مسني جنون القراءة بعد منتصف الليل ، إذ يهدأ البيت من شقاوة الصغار و يدخل الكبار في بيات شتوي كالدببة ، إلا من الوالد يتهجد في غرفته الأرضية تحت ضوء خافت متناغم مع قدسية المكان ، و هكذا دأبه كل ليلة ، يناجي ربه و يدعو للأمة بالصلاح و النصر. أسمعه يهمهم ، فأتساءل، أي نصر يا والدي في الزمن المشئوم ، شؤم أهله ؟ فهؤلاء الجيف ياستأسدون في القطاع أمام أعين الدول العظمى و الصغرى على السواء ، و هذا حارس البستان المعلوم ، سيعتقلونه كاللص ، لن يفديه أحد بالروح و الدم كما ينعقون بشعارات الزبل ، لن ينفعه صولجانه الملوكي . كيف ستكون صورته، مصفد اليدين، و قد زحفت الصفرة على لونها النيلي الداكن ، هل سيكفر عن ذنوبه ، بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ، قبل أن يصطادوه من جحره كالجرذ ؟
يا والدي ماذا تقول في هذا التلاسن، لغة لغط ،تبدأ به الجلسة الافتتاحية لقمة تنزلق إلى الحضيض
و تنتهي قبل أن تبدأ ، و ينفض المؤتمرون سكارى و ما هم بسكارى ؟
أدعو لي الله ، يا والدي ، أن يبرأني من جنون القراءة بعد منتصف الليل .
أنظر لهذا الكاتب كيف يتحذلق كالمومس بين كلمات و سطور كتابه مقالاته ، يتزلف للحاكم ليكرمه بمنصب وزير حقوق الإنسان ، أو وزير للسياحة من نوع خاص ، . هل أسميه مثقفا ؟ و الثقافة صفة ملازمة للرفض . ماذا أقول لشهداء الكلمة الذين مضوا ، وقد قالوا " لا " للحاكم في عنفوانه و جبروته ؟ هل أحكي لهم عن دار لقمان كيف تحولت إلى ماخور تمارس فيه الدعارة السياسية . هل أحكي لهم عن المهذارين كيف يتفننون في التمسح بالأعتاب . شاهدناهم أمام منصات الخطابة يكسرون ألواحها بقبضاتهم الحديدية فيلهبون حماس من لا حماسة فيه. و بقدرة قادر أصبحوا ولاة أمورلا يحسنون سوى الضرب على طبل الاكراهات، حتى عافهم الناس .
يا والدي إن الزمن يحبو إلى الوراء ، و أنت تعجبني بخلوتك الصوفية ، تغترف من طواسين الحلاج
الهيام و العشق الأزلي . أدعو الله أن يقبضك في المحراب مبتهلا لأبني لك ضريحا يصبح مزارا لأبنائك يدعون لك حتى لا ينقطع عملك . يا ناسكا وحده وحد الأحد، قد كثر أرباب الوثنية في وطنك ، ركوع
و سجود لآلهة من لحم و دم .
يا والدي أما آن لهذه الأمة أن تأخذ درسا في البناء ؟
لماذا هذا القزم ،من ستينات القرن الماضي ، لا يتذكر إلا أحقاد حرب البسوس في الصحراء ، كيف تحول إلى حاكم أثخن المرض جسمه و لا يريد أن يتململ ليعود إلى أرشيفه المغبر في أقبية النسيان . لماذا أ نفق ما جاد به النفط على تكديس أسلحة انتهت صلاحيتها، فلا هو استعملها ضد الجيف لما دخلوا القطاع و لا هو باعها متلاشيات لشراء الخبز و بناء قاعات للدراسة ودور للسكن ؟
يا والدي ما لهذه الأمة ارتدت الجنون لباسا و تاهت في الغبراء ؟