المجذوب-محمد مباركي (المغرب)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

المجذوب

  محمد مباركي    

هرع سكان الحي إلى بيوتهم مبكرين مع مغرب هذا اليوم ،و جثم الليل بسرعة على الحي ناشرا سكونا أخرويا على البيوتات و الطرقات . و انتهت إلى مسامعي، كالعادة، همهمات عمي "صالح" يخيط الأزقة  الواحد بالآخر في حلقة مفرغة كبغل معصرة الزيتون ، حافي القدمين ، يدق الأرض بعصا من الخيزران ، يتكئ عليها و يهش بها على الكلاب الضالة غير كلاب الحي التي تعرفه و تألفه و تشاركه طعامه .
عمي "صالح" هذا ركن من أركان حينا الذي تمازجت فيه عناصر البداوة و الحضر . سكانه من أصول قروية ،نزحوا من البادية فارين من المسغبات، و سكنوا في دور الفرنسيين الذين رحلوا . يلبس هذا الرجل عباءة و برنصا تآكلت أطرافه و استحال لونه من البياض إلى السواد ، و يغطي رأسه بعمامة سوداء كأهل الصحراء . نسج رجال و نساء الحي حول شخصه الأساطير الطوال ، لا وجود لها إلا في مخيالهم الاجتماعي ، قالوا إنه جاء من بعيد ، من وراء بحر الرمال مشيا ، لسحنة وجهه الداكنة و صغر عينيه  المتعاهدتين مع  الأفق لا يحولهما عنه ، لا يكلم و لا يستجدي أحدا .
كنا نخرج من الكتاب نتسابق على لثم يده اليمنى القابضة على مسبحة باكورية طويلة ، كانت أمهاتنا تحثنا على ممارسة هذا الطقس ، حتى أصبح عادة زاحمنا فيها رجال و نساء الحي للتبرك و التوقير و الاحترام، كففنا عنها نحن مع الكبر لما نضجت عقولنا . سألت أمي يوما عن بركة الشيخ ، فأخرستني بصفعة على خدي لازال طنينها يهزني كلما تذكرتها الآن في كبري و قد هرمت .
لم تكن عقولنا الصغيرة تفهم ما يقوله الكبار عنه، قالوا أنه رجل صالح من " رجال البلاد " ، قال بعضهم أنه شاهده كغراب يطير بجناحين كبيرين ، و فسر آخر غيابه عن جماعة المسجد بكونه يصلي يوميا في الحرم المكي . فاقتنعنا أن الرجل ليس كمثل كل الرجال، و الزمن عنده كحبات مسبحته يطويه كيف يشاء . كنا نتابع النسوة تترجاه أن يخلصهن من الغبن  ،" يا سيدي صالح  قد أضناني الزوج بالهجر، أعده إلي ، و نذرت لك جديا أسودا ". " يا سيدي صالح  قد تكالبت علي ابنتي سنون العنوسة ، فأتني بعريس "
 " يا سيدي .. يا سيدي .."  و هو شارد يمشي قدما لا يعبأ بهن، راسما نصف ابتسامة على شفتيه الغليظتين المتنافرتين ، و داخله ، لا شك ، ضحك  من وثنية الاعتقاد في العباد دون رب العباد  . و كانت فرحتهن لا تسعها أرجاء الحي ، إذا وقف بباب إحداهن ، فتهرع إلى المطبخ تأتيه بألذ الطعام ، لا يصيب منه إلا لقيمات ، يستلها بالسبابة و الإبهام ،كأنه يستل شعرة من عجين ، و يواصل طريقه ، فتدخل المرأة مسرعة توزع ما بقي في الإناء من طعام تسميه " حريف سيدي  فيه بركة " . و يتملكني التقزز من أكل هذا الطعام الذي غمس فيه الشيخ أصابعه القذرة ، و أتظاهر  أمام أمي بالأكل سرعان ما ألفظه في غفلة منها .
كانت تأتي هذا الرجل نوبات، ينتظرها سكان الحي ، يبدأها بصرخة مدوية ، تنخلع لها أفئدتنا الصغيرة ، و تشرئب لها الأعناق من كل أركان الحي ، و على غير عادته يرمي مسبحته و عصاه ، فيترامى عليها القوم كما تترامى الجياع على أرغفة خبز شعير، و يا سعد من يحملها  و يجري الشيخ متعثرا في عباءته و سلهامه يثير ضحكات الصبية ، يجري كثور المسك في اتجاه مكان نسميه الكدية ، يلتحق به  القوم
 و الصبية في المقدمة للتمتع بهذا العرض . يقف في أعلى الكدية كعملاق رافعا ذراعيه ، ينظر إلى السماء بعينين محمرتين زائغتين تكاد تخرجان من مقلتيهما ، يرتعد جسمه كالخفاش ،و تتجمد وجوه القوم خاشعة كأنه يوم العرض و ما هو بيوم العرض ، تسمع للكلام المبهم و الإشارات " الميمية "  الغامضة ، يختمها الشيخ بعبارة حفظناها " هو ..هو..هو.." فنسأل الكبار من هو ؟ " ينهروننا لإساءتنا الأدب في المشهد المهيب " الصمت .. الصمت.." و يهتز الجسد المكتنز بشطحة تنتهي بقفزة بهلوانية و سقطة تقعقع لها أطرافه ليغيب عن الوجود .
ينفض الجمع و يقولون الشيخ ما لم يقل كأنهم كهنة معبد فرعوني ، يتحلقون زمرا زمرا يؤولون الكلمات و الإشارات من هذا الذي انجذبت روحه إلى الأعلى .



 
  محمد مباركي (المغرب) (2009-10-12)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

المجذوب-محمد مباركي (المغرب)

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia