الـبـذر حـــبّ بـلا عـصـف . الـزرع لا اخـضـّر و لا هـاج . الـشجر مـجـتـث والأرض دخـان . الـوحـشـة تـسـتوطـن هـذه الأرجـاء . و هــو الـمـوغـل فـي الـغـمـوض فـوق الـرمـاد يـنـشـر خـطـوه ؛ يـطـوي زحف الــصـحـاري . لا شـقـوق الأرض و لا عـطـشـها قــد أطـاحـوا بـسـلـطـانـه و بـارق فـي سـمـات الـوجـه . مـخـلـوق و لا كـكـل مـخـلـوق! ..
مـن أقـاصـيـها جـاءهــا يـسـعـى يـجـابـه الـحـجـارة
و الـريح ، يـنـشـر رائـحـة عــزم مـلء الـفـضـاء . كــّل الأسـبـاب مـلـك يـمـينه . كـل الأشـيـاء طـوع مـراده !...
الـصـمـت الـذي ابـتـلـع شـجـر الـصـبـار. الـزمـن الـطـولـي الـغائـر . الـمـطـر الأجـاج . عـراكـ الـثـعـابـيـن عـلى الـحـربـاء . مـثـلـه جـبـار فـي خـيـاره و طـريـقـه مـتـحـريـها على أدق الـخـرائـط . الـظـفـر بـها يـعـيـقـه الــتـعـثر لـكـن صـنـفـه لا يـتـعـثّر .
هـي ذي الـجـزيـرة صـاحـبـة الـصـيـت . ذات الأطـوار والـصروف... تـحـشـو بـطـنـها بـأسـاطـيـرها . أيــن رواتـها ومحـدثـوها ؟ .. مـا الـذي عـصـف بـكـعـبـة الـمـسـك وجـوهـــرة الـسحـر ؟! ..مـا أفـقـر الـحـدائـق و الـبـسـاتـيـن مــن غــلال الـمـنّ و الـسـلـوى !.. مـن أودعـها الـشـراك حـتى تـنـقلب هـذا الـمـنـقـلب ؟.. هـي الـسابـتـة الآمـنـة لـو لا عشـيـة الضـيـق السـافـرة قـبـضـة فـي سـديـم المـجـهـول. ذعُـر لـها الـمـزارعـون تـشـفـعـوا بـالـنـذر و بـاءوا بـسخـط لا مـردّ لـه . بـل هـي كـريـح صـرصـر طـافـت بـالـنـا س و خـصـب الـبـقـاع .أردفـها دوي تـهـشـّم السـيسـمـوغـراف* . تـقـطـع نـوم الـولـدان و تـجـمد يعـسـوب الـذاكـرة . تـعـطـل الـشـمـوخ و اسـتـفـحـل الـداء . دب سـوس عارض يـمـتـص الـرحـيـق . خـار مـا بـالـقـطـعـان مـن الـعـزم عـلى الـمضي ؛ إذ وقـف الـنـمّال يـجـحـظ الـبحـر . مـن الـذي لـمـا يـزل يـروي عـنك ؟.. فـلـجـدائـل الـبـهـاء ثـمّـة رنـة.
و لخـضـرار الـنـفـوس ثـمّـة قـصـة. و لـعـسـل الـعـيـون تـنبـسـط فـراديـس الـصـابــة .
...الـمـاضـي فــي إصـرار يـقـرع طـبـلـة الأذن يـجـتـاح أحـد الـقصور .. أصـابـع خـفـيـة تـهـيـأت .. تـزحـلـقـت عـلـى درج بــيـانـو عـجـوز ثـّم بـاشــرت الـعـزف . الأنـغـام الـمـنـبـعـثـة فـي اسـتـرخـاء سـربـت من الـدهـشـة فـي الـنـفـوس مــا أودعـها فــي الأزقـة كريـشـة فـي الـمـهـب.
و أصـبـح فـي الـجـزيـرة و هـي تـمـور ...هـا سـوقـهـا
و نـهـارهـا الـمـسـعـور. لــمـّا ألـم ّ بـها الـكـرب غــارت مـجـاريـها و أنـسـد دون الخــلق رزق كـريـم. و الحـال حـال أهـالـيـها مـجـذوب الـجـزيـرة يـقــذف فـي الـوجــوه :
» الــدّيــان !.. الــدّيــان !.. لا صـاع ولامـكـتـال . الـنـّاس نــحـل و مـا بـالـسـوق طـنـيـن ذبـاب .«
فـتـيـة يـسـندون ظـهـورا لـلـخــواء . يـتـفـحـصـون الـضـّيـف الـنـازل بـالـديــار . يـبـحـلـقـون . يـتـفـرسـون الـعـجـب الـعـجـاب . الـقـدوم إلـى جـزيـرتـهم لا يـتـأتـّـى سـوى لـمـن يـعـبـر الـبـحـر ، أمـا هــو فـلـقـد اسـتـأثـر لـنـفـسـه بـمـفـاتـيـح الأســرار ! … يصـدق عـلـيـه الـقـول : كــالـظـلّ يـمـشــي و لا يـبـتـل فـي الـمـاء . ســّر مـن قـبـيـل الـسـحر ، بـلا اعـتـراض أسـلـمـهـم شـيـعـا لـطـارئ إحـسـاس . عـيـونـهـم لا تـتـورع عـن لـعـق طـلاقـة وجـهـه . أفـئـدتـهـم تــدقّ نـواقـيـسـها بـالـصـدور. مـا يـدريـك لـعـلّ صـبـح الجـزيـرة الـمـوصـدة تـنـفـس بـمـعـجـزة على الأقـفـال ؟.. حــريىّ بـسـجـنـائـهـا الـتـشـبـّث بــالـبـصـيـص .
الـفـزع و الـجـوع … الـبـحـر هـنـا قـابـع يـتـربـص بـهـم . عـلى حـيـطـة يـقـفـون بـسـواحـلـه فــي يـأس . وطـأة الـزلـزال جـاءت أشــدّ مـمـا تـنـبـأ بـه الـمـنـجـمـون . الـفـلـك الـمـبـحـرة ما عـادت إذ تـهـشّـمـت و انـدكّـت الـراسـيات فـي الـمـوانـئ . لـم يـعد هـنـالـك لـلـقـوارب أثــر . الـصـيّـادون يـضـربـون أكـفّـهـم بـعـضـها بـبـعـض . بـــّرا ، تـقـدح الـنـار إثـر تـعـاقـب الـهـزات . يـتـأجّـج غـيـض الأرض.. شـيـئـا فـشـيـئـا تـتـابـعـت الـزوابـع
و الـرجّــات لـتـنـفصل الجـزيــرة الـكـبرى عـن بـاقــي الجـزر . تـقـطـعـت فــي مـا بـيـنـها الأسـبـاب . حـمـل الـصيـادون عـلى رمـي الـشّـبـاك فــي خـلـجـان البـحـيـرات . حـرص الـمـرداس الـلّـعـيـن علــى أن يـظـل بـضـاعـة بـلا مـزاحــم .
الـمـاضي يـزاحـم الحــاضـر . يــقـف لـه بـالـمـرصـاد .
علــى درج الـبـيـانـو الـعـجـوز ، الأصـابـع الـخـفـيـة خـلـصـت لابـتكار الـحـركـة الـثـانـيـة لـمـعـزوفـة قـارب الـمـوديـصـا... الــنّـوتـات الـمـجـنـونـة تـأسـر الأسـمـاع . تـغـشــى الأفـئـدة و عـصب الـكـيان …
الـتـرنّـح بـاد علــى الأهـالـي . كـأنـي بـالـكـثـير مـنـهـم انـتـابـته حـالـة خـبـل . لـم تـفـلـح الـجـموع فـي سـّد آذانــها عـن السـماع لئـلا تـأخـذ بـها الـرقـصـة الـمجـنـونـة فـي الـدوران إلـى حـد الـدوار .
الـضـيـف بـه رغـبـة لـلإخـبـار . سـواحـل حـدوتـه بـها جـواهـر الـكلام. يـخـشـى عـلـيـهم مــن أن تـأخـذهـم إغـفـاءة ثـقـيـلـة .
فـي قـرارتـه يـستـرسـل :
- لا جـدوى لـزرقـة الـسمـاء بـلا انـطـلاق . سـجـنـاء هـؤلاء الـقوم!...لـو تـدبـّروا أمـرهـم ، لـو فـقـهـوا خـلـلا مـزقـهـم شــّر مـمـّزق .
بـيـد أنـّه و الـنـاس تـلـعـق طـلاقـة وجـهـه ، تـعـمـّد الـسكوت . فـيـما أخـذت الـمـشـاهـد تـتـحـّرى طـريـقـها إلـى بـصـره ؛ ظـل هـو يـلـتـقـطـها حـركـة سـاكـنـة.
لا نـدري أمـن بـاب الـعـجز هـم قـد تـحـلـقـوا مـن حـولـه بـدل الانـصـراف لـشـبـه بـيـع و شـراء ؟… أم تـراهـم كـما لـو حامـت الـطـيـر فـوق رؤوسـهـم و هـو يـخـافـتـهم بـالـقـول :
- لـيـس لـكم مـن خـلاص سـوى عـلى يـديـه !.. « .
لـلـحـظـتـها ، لـم يـبـق لـلـناس علـى قـلـوبـهم سـلـطـان . الـتـّوق تـخـطًـفـهم مـهـجا قـبـل انـطـلاقـهم وجـهـتـه .
... الـسـفـن تـمـخر الـعـبـاب ... تـنـشـد سـواحـل الـجـزر الأخـرى . الـبـحـر الآن فـقـط بـدأ يـشـعـرهم بـأنـه علـى الـعـكـس ، سـبـيـل لـلـحـيـاة . بـحـواسـهـم يـلـمـسون الآن وجـه الـعـالـم الـبـعـيد !…
يـطمئنون البشـريـة علـى إنـسـانـيـتـهم . يـسـتـعـيـدونـها كـامـلـة . يـغـالـبـهـم الإسـرار بـدل الـدمـوع يـروي أحـشـاء مـسـها الـجـدب. . هـم هــكـذا رحـلـوا مـلء الـتـيـار الـمـوجـب .
- سـارعـوا إلـى شـيـخـكم العـليـل ذي السـبحـة الـبـيضاء !...
غـامض هـذا الـتحـول فـيهم! لـمـسة مـن نـور طـوحت بـهم فجـأة بعيدا تـزرع نـبوءة مـا بـظـهر الغـيب . الآن تـبرز الـحقول قشـيبة صـورتـها بـأذهانـهم يـتراشـقون حولـها بالياسميـن . خـارق ضـيفهم هـذا الـذي صاروا رهـن بـنانـه . تـحـسب أن سـره مـن سـر الـقدوس ووقع حـديثه لآيـة .
- رحـمة بـنا يـا شـيخنا الـوقـور . هـل تـرانـا فـاعـلين إلا بما تشـير
- وتـأمر . و قـد زاروه جـموعا .
- خـلاصـكم ، يـرقد بـغابـة الـزيـاتـين ؛ أحـسموا فـي النوايا . تنبشون الـغـابـة ، تـفـتحون الـتـابوت ، سـتهـتدون بـلا ريـب للـنجاة مـن الأســـر .
- إلـى الـتابـوت !… إلـى الـتابـوت ! … سقـطت في أذن الجزيرة بسرعة الـضوء !.. تـدافعـوا بـالـمناكـب . شـعـور اسـتولى علـيهم يـدًعي خـوض الـمعـامرة . لا شـك أن لـطعـمها مـذاق .
إلـى الـتابـوت ... تـجري عـلى كـل لـسان . تـدفـع قـدما بـالحـشود
كـي تـحـسم في الـنوايـا . إلـى الـتابـوت لا غـير !..بـقـدر مـا حـمست ، أحـدثت ما يـعـيق .
- دسـائـس و زنـدقـة أن يـنبـش و يـفتح الـتابوت!.. يـهـتف الـمـنـشقون . تـراجـف الـقوم سـاعـة يرغون ساعة، يعـوصون .
أمـا الـفـتية الـمـطـرودون مـن مـملـكة الـشـيوخ فهـم ينصتون والـفـتوة فـيهم دم يحـاصـره الـوبـاء .
قـشـرة الأرض المـهـترئة تـطلق هـشـيمها . تـحت ردس الأرجـل ، يـتـصاعـد غـبار بـين مسـالك تسلم جـمـيعها لـغـابـة الـزيـاتـين .
مـا أعـجـبـه مـن مـنطق يقـف في صف الـظـروف وعلـى كـل جـبهة يـناور! ..يجـمع الأضـداد علـى طـريق منسي. يـدجن المـسـتحيل . حـين الـقنوط لا يـجب أن يـسـتبد . يـحج بـهم صوب سـر الأسـرار الـراقـد فـي جـوف الأرض . مـا أروعـه مـن ضـيف خـارق !.. مـا حـط الـرحال هـنا إلا لـيـشـابك مـا ظـل مـنـفصما دهـرا . قوة خـوارق هـذي الـتي قـذفـها فـي مـهج الحـشود ، لـيـسـتقر فـيها سحره الـنـافذ . تـرى هـل ظـله مـازال يـمشي بـين الـجموع مـتـخذا حـيال الفتية جـناح مـمر ؟
كـل مـا يـحيطه بـشـأنه ألغـاز و غـموض . كله تـؤدة يـترجل وسـط الـجموع بـطـلاقة وجـهه أو هـكذا بـدا لهم .
... أيـها الـسر تـجـلى ! … أنـقذ مـا بـدا لـك . ما أمـكن إنـقاذه. مـن وطـأة الـوهن اسـتويـا و مـن زمـن بـنـفوسنا ريـب و يـقين .
تجلى أيـها الـسر ، لـك سـواعـدنا و مـا يـجري فـي الـعـروق . للتراب الذي تـتوسـد ، هــا هي أنـا مـلنا تـنـبش و لا تـكل . فـبحق وجـوهنا المعـفرة أنت وحـدك تـستحق الـرهان . هـاذي الـزيـاتين مـهيبة الظلال تضمخ المكان ، تـحـفظ أثـمن الأسـرار . ذي مـعاولـنا تـخـتبئ .. مـا تغوص حتى تـظـهر . نـحن هـنا نـتـقفى أقـوى الاحـتمالات للعـثور عـليك .
تـجلى أيها التـابـوت هـيا !
أمـا الـفـتية الـمطـرودون مـن مـملكة الشـيوخ ظلوا مـتحلقين حـولهم يهـزهم نـشـيد طـامئ الانـبعاث و الاسـتـجداء لـيلا .
- مـا أغـرب مـا نرى! ..هـاهـو ذا الـتابـوت الـضخم خـاو إلا مـن .. مـاذا ؟ مـنجل ، قـطعة قـماش خـضراء و كـتاب مذهب ؟
- أ لهذه البقايا الـغـامضة زج بـنا حـشود و جـيء بـنا إلـى هنا ؟
أم للـتابـوت ثـمة غـاية ؟ وللـرمـوز مـرام لـم نـدركها بـعد ؟
- تـعالـوا نـرجـع ببـقايـانا لعـلنا نهـتدي بـها فنـنجو مـن الأسـر .