" كلاب صديقة "-محمد مباركي (المغرب)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

" كلاب صديقة "

  محمد مباركي    

انكمش المساء متدثرا من صقيع الليل القارص ، و بدأ الظلام يتراخى على الشوارع و الأزقة  الشبه مقفرة إلا من الحيوانات الأليفة الضالة ، إذ هرول الناس إلى منازلهم يلتمسون الدفء بين جدرانها ، على موعد  مع الحساء الساخن ، يسردون وقائع يومهم على بعضهم البعض ، و هذا الطفل المتسكع ، لا يعبأ بقر هذا الشتاء، يمد يده اليمنى للمارة يسألهم صدقة ، و يده اليسرى جاثمة بخرقة على أنفه ، لا ينزعها إلا ليبللها بمحلول قنينة يدسها تحت حزامه بإحكام ، يترنح مرددا لازمة أغنية عشقها " قولوا لمي ماتبكيش .. ولدك باصا ما يوليش "..
و فجأة ، كف عن الترنح و بدأ يحملق في وجه سيدة في الأربعين من عمرها ، حتى سقطت الخرقة من يده و نادرا ما تسقط ، و مد ذراعيه محاولا ضم هذه السيدة صارخا " أمي " ، و هي عادته كلما استبد به  محلول السم القاتل ، فنهرته السيدة و دفعته بيد قوية هزت جسمه و روعت روحه الثملة ، و راح ينظر إلى المرأة كيف تنحت جانبا و هرولت إلى الجانب الآخر من الطريق مذعورة ،و هي تمطره بوابل من السباب ، لم يع واحدة منها ،كأنه لم يسمعها ، و واصل يدمدم " أمي .. أمي .."
 صاحت تلك السيدة بصوت رجولي أجش أعاده إلى صوابه المهدور ، صوت أمه رخيم كخرير مياه السواقي القريبة من بيت الطوب، هناك في قرية معلقة في جبل كعش العقاب وسط بياض ثلج لا يزول إلا مع أواخر الربيع ، تبدو زاهدة في متاع الدنيا مبتهلة إلى رب السماء ،تعيش الكفاف بكل تجليات الحرمان و العوز .
ماتت الأم في وضع طفلها الثاني ، و تزوج الأب، بقراءة فاتحة الكتاب و مهر لم يتجاوز قنطاري شعير ، من امرأة يكفي أن تذكر النسوة اسمها لأطفالهن حتى يجمدون في أماكنهم و ينامون مبكرين كالدجاج ، وجدت هذا الطفل أمامها، جرعته مرارة الإهمال و الجوع أمام الصمت الرهيب لأب هرم قبل الأوان، يقضي أغلب نهاره في المراعي الجبلية يرعى قطيعا من نعاج عجماء ، و لا يعود إلا مع الأنفاس الأولى لليل المتفحم ، يدخل ماشيته في مكان يسمى زريبة ، يصلي آخر الصلوات، و يرتمي على فراش من القش ، يسأل زوجته عن الطفل ، فترد بوابل من الشكاوى و سوء الحظ من زواج لم تكن لترضى به ، لا يرد عليها ،لغط في نوم عميق حتى يستيقظ مع خيوط الفجر . و هكذا تتناسل الأيام في رتابة قاتلة كرتابة حمار الطاحونة معصب العينين .
يفزع الطفل من الصوت المجلجل لزوجة أبيه ، يقعقع في أذنيه كالرعد ، كله أوامر يعجز عن تنفيذها .. ينزوي في ركن من البيت يبكي طويلا حتى تتقرح عيناه، و يهز النشيج المتلاحق جسمه
 و يسيل مخاطه حتى ينام ، فتلقي به فوق جلد خروف بلا غطاء
ينكمش على نفسها كالقنفذ ،يحن إلى وضعيته الأولى  لما كان جنينا في رحم أمه .
و توالت الأيام والسنون تنسخ الواحدة أختها كالزفت ، و يصطحبه أبوه إلى سوق القرية المجاورة ، ما كان قد رآها أبدا، رجال و نساء و أطفال و دواب فولاذية تمخر الطريق المستوية ، و دور متراصة أعلى من دور "عش العقاب " .. انبهر بهذا العالم الفسيح .. كان يعتقد أن العالم ينتهي في قريته .. مقت القرية و من فيها، و انغرست في أعماقه فكرة الهروب إلى ما هو أوسع منها ، إلى قرية السوق و ما وراءها .. ذكروا له أن المدينة أوسع ، فبات ليالي كاملة يرسم معالمها ليجد نفسه، يوما ، ممزقا بين شوارعها لاهثا وراء اللاشيء ..يبدد جوعه من قمامتها، يزاحم الكلاب الضالة حتى ألفته و نام في أحضانها تحت سقيفة المحطة الطرقية ، يطرد البرد بفرائها ، و دان الواحد منهما للآخر في وئام مطلق .. أطلقوا عليه لقب
" بو كلاب"  فاعتز باللقب حتى نسي اسمه .. صوره أحد الصحفيين مع كلابه، و نوه به في مقالة طويلة ، و التقط له سواح أجانب صورا حملوها معهم ، و اشترى أحدهم منه كلبا من فصيلة نادرة بمال، كان في أمس الحاجة إليه، اشترى به لحما لكلابه قسمه عليها وفق السبقة في الصحبة و الوفاء في " التغطية الأمنية " له من المعتدين . ينام مطمئنا و هي بجانبه . بكى أحدها لما نفق ، دفنه في حفرة خارج المدينة ، لكن داء السعار أنها العشرة بينه و بين كلابه ، أبادتها خراطيش بندقية صيد  عون بلدي ،فغادر المدينة
 و أقسم ألا يعود إليها ..



 
  محمد مباركي (المغرب) (2009-09-23)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia