فلسفة الصيام-محمد الدواس (المغرب)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

فلسفة الصيام

  محمد الدواس    

       سنحاول إن شاء الله في هذه المقالة المركزة السريعة أن نقارب المفهوم الإنساني العام للصيام، وسنبذل ما في وسعنا من أجل الابتعاد عن فقهيات الصوم من مفطرات ورخص وغيرها، والالتفات إلى أبعاد الصوم وحكمته باعتباره آلية فعالة للتطهير والبناء والارتقاء بجسم الإنسان وروحه وسلوكه. 
      إن الحديث عن فلسفة الصيام نقصد به بشكل خاص ملامسة جملة الحكم والمقاصد الظاهرة والخفية لهذه الشعيرة الدينية التي لم يختص بها تشريع سماوي دون آخر، وإن اختلفت تطبيقاتها بين أمة وأخرى، مقاصد نحاول من جهتنا استجلاء بعض أطرافها متكئين في ذلك على استقراء بسيط لما اطلعنا عليه من نصوص القرآن والسنة، ومؤكدين على حقيقة أساسية: هي أن هذه المعالجة تتوخى تأسيس بنيتها الاستدلالية على حزمة من المشهور من النصوص الشرعية، دون الخوض في مؤثثاتها الإحالية، تاركين مجال بحث ذلك مفتوحا لمن يهمه الأمر، ومركزين على الآلية التحليلية والبعد الإستنتاجي الذي نمرر من خلاله ما عنّ لنا من أفكار نعتقد معقوليتها.
  الصوم في الحقل المعجمي يعني: الإمساك، وفي المجال الشرعي: العبادة التي يتخلى بموجبها الإنسان عن الأكل والشرب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ومن ثم نعتت هذه العبادة بأنها بدنية بالنظر إلى البعد السطحي الذي يتجشمه الفقهاء.
  الصيام ليس مجرد الابتعاد عن الاستجابة للغريزة، لأن ذلك ليس هو الغاية فيه بقدر ما هو وسيلة يرام من ورائها الوصول إلى حيز " التقوى" لقوله تعالى: "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون..." ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" وقوله: "الصوم جنة".
نفهم من ذلك أن الصوم آلية تطهيرية كبرى من جهة، وطريقة لإعادة ترتيب الأوضاع الروحية للإنسان ترتيبا ساميا (إيجابيا). كيف ذلك؟
  تعلمون أن الصوم هو العبادة الرابعة في الإسلام لقوله عليه الصلاة والسلام: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت....."، فإذا كانت الشهادة:شهادة الإسلام ميثاقا يبرمه الإنسان مع ربه إعلانا بالدخول في سلك الأطهار من عباده وتبرءا من رجس الشرك ونجاسة الكفر: إذا أخذنا في الحسبان المفهوم العملي للشهادة جنبا إلى جنب مع المفهوم العقدي، وإذا كانت الصلاة موعدا مؤقتا مع الله يتكرر خمس مرات في اليوم لتشخيص دلائل الطهارة المادية والمعنوية لقوله تعالى: "لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا"، وقوله: "وأن أقيموا الصلاة واتقوه"، وقوله: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر..."، وإذا كانت الزكاة تحقق الطهارة على مستوى تحرير الإنسان من عبادة المال وتمجيد الدنيا لقوله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها..."، فإن الصوم يحقق هذه الطهارة على مستوى شاسع جدا، ولذلك كان كالصلاة والزكاة عبادة قديمة فرضت على الناس سالفهم وحاضرهم: " كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم".
  إن الصوم باعتباره أحد ركائز الإسلام الخمسة يسعى إلى خلق إنسان متكامل، وبمعنى أدق يحقق مفهوم الإنسان المتميز عن مفهوم البهيمية؛ فإذا كانت البهائم تحكمها في حياتها جملة غرائز تفسر طبيعتها ووجودها كالأكل والشرب والتناسل، والتي هي في حد ذاتها بالنسبة إليها غاية ووسيلة يرتبط وجودها بها حضورا وغيابا، فإن الإنسان عالم أراده الله أن يكون مختلفا، أراده أن يتصف بالإرادة والسمو العقلي والنفسي والروحي والاجتماعي والاقتصادي، ومبادئ الإسلام في مجملها تحقق هذا المشروع، غير أن الصيام يعد، بشكل خاص، محركا فعالا يرفع الإنسان المؤمن إلى أعلى درجات السمو والطهر. وهو ما لا يتأتى لعالم البهائم لاعتبارات شتى أهمها أنها جزء من العالم الذي هيئ للإنسان وسخر له حتى يتحمل أمانة الخلافة وأعباء التكليف وضرورة الاختبار. ولذلك ذم الله الكافرين الذين لا هم لهم إلا إشباع غرائزهم الحيوانية في غير ما انتباه إلى مهمتهم الحقيقية فقال تعالى: "والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم". 
      واضح لدى الجميع أن الإنسان يتنازعه عالمان: عالم المادة، وعالم الروح، وواضح أن ذلك راجع إلى طبيعة تكوينه، وجملة العناصر التي تشكل مادة خلقه. فكلما مال ميزان القوى إلى جهة تضعضعت الجهة الأخرى . كما أنه من المعلوم أن المادة ترتبط بالعالم السفلي، وأن الروح ترتبط بالعالم العلوي، ومتى استجاب الإنسان لطبيعته المادية بشكل يفوق الطبيعي والإيجابي والأولى انحدرت به إلى الشر والانتهازية والاستغلال والضعف والضلال بمفهومه الواسع، وقد تجر عليه الاستجابة لنزوة مادية لم يملك أمامها القدرة والإرادة والالتزام بمقومات السمو لعنة أبدية كما حصل مع " الإنسان السامي" الذي أصبح منحطا بعد فعلته التي فعلها وذلك ما تسرده الآية الكريمة: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث"، وبالمقابل متى استجاب الإنسان لطبيعته الروحية بشكل طبيعي أو فوق المألوف العام قليلا، رجحت الكفة لصالح الإنسان بالمفهوم المادي البسيط أو بالمفهوم الكوني العام.
     نستنتج من هذا الطرح البسيط لطبيعة الإنسان في بعدها الشامل أن الصيام يحقق هذه المعادلة بنسبة عالية، وذلك بإبعاد الإنسان عن شهواته وغرائزه مدة زمنية محددة تعيد إليه التوازن، وتجدد في نفسه ذلكم الإشراق الروحي المفتقد.
   إن الإنسان يتميز عن البهائم بكونه يسعى دائما إلى تزكية نفسه وتطويرها في المجالين المادي والروحي بما يحقق له الرقي بها في مدارج الكمال، وهذا لا يحققه بالخضوع لمتطلبات الحياة الرخيصة التي من خصائصها الفناء والتلاشي السريع، ولكن يحققه بأنواع العبادات والطاعات التي تربطه بالأعلى وتحرره من الأدنى لقوله تعالى: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها". والرقي بالنفس إلى مدارج الكمال ومناطق السمو والطهر مسألة لا تتأتى إلا للذي يحافظ على إنسانيته، والصيام يحقق هذا الهدف، لأنه يجر الإنسان إلى الإنسان المثالي، ويوفر له الأرضية الخصبة لنمو هذا الإنسان الطاهر المتزكي، وهذه الأرضية تشمل:
    أولا: خلق إنسان له إرادة حرة وقدرة متميزة على التحكم في رغباته وأهوائه، والتصرف فيها بما يحقق إرادة الله سبحانه وتعالى ورضاه.
    ثانيا: خلق إنسان قوي روحيا ومعنويا لا تزعزعه النكبات والظروف المالية أو الغذائية الاستثنائية بما يختزنه من قدرة على امتصاص نقص المادة والبعد عنها.
   ثالثا: خلق إنسان متوازن مندمج في المجتمع اندماجا فعالا بما يقدر عليه من إنتاج للمثل والسلوكيات الإنسانية بالمفهوم الواسع للكلمة؛ لا تقف في طريقه الحسابات الضيقة ولا المصالح المحدودة، ومن ثم فهو أقدر على التضحية والإيثار والإنفاق من غير من ولا أذى ولا تقتير ولا إسراف ولا محاباة...، وبما يقدر عليه من اجتناب للدنايا بسبب ما يفرضه الصوم من صوم عن اللغو والرفث والأذى.
    رابعا: خلق مجتمع يسمو إلى مرتبة الملائكة بإرادته الشخصية المقترنة بالاستجابة والطاعة لأمر الله الذي اقتضت حكمته أن يكون هذا هو الإنسان الذي أمر الله الملائكة بالسجود له، وذلك من خلال الإقبال على الصوم إيمانا واحتسابا، أي الصوم الذي يصنع هذا النوع من الإنسان المدرك لحقيقة وجوده، الذي عده جمهور العلماء أكرم من الملائكة، لأنه مبتلى وصابر ويجاهد على أصعدة كثيرة ومعقدة، ولأنهم مجبولون على الطاعة من خلال الفطرة التي فطروا عليها. وهكذا تتحقق إرادة الله وحكمته ومشيئته التي تقررها الآية الكريمة التي ترد وصف الملائكة الإنسان بالفساد بقوله تعالى: " إني أعلم مالا تعلمون..." تأكيدا منه سبحانه على أن الإنسان إذا سما وتطهر بلغ من معرفة الله وخشيته مقدار ما بلغته الملائكة أو أكثر من ذلك، لأنه كلما سما اقترب من الله فأنعم عليه علما وفضلا.
     لماذا التركيز على الصيام، وكل العبادات الكبرى تحقق نوعا من السمو؟ أقول: إن الصيام يحقق مزايا كثيرة مما حاولنا استعراض بعضه أكثر مما تحققها أنواع العبادات الأخرى، وإن كانت كلها تشترك في نفس الهدف. كيف ذلك؟
   أولا: لأن الصيام المفروض يربط الإنسان بالله مدة زمنية أطول من أية عبادة أخرى.
   ثانيا: لأن الصيام فيه من معاني الجهاد والمصابرة والالتزام ما ينفرد ببعضه عن باقي الطاعات.
   ثالثا: لأنه دافع قوي إلى احتراف أصناف العبادات الأخرى، إن صح هذا التعبير، كما وكيفا؛ ولذلك نرى صلاة الصائمين تختلف عن صلاة المفطرين ليلا أو نهارا. ونرى الناس أجود ما يكونون في رمضان، وأمتن علاقة وأحسنها.
  رابعا: لأن العبادات الأخرى بما فيها الصلاة تقترن ببعض النقائص التي أخطرها أنواع الرياء، بينما تقل هذه العيوب في الصيام، بل يعمل الصيام بالأحرى على تنقية الطاعات الأخرى من هذه الشوائب.        
           هذه الأبعاد المسرودة للصيام ليست كل أبعاده، ولكنها أبعاد جليلة بالفعل إذا التزم الإنسان بحكمة الصيام وفلسفته الأصلية.
   إن هذه العبادة السنوية التي فرضها الله على المسلمين إنما جاءت لاستكمال الأدوار الأخلاقية والإنسانية التي اضطلعت بأدائها تشريعات الإسلام الكبرى، والتي تصب كلها كما تنبع كلها من المبدأ الأسمى والقانون الأبقى وهو تحقيق خلافة الإنسان لله في الأرض بالخير والحق والعدل والمساواة وعبادة الله وحده. لا مال ولا رجال ولا أفكار ولا أصنام ولا بهيمية يمكن أن تقود الإنسان إلى النجاة. وهذا واضح في الواقع من تخبط من حاد عن الحقيقة الدينية السمحة لدين الله المهيمن على ما عداه.
     ولما كان الصيام آلية عظيمة من هذا النوع كانت القدرة عليه وعلى تحقيق مفهومه مسالة ليست بسيطة، خاصة وأنها ترتبط ارتباطا حميما بالعبادة العظيمة: صلاة القيام ، فيشكلان معا ذروة التفوق الإنساني على قيود المادة وتبعات الانحطاط ، ولعله بعض فهمي الخاص لبعض إيحاءات الحديث الذي يذكر أنه في رمضان تصفد الشياطين وتغلق أبواب النيران...، والحديث الذي يقول إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالجوع.  قلت: لما كان الصيام كذلك كان القادرون على تجسيد فلسفته أناسا من الطراز الرفيع، وأعني بهم أناسا يمتلكون القدرة على الالتزام بالصبر والسلم والمبادرة إلى الخير والخشوع والتبتل ... والله سبحانه وتعالى العالم بواقع الإنسان وضعفه بسبب العناصر التي خلقه منها والتي تعوقه أحيانا عن الاستمرار في التطهر، وتربطه بعالم المادة الذي هو عالم الضعف أساسا ولحكمة أرادها سبحانه ، ورحمة بعباده خاصة الضعفاء منهم، جعل الصيام المفروض شهرا واحدا في السنة ، ثم رغبت السنة في صيام النافلة ، وجعلته مفضلا في أيام بعينها من كل أسبوع ومن كل شهر حتى يتسنى للراغب في السمو أن يبلغ مبتغاه .
    فرض الصيام إذن شهرا واحدا في السنة يغتسل فيه الإنسان من بعض الشوائب والعوالق والأدران التي التصقت به طيلة العام، ويتذكر فيه من يتذكر، ويتوب فيه من يتوب، لكن الصيام رغم حجمه الزمني بالنظر إلى جسد العام يظل مدرسة تربوية كبرى يستمر مفعول مؤهلاتها مدة طويلة تعبر بفاعليتها قنطرة العام إلى أن يحل رمضان جديد، وهذا هو القصد من تشريعه، تماما كما ينبغي أن يستمر مفعول الصلاة التطهيرى مدة تصل الصلاة بالصلاة، وهكذا لن يكون للإنسان مبرر كبير للانزلاق، وإن حدث وحصل، فقد جعلت باب عملية إعادة الاتصال بالسمو مفتوحة إذا وجدت الرغبة الأكيدة في ذلك. وإذا تعذر على الإنسان ولوج باب التطهر رغم محاولات الاقتحام فلينظر في عباداته في أيها الخلل، وأيها لا تترك أثرها فيه.
      إن العبادات الكبرى كالصوم تختبر قدرة الإنسان على الأداء، وقدرته على الارتقاء، وهو اختبار لا يستهان به، لذلك كان أجر الصوم عند الله جزيلا بمقدار ما يمثله من جهاد للنفس، تماما كما للجهاد في سبيل الله بالمال والنفس من أجر، وكما للصلاة في جوف الليل من أجر... وفي الجنة باب يدعى الريان لا يدخله إلا الصائمون. وإذا نجح الإنسان في اختبار الأداء هذا يكون مؤمنا حقا مصداقا لقوله تعالى: " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولائك هم المؤمنون حقا..." ولقوله صلى الله عليه وسلم " جاءكم المطهر" إشارة إلى رمضان، وقال جبريل فيما قال: " قل لا غفر الله يا محمد، قال: لمن يا أخي يا جبريل، قال: لمن أدرك رمضان ولم يغفر له، قال: لا غفر الله له ".                  
   بقي أن نجيب في هذه المقالة المتواضعة على سؤال واحد ومركزي هو: لماذا نصوم؟  لماذا التخلي عن الطعام والشراب والجماع ؟ وهو سؤال مشروع يدخل في صميم التعرض لبعض أبعاد الصيام وحكمه.
    التخلي عن الطعام والشراب بالنسبة للإنسان يحقق الكثير من المزايا:
 أولا: الارتقاء بالإنسان إلى إحدى الصفات التي يتصف بها الله سبحانه وتعالى، ولو وقتيا، باعتبارها أحد مدارج الكمال. فالله سبحانه يستحيل في حقه الأكل والشرب مصداقا لقوله عز وجل: " قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم ". أما الإنسان فيستحيل عليه أن يتخلى عن الطعام؛ إذ لا يستقيم له عود بغيره، ولا تستمر له حياة بسواه. ومن ثم فالتخلي عن الطعام يعرف الإنسان بالله في نفس الوقت الذي يحيله إلى مكمن ضعفه، ويعلمه التعامل مع نقطة الضعف هاته من خلال مواجهتها.
 ثانيا: تذكير الإنسان ببشريته، حيث إن التخلي عن الطعام والشراب يرشد الإنسان إلى بعض من نقاط الضعف البشري؛ فالبشر رغم تكريم الله له بالكثير من الخصائص التي جعلته مخلوقا متميزا بغير قليل من الطاقات والقدرات، إلا أنه يظل خاضعا للقدرة التي هيأت له طبيعته البيولوجية الضعيفة بشكل عام، فهو محتاج إلى الغذاء لاستمرار نوعه، وهي حاجة يشترك فيها مع الحيوان. إذن فالصيام يقول للإنسان: إنك بشر، وأن الإله هو الله الخالق الرازق. ولذلك كان الرد على المشركين وأهل الكتاب بخصوص إثبات بشرية الرسل أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق فقال سبحانه: " ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام ". 
    ثالثا: يتعلم الإنسان من خلال الصوم كيف يكيف حاجته إلى الأكل تكييفا إنسانيا مثاليا لا حيوانيا، بحيث يبتعد عنه قدر المستطاع للحفاظ على وضعه الصحي السليم من جهة، وهو ما اشترك في تقرير حقيقته العلم والنبوة، ف" المعدة بيت الداء "، والإفراط في الأكل يسبب الكثير من الأمراض المزمنة، ومن جهة أخرى للحفاظ على توازنه الروحي. ومعلوم أن الصوم يستبدل بالطعام والشراب "غذاء التقوى"، وهو غذاء لا يستهان به، وقد علم أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يشبع من طعام قط وكان يشد الحجر على بطنه، وبمقدوره أن يحصل منه على ما يريد، وقد هدد الله الكافرين الذين تلهيهم عن الحق نزعات المتع بقوله: "كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون"، وقوله: " ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في الحياة الدنيا واستمتعتم بها..."، فالصيام إذن يعلمنا أن الطعام والشراب ليسا للاستمتاع، ليسا غاية للإنسان، وإنما هما ضرورة لسد الرمق وبل الصدى، وقد ورد في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: " ما التحف عبدي بلحاف أبلغ عندي من قلة الطعم ". وإذا قلنا إن التقوى تصبح بديلا من الطعام فإننا نعني بذلك أن الإنسان إذا بلغ مبلغا جليلا في التقوى كفاه الله هم الطعام، فوفره له حتى من غير جهد دون أن يفهم من ذلك أي تكريس لدعوى التواكل، مصداقا لقوله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذنهم بما كانوا يكسبون "، وقد أنزل الله المن والسلوى على بني إسرائيل يكفيهم بذلك رزقهم وأمرهم بالعبادة والتقوى، وحين قطعت مريم في العبادة شوطا عظيما وجد عندها زكريا رزقا " قال أنى لك هذا قالت هو من عند الله..."
    رابعا: من مزايا الصيام بخصوص ترك الطعام والشراب أنه يذكر الإنسان بنعم الله عليه، لأن البشر غير قادر على إيجاد طعامه وشرابه بمحض إرادته وخالص قوته وحوله، ولذلك جاء الأمر بالأكل في االقرآن الكريم في كثير من الآيات مقرونا بالشكر لله وتجنب طرق الشيطان، من ذلك على سبيل المثال: " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون " " كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان ".
    خامسا: نتعلم من الصيام أن الرزق وهو الحاجة البشرية الضرورية لتأمين الحياة غير منوط أمر توفيره بالإنسان رغم أمر الله له بالسعي سعيا معتدلا لتحصيله، وهو المفهوم من قوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " ولقوله عليه الصلاة والسلام: " لن تزل قدما عبد حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب "، وهو ما يؤكده أيضا تفضيل الله سبحانه وتعالى الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله على تعمير المساجد وإطعام الناس وسقايتهم في قوله تعالى: " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله..."
   أما ترك الجماع فيحقق بدوره مزايا عديدة منها:
   أولا: الارتقاء بالإنسان مؤقتا إلى إحدى الصفات التي هي من صفات الله تعالى وملائكته؛ أما الملائكة فلأنهم مخلوقون من عناصر غير مادية ذات طبيعة تختلف كليا عن طبيعة البشر، وأما الله سبحانه وتعالى عن كل نقص اتسم به خلقه فلأنه مستغن بذاته عن شريك، واحد أحد، تفرد بالألوهية والكمال المطلق لقوله سبحانه: " أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم...". إن الإنسان إذن وهو يصوم يرتقي إلى مرتبة عليا يصبح معها في وقت محدد مجافيا لأدنى خصائصه معانقا لأسماها وأجلها، لأن الجماع كما تعلمون شهوة حيوانية، سماها القرآن الكريم " الرفث "، يعمل الصوم على تهذيبها؛ وذلك للتنصيص على أنها ليست الهدف الذي يؤرق بال الإنسان بقدر ما هي وسيلة للإحصان داخل دائرة محدودة هي الأسرة، يجلب بواسطتها الولد وتقضي بها النفس حاجة طبيعية لها آثار إيجابية وسلبية على النفس تبعا لحجم المنع أو الإتيان.
    ثانيا: الامتناع عن الجماع يذكر الإنسان ببشريته ويدله على إحدى نقاط الضعف البشري؛ لأنه محتاج إلى الجماع لضمان استمرار جنسه، ومن ثم فالإنسان غير قادر على تحقيق وجوده مفردا، بل لا بد له من شريك أنثى حتى يبلغ هذا الهدف، طالما أنه محكوم عليه بالفناء، كما أن الإنسان محتاج إلى هذا الشريك لغير هذا الغرض، بل لغاية أخرى لا تقل أهمية: وهي حاجته إلى السكينة والمودة لقوله تعالى: " هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها "، ثم إن الضعف البشري يتجلى في صورة أوضح في اشتراك الإنسان المخلوق المتميز مع غيره من الحيوانات والحشرات في هذه الغريزة مع وجود فارق في التعاطي والتنظيم.
   نتعلم من الصيام إذن أن الإنسان معني بالابتعاد عن الإفراط في الشهوات التي أحلها الله، أما ما حرم من أكل وشرب وجما ع فذلك ينزل بالإنسان إلى مرتبة يفقد فيها إنسانيته بل وبهيميته، فيصبح كائنا شريرا لقوله تعالى: " أولائك كالأنعام بل هم أضل أولائك هم الغافلون ". إن الإنسان بحاجة إلى الرقي بكبح جماح الغرائز والشهوات، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في العشر الأواخر من رمضان يطوي فراشه ويشمر للعبادة.
    إن بشرية الإنسان المطلوب السمو بها والصبر على إكراهات الارتقاء تنتهي ببشرية سعيدة في الآخرة، بشرية من صنف آخر تعدل طبيعتها بما يناسب مفاهيم الخلود والطهر الحقيقي، فالإنسان في الجنة يأكل من ثمارها وطعامها أكلا يحقق به المتعة الخالصة والاكتفاء المطلق من غير أن يترتب عن هذا الأكل فضلات أو نفايات أو قذارة لأن ذلك من خصائص العالم السفلي عالم الدنيا الذي يحمل الصيام مسؤولية التخفيف من وطأته، ولعل من أهداف حاجة الإنسان إلى السمو الزهد في متع الدنيا والتطلع إلى المتع الأسمى والأبقى. وأظنني لا أشط عن الجادة إذا زعمت أن آدم وحواء قبل إنزالهما إلى الأرض بمشيئة الله كانا يأكلان من تلك الثمار وذلكم الطعام العلوي الذي ينساب في الجسم انسيابا دون أن تترتب عن ذلك مخلفات، وهما على الهيئة العلوية التي وصفنا؛ لأنه ورد في الحديث ما معناه أن الجنة طاهرة لا مكان فيها لنجاسة، وإنما حصل ما حصل لهما، لحكمة أرادها الله، من تذوق الشجرة المنهي عن أكلها لتبدأ دورة حياتية مختلفة ونظاما غذائيا من نوع آخر على الأرض.
   إن صفة الكمال المطلق خاصة بالله عز وجل المتنزه عن كل نقص؛ لأنه يستحيل في حقه سبحانه وتعالى ذلك، كما يستحيل في حق خلقه الاتصاف بالكمال
المطلق، ورمضان يرشدنا إلى ذلك، ويعلمنا كيف نسمو ونتطهر ونجدد تألقنا الروحي وإشعاعنا الإنساني جسديا ونفسيا وسلوكيا.



 
  محمد الدواس (المغرب) (2009-09-17)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

فلسفة الصيام-محمد الدواس (المغرب)

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia