خرج في هذه الليلة الظلماء يتلمس فضاءا أوسع من هذا الجحر الذي يسميه منزلا، الكائن في أطراف المدينة الزاهية بشوارعها المضاءة بأعمدتها الكهربائية الباسقة ، تمنى لو جادت قلوب المسئولين بواحدة منها فقط لتطرد هذه الحلكة على جبين هذا الحي المترامي الغاص بهذه النفايات البشرية التي تعمره كالجراد . خرج يريد المشي نصف ساعة عملا بنصيحة طبيب الحومة ،و هروبا من عش بدا له أنه آيل للسقوط بلا شك .فهو موظف بسيط بالكاد يستطيع تلبية الطلبات اللانهائية و الجائرة للبيت، طلبات ليست ضرورية في الغالب. لم ينتبه إلى نفسه سنوات قد خلت، حتى الجوارب تآكلت، و لم يستطع شراء أخرى،
و اكتفى بترقيعها ثانية و ثالثة ما دامت لا تبدو للعيان. عاف الأسواق و اعتبرها شر الأماكن.
خرج و في ذهنه صورة التنافر بين أفراد أسرته التي كونها ، لكن إخراجها لم يتم حسب ما كان يأمل . أصبحت كفرقة مسرحية تلعب مسرحية هزلية مبتذلة سيئة الإخراج، بديكور رديء ، و أشباه ممثلين ينطوون على خشبة مهترأة كالقردة ، صاح في سره " أين الأحلام من هذا الواقع؟ " ، هو الذي كان متهما من قبل أصحابه ، أيام الدراسة، بالمثالية إلى درجة الجنون، نصحوه بأن يكون واقعيا ،لكنه كان عنيدا في التمسك بأفكاره ، ولا يقتنع بسهولة ، أطلقوا عليه يوما لقب " معزة " .
تزوج ليحصن نفسه ،من هول التسكع و العربدة و العشق و الليالي الحمراء .. يتذكرها اليوم بأسف شديد ، بطلاتها فلانة و علانة ، لم يعد يتذكر الكثيرات منهن ، و قد احتار من أمره الآن ، كيف يجد نفسه مشدودة إلى صورهن بإلحاح و عناد ، تحضر كالأطياف تلاحقه في المكتب و الحافلة و الشارع و البيت حتى في غرفة النوم فوق السرير الذي أصبح باردا كالصقيع، لا يرحم ، بعدما كان شهوة متأججة جامحة تصنع الأعاجيب ، و ظن أنه سيبقى كذلك إلى الأبد ، لذا قلل من الأكل و الشرب و مارس الرياضة، حتى الشعيرات المتساقطة زار من أجلها الأطباء للحد من الزحف الملعون للصلع .
و ها هو يخرج في هذه الليلة الظلماء و الريح تزمجر و تلفح الوجوه بالغبار في لعنة و غضب شديدين . قال حانقا " الزوبعة في الداخل و الزوبعة في الخارج " ، ترك الكل و خرج باحثا عن لحظة يطمئن فيها إلى ذاته يحادثها و تحادثه محاولا التفاهم معها ،بعيدا عن التنافر الذي عصف بكل علاقة حميمية في البيت. البنت البكر عاطلة بشهادة ،تنتظر بعلا يأتي و لا يأتي ، تتعصب لأتفه الأسباب ، أرعبها غول العنوسة يدب على عمرها، يوحي لها بالفناء في الثلاثين من العمر ، طلباتها أقل من إخوتها الذكور ، يتأرجحون بين البيت و الشارع ،لم يفلحوا إلا في البطالة و قبلها الفشل الدراسي ، صراع بينهم دائم في غرفة النوم ، حول مائدة الأكل. اهتدت الأم إلى حل، أن يأكل كل منهم لوحده ، فزاد ذلك من نهمهم
و ازدادت معه المصاريف ، تلتهم الحوالة كلية عند منتصف الشهر ، يستدين و يستدين من الأصدقاء
و الأقارب ، ويعجز عن الرد .