوسائط نقل الكثافة الإيحائية بالصوت والصورة؟
الشعر العادي كلمة حافلة بالموسيقى وصورتها، تولد صوراً شتى في خيال المتلقي، ويوصل النص الرقمي الصورة إلى المتلقي، فيحصره في صورة واحدة حمّالة دلالات وإيحاءات، فالقصيدة مترافقة بصورة الآخر، وموسيقاه، إضافة إلى مؤثرات تضاف إلى النص ليست من مكوناته البنيوية6.
وحاول الشاعر قديماً أن يرسم بالكلمات، وهو ما يعرف بالشعر الهندسي، كالشجري والمسمط والدائري، فتنجم قصيدة على شكل مربع أو دائرة أو شجرة، ويستثمر الورق أداة لإنتاج نص لا يقدّم الكلمة فقط، بل الكلمة والشكل. وقد تكون وظيفة الشكل وظيفية، وقد تكون شكلية خارجية.
لكن التكنولوجيا شكّلت مبدعاً مختلفاً، ومتلقياً مختلفاً له وظيفة في بناء النص، فيسهم المتلقي في بناء النص الأدبي، ويتحقق في النص روح التفاعل7، فلم يعد مهماً في الشعر الرقمي ماذا يقول الشاعر، بل المهم كيف يقول؟ وفي هذا الأمر ردّ اعتبار للمبحِر على حساب الذات المنشئة صانعة النص.
واهتمت البلاغة التقليدية بالصورة وحمولتها الإيحائية، وقصدت الصورة الجزئية المجازية، أو الإيحائية، وكانت عاملاً مهماً لفهم النص من جهة، وفهم صيغ الحياة السائدة من جهة أخرى. والصورة علامة سيميائية، أما الصورة الفوتوغرافية فهي علامة أيقونية تقوم على علاقة التشابه.
واللغة في التباريح الرقمية غير كافية، وللتماثيل والمنحوتات والصور لغة خاصة تتجاوز اللغة إلى ما هو أعم، تنقل رسائل المبحِر، فالصراخ المتعالي في وجه التمثال الصامت معادل لانبعاث الحياة من الموت.
ويتماهى النص السردي بالسرد المرئي ليصل المبحر إلى جماليات خاصة متحررة من سلطة الكلمة ومحوريتها، فصورة التمثال الصارخ الصامتة تمثيل عياني محسوس للكلمة، ومكوّن بصري للقصيدة. إنها صورة ثابتة لكنها متحركة حين يستقبلها المبحِر؛ إذ تؤثر فيه من الناحيتين الفنية والسيكولوجية؛ لذا تعدّ محاولة للإفلات من قيد اللغة لتوسيع نطاق التعبير.
لكن عباساً لا يوظف الدوال غير اللغوية بالمستوى نفسه في النص الرقمي كله، ففي "بناء البيت الرقمي" تُحصَر الحركة في تمرير شريط العنوان يميناً، فلا تمتد الحركة إلى الخطاب البصري إلا بالإيحاء، ويُحصَر الصوت في المقطع الموسيقي الجارح، فثمة تكرار رتيب للمقطع الموسيقي يتناسب والتمرير الرتيب لشريط العنوان.
وتلامس المقاطع الموسيقية المختارة المشاعر، وتناسب الكلمة، وهي تترافق مع العناصر التكنولوجية الأخرى؛ إذ تعبّر عن خبرة جمالية خاصة حين تُنقَل الكلمة مترافقة بالصوت المؤثر.
ويعد التصوير تنظيماً للألوان، وفن تمثيل الشكل باللون والخط، ويتم الرسم بالخط، والتصوير باللون، والشعر الرقمي إعادة إنتاج العلاقة بين الكلمة والصورة والصوت، فانتقلت سلطة التعبير من الكائن اللغوي إلى النظام التعددي التكنولوجي بأدواته المؤثرة، فيرتفع الحوار بين الكلمة والصورة، وكلما ارتفعت وتيرة هذا الحوار كان التأثير إيجابياً، فالصورة وحدها قد لا تعبر عن الحمولة الإخبارية، فتتوحد الصورة والكلمة في تفاعل جدلي، ويصبح للصورة وجود خاص تأثيري لوجود الكلمة.
وثمة مفارقة ألوان في الصور، فثمة الأزرق المتدرج إلى الأسود، والأحمر، والأصفر، والأبيض، وفي أيقونة تالية يطغى اللون الأصفر، فيشوش على الرؤية مع أنه أراد أن يعبر عن مرارة الوجود القاتم، والحياة التي تشبه الموت المتخمر.
  وتأتي عبارة "انقر فوق ضلوع البوح" استعارة؛ إذ يتخلى النقر عن وظيفته الحسية ليخاطب المبحِر المتأهب، والمتوجس من النقر فوق ضلوع البوح، فينجم شلال من بوح جديد، فالنقر فوق الأيقونات معادل لانبعاث الحياة من الموت، وتحليق بعيداً عن الغرفة الزرقاء الضيقة إلى أبعاد أكثر رحابة.
  إن انفتاح الكلمة على الصورة والموسيقى منحها أبعاداً دلالية، وفنية بفضل المؤثرات التعبيرية المرافقة لها بفعل التحول التكنولوجي، فتخلت الكلمة عن دورها المعهود، وبعد أن كانت أداة تحاور وتأثير أضحت لها قدرة مختلفة؛ لامتزاجها بالصورة. لكن الناظر إلى التباريح بعيداً عن الوسائط، واللوحات، والروابط المتشعبة يجد أن تجربة الشعر الورقي مكتملة لدى الشاعر، وقد زادتها التكنولوجيا غنى وتكاملاً؛ لذا تعدّ تجربة مشتاق عباس عملاً رقمياً بسيطاً قياساً إلى التجارب التفاعلية العالمية كتجربة روبرت كاندل التي لا يمكن قراءتها ورقياً؛ لأن المتلقي يتفاعل مع النص، ويكون قارئاً، ومسهِماً في كتابة النص الرقمي، ولو بصورة جزئية.
ويمكن أخيراً أن نسجل ملاحظة تتعلق بالوسائل التقنية الموظفة في بناء النص الرقمي، فثمة تشابه بين هذه التقنيات، وهو أمر أدى إلى تشابه في التجارب الرقمية على مستوى القصيدة العربية وغير العربية، فالتقنية واحدة، وتبقى الخصوصية في استخدام هذه التقنية بما يتناسب والحال النفسية للمبدع الرقمي.



  الإحالات
1-يفرّق النقاد بين القصيدة التفاعلية "Interactive Poem" والقصيدة الرقمية Poem Digital" والقصيدة الالكترونية "Electronic Poem" ويرون أن الشعر الرقمي والالكتروني يشيران إلى نص مقدّم عبر شاشة الحاسوب من غير شروط أخرى في حين أن القصيدة التفاعلية تمنح للمتلقي حرية التحرك في فضاء النص من غير قيود مستفيداً من التقنيات الحديثة. للتفصيل في هذه الفكرة انظر:
فاطمة البريكي: 2006، مدخل إلى الأدب التفاعلي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ص71
وننظر إلى القصيدة الرقمية والأدب الرقمي بعامة على أن شرط التفاعل متحقق فيه؛ لذا سنعتمد مصطلح القصيدة الرقمية. والاختلاف حول المصطلح شائع في نقدنا العربي، فهذا الاختلاف يشبه الاختلاف حول القصة القصيرة جداً، وقصيدة التوقيعة، وقبل ذلك قصيدة النثر، وغيرها.
وللمزيد من الدراسات حول القصيدة الرقمية انظر:
-إدريس بلميح: 2000، القراءة التفاعلية، دراسات لنصوص شعرية حديثة، ط1، دار توبقال، المغرب
-رحمن غركان: 2010، القصيدة التفاعلية في الشعرية العربية- تنظير وإجراء، ط1، دار الينابيع، دمشق.
2عرف الأدب العربي القصيدة الرقمية "Interactive Poem" والمسرحية التفاعلية "Drama Interactive" ويرى محمد سناجلة في أحد حواراته أن أولى تجارب الأدب التفاعلي تعود إلى عام 1986 حين أصدر مايكل جويس "Michael Joyce"رواية Afternoon "" ثم توالت تجارب أخرى أهمها شروق شمس 69 لبوبي رابيد ""Bobby Rabid وقد نشرتها Sonic net عام 1996 وكانت أول قصيدة تفاعلية لروبرت كاندل " Robert Candel"في حين يرى سعيد يقطين أن العام 1996 هو الذي شهد ظهور اول روايتين بالفرنسية على قرص مضغوط وهما 20% حب زيادة لفرانسوا كولون "F. Coulon" والزمن القذر لفرانك دوفور "F. Dufour" انظر: سعيد يقطين، من النص إلى النص المترابط،
3-يرى بعض النقاد أن الريادة للشاعر المغربي منعم الأزرق، وبعضهم يذكر الشاعرة الكندية كينية الأصل التي تكتب بالعربية سولارا صباح. وقد أضحت الساحة الأدبية تعج بأسماء الشعراء الرقميين، نذكر منهم: منعم الأزرق، وله جملة قصائد منها: "لعبة المرأة.. سماء، غيمة لا تشبع منها العينان" والعراقي إدريس عبد النور وله قصيدة كونشرتو الذئاب، ولسولارا صباح قصيدة رقصة صوفية، وثمة قصيدة رقمية جماعية لجملة شعراء مثل قصيدة المرساة لتسعة شعراء، وهي قصيدة متعددة الثقافات والجنسيات، ولا حضور للأنا فيها بالمعنى المعروف، بل تتعدد الأنا، وتختلف، وتتشابك في الوقت الذي تحافظ فيه القصيدة على تماسكها العضوي.
4-القصيدة موجودة على موقع النخلة والجيران:
http://www.alnakhlahwaaljeeran.com/111111-moshtak.htm
5-اصطلحنا على تسمية النص الأدبي الذي يغادر حدود النوع الذي ينضوي فيه إلى أنواع أخرى محتفظاً بهويته الأصلية، ويأخذ من سمات الأنواع الأدبية وغير الأدبية بالنص العابر:
سمر الديوب: 2014، النص العابر- دراسات في الأدب العربي القديم، اتحاد الكتاب العرب، دمشق.
6-للتوسع في هذه الفكرة: حمد محمود الدوخي: 2009، المونتاج الشعري في القصيدة المعاصرة، اتحاد الكتاب العرب، ص6.
7-تعدّ التكنولوجيا الوسيلة الأفضل لشد المتلقي العربي، وجذبه إلى الشعر من جديد. يقول روبرت كاندل "Robert Candel" رائد الشعر التفاعلي إنه حين كان يقوم بشر قصائده ورقياً كان عدد المتفاعلين مع نصوصه محدوداً، لكنه بعد أن بدأ بنشر قصائده الكترونياً لاحظ ازدياد التفاعل مع نصوصه، وقد تزايد هذا العدد بعد أن غيّر من أدواته الإبداعية، وأحسن توظيف التكنولوجيا في النصوص من غير أن تفقد قيمتها ومعانيها:
Charles Brockman: Interactive Literature, op, cit, p19
  سمر الديوب-حمص-سوريا (2016-02-01)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

المجاز الرقمي وبلاغة الصوت والصورة..

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia