لَذْعَةُ بَرْدٍ طَرِيَّةٍ تُلامِسُ قَلْبَهُ، يَنْبِضُ بِصَمْتِ غَابَةٍ تُرَتِّلُ تَسَابِيحَ العِشْقِ، تَتَحَدَّثُ لُغَةَ رُوْحِهِ، تَقُودُهُ لِزَوَايَا قَلْبَهِ البِكْرِ، يَتَذَكَّرُ أَنَّهُ لَمْ يَزُرْهَا مُنْذُ طُفُولَتِهِ الطَرِيَّةِ، يَتَلَمَّسُ طَرِيقَهُ عَبْرَ فَجَوَاتِ ذَاكِرَتِهِ، تَنْمُو حَوْلَهُ أَفْكَارٌ عَذْبَةٌ، كَأَنَّمَا يَدُوسُ الجَنَّةَ بِقَدَمَيْهِ، يَغْرَقُ فِي المُوسِيقَى أَكْثَرْ، تُصْبِحُ حَوَاسُهُ الخَمْسُ خَدِرَةً، الوِسَادَةُ الطَّرِيَّةُ تُلَوِّنُ رُوحَهُ بِأَلْوَانٍ مَائِيَّةٍ، يُصْبِحُ هُوَ الحَاسَّةُ السَّادِسَةُ والسَّابِعَةُ، يُصْبِحُ حَاسَّةً بِكْرْ، يُصْبِحُ دَهْشَةً.
تَخْتَارُكَ الأشْيَاءُ أَنْتَ، تُحِيطُكَ الكَلِمَاتُ
أَنْتَ وَحْدَكَ فِي المَدَى
لا شَيء حَوْلَكَ إِلا أَنْتَ، تَغْرَقُ فِي ضَبَابِ الوَقْتِ تَخْتَرِقُ المَسَافَةَ، كَأَنَّكَ ضُوْءٌ سَائِلٌ يَنْسَابُ يَحْضِنُ وَرْدَةً بَيْضَاءَ تَسْكُنُ غَابَةً بَيْضَاءَ مِن دِفْءٍ.
الكَوْنُ أَنْتَ، وَظِلُّ اللهِ يَكْتِبُ جُمْلَةً تُتْلَى، وَأَصْغَرُ فِكْرٍ فِي الكَوْنِ، أَصْغَرُ كَائِنٍ، أَبْسَطُ فِكْرَةٍ، الكُلُّ أَنْتَ.
تَنْسَابُ الأُغْنِيَاتُ لِتَصْنَعَ خَارِجَ المَكَانِ مَكَانَاً آخَر، المِزْمَارُ يَطْرِقُ جِدَارَ الرُّوح، يَتْلُو آيَاتٍ مِنْ دُمُوعٍ، يَتَبَخَّرُ الوَقْتُ عَبْرَ المَكَان. أَنْتَ فَقَطْ أَمَامَ مِرْآتِكَ، يُحِيطُكَ عَالَمٌ أَبَدِيَّ الآفَاقِ، حَوْلَكَ لا نِهَائِيَّةٌ مُطْلَقَة.
أَتْرُك عَبَاءَتَكَ السَّمِيكَةَ خَلْفَ ذَاكِرَتِكَ، أَخْلَعُ قِنَاعَكَ، رَاقِب الأشْيَاءَ حَوْلَكَ تَكْتَفِي بِالرِّيحِ أَحْيَانَاً، تَخْتَارُ تُعْطِي نَفْسَهَا لِلْكَونِ، تَخْتَارُ البَسَاطَةَ.
جَرِّب الفَوْضَى قَلِيلاً، مَزِّقِ التَّورَاةَ وَالكُتُبَ القَدِيمَةَ كُلَّهَا، واكْتُبْ عَلَى وَجْهِ المَدِينَةِ مَا تَشَاءْ.
جَرِّدْ ثِيَابَكَ مِنْكَ، وارْتَدِي جَسَدَاً، غَادِرْ حُدُودَكَ مَرَّةً، حَلِّقْ قَلِيلاً، كُنْ طَبِيعِيَّاً، غَبِيَّاً، سَاذِجَاً، طِفْلاً .. جَرِّبْ طَبِيعَتَكَ النَّقِيَّةَ.
ذَاكِرَتُهُ تُتْقِنُ مَا تَتْلُوهُ عَلِيهِ رُوحَهُ، سِيمْفُونِيَّةٌ دَافِئَةٌ تَعْزِفُ فِي الخَلْفِيَّةِ، يُحِيطُهُ كَوْنٌ مَخْمَلِيٌّ، فَجْأَةً يَشْعُرُ حَرَّاً، غَازِي الجَسَدِ، يَتَسَرَّبُ كَمَاءٍ فِي إسْفِنْجَةِ شُعُورِهِ.
يَخْتَارُ مَاءً: تُمْطِرُ غَيْمَةً وَيَفِيضُ جَدْوَلاً.
يَرْتَاحُ تُورِقُ فِكْرَةٌ، يَنْبِضُ عَالَمٌ بِاللَّونِ، يَشْدُو بِيَانُو، وَتَهِيمُ قُبّرَةٌ بِحُبِّ الأرْضِ.
تُمَسِّدُ رَأْسَهُ أُنْثَى، لَهَا كَفَّانِ يَحْتَرِفَانِ تَلْوِينَ السَّمَاءِ بِمَا تَشَاءُ، تَفْتِنُهُ التَّفَاصِيلُ الصَّغِيرَةُ فِي جُدَيلَتِهَا، دِفْءُ ثَدْيَيْهَا، رُطُوبَتَهَا الأَنِيقَةُ، ثَوْبَهَا الفِضِّيُ، قَصَّتَهَا القَدِيمَةُ.
قَلِيلاً بَعْدْ: تَبْرُدُ المَسَاحَاتُ الدَّافِئَةُ حَوْلَهُ بِبُطْءٍ، يبدأ الوَقْتُ بِالتَّخَثُّرِ، تَغْيبُ الألْحَانُ كَمَا فِي نِهَايَاتِ الأفْلامِ الرُّومَانْسِيَّةِ، يَعُودُ لِذَاكِرَتِهِ مَلْمَسَهَا الثَّقِيلَ، هَا هُوَ مَرَّةً أُخْرَى يَتَلَمَّسُ بِأَطْرَافِهِ بُرَودَةَ الفُولاذِ، يَشُمُّ الرُّطُوبَةَ السَّمِيكَةَ فِي الجُدْرَانِ، يَتَذَوَّقُ طَعْمَ المِلْحِ فِي وِسَادَتِهِ، وَلُزُوجَةِ عَرَقِهِ، يَتَعَرَّفُ إِدْرَاكَهُ بِبُطْءِ حُدُودَ عَالَمِهِ مَرَّةً أُخْرَى.
تَتَكَدَّسُ الأَشْيَاءُ فِي فَوْضَى مُرَتَّبَةٍ أَنِيقَةٍ، تَرْتَكِبُ المَسَاحَةُ الخَطَايَا ذَاتِهَا، وَتُحِيطُهُ الضَّوضَاءُ، تَخْنِقُهُ تَضَارِيسُ المَدِينَةَ مَرَّةً أُخْرَى، يَعُودُ الكَوْنُ أَضْيَقَ مِنْ مَسَاحَةِ صَدْرِهِ، يَعْتَادُ رَائِحَةَ التُّرَابِ المُرِ، صَوْتُ الوَقْتِ فِي نَقَرَاتِ عَقْرَبِ سَاعَةٍ تُبَذِّرُ عُمْرَهُ عَبَثَاً، قَلَقٌ يُفَتِّتُ رَوحَهُ.
تَتَكَدَّسُ الأشْيَاءَ فِي فَوضَى لِيَعْتَادَ الحَقِيقَةَ مَرَّةً أُخْرَى، لِيَبْدَأَ يَوْمَهُ قَلَقَاً عَلَى أَشْيَاءَ تَافِهَةٍ، بَقَايَا قَهْوَةٍ فِي الكَأْسِ، سَجَائِرٌ، نَفْسُ التَّفَاصِيلِ القَدِيمَةَ مَرَّةً أُخْرَى.
يَوْمٌ آخَرٌ تَقْضِيهِ وَحْدَكَ.