وقف على قارعة الطريق ينظر نظرة بلهاء إلى اللا شيء ، راسما على شفتيه ابتسامة غبية غباوة حاله، يتمتم بكلمات مبهمة غير مسموعة، ويرسم بأنامله إشارات غامضة ، و يضرب في الهواء بقبضة ضائعة يترنح جسمه يمينا و يسارا . ذلك هو محمود، لا نعرف اسمه الحقيقي ، فقط سماه أحد أبناء الحي بهذا الاسم ، كهل في الخامسة و الخمسين أو ما يقارب ، مسالم ، كيس مع الجميع حتى الأطفال و الحيوانات ، يلبس أسمالا بالية و حذاءا تآكلت أطرافه ، يجره جرا ، لا مأوى له ، منزله الحي و غرفه أزقته . هكذا كان يقول دائما .
لفت أنظارنا هذا الصباح ،إذ كان على غير حاله ، زادت تمتما ته و هذيانه و جحظت عيناه أكثر ، لا يميز بين هذا و ذاك من سكان الحي ، لا يرد على التحايا و المداعبات كعادته . تابعناه بنظراتنا المتطفلة أينما حل و ارتحل، و هو يهرول لاهثا بلا قصد داخل الحي و خارجه . و كانت مخاوفنا تزداد مع تحركاته الغريبة . قال الكبار " زاد عليه الحال " ، جملة لم نفهمها . نهرونا بقسوة على أن نتركه لحاله ، لكننا لم نفعل ، و أصررنا على تتبع خطواته جريا ، يشد الواحد منا بتلابيب الآخر في صمت ، أما هو فلم يكن يكترث بنا أبدا و كأننا غير موجودين .
لما خرج من الحي ، و مشى على جانب الطريق الرئيسية حتى توارى عن أنظارنا ،لم نستطع اللحاق به .
و تساءلنا إن كان سيعود ، لكنه لم يعد أبدا ، غاب إلى الأبد . و تساءلنا كذلك
" ما الذي غيبه عن الحي؟ " . لم يجبنا أحد ، و بقيت تساؤلاتنا معلقة كميازيب ماء المطر تنتظر حتى تصدأ و تتفتت .
و اضمحلت صورة محمود في مخيلاتنا الصغيرة مع مرور الزمن ، نذكره بحب و أسف شديدين بين الحين و الآخر ،إذ كان بطل سمرنا كل ليلة من ليالي الصيف في أزقة الحي ، نتحلق حوله، و نشعل شمعة أو شمعتين ، ليحكي لنا من قصصه التي لا تبلى و لا تنتهي ، كانت رائعة ، و كان هو حكواتيا فذا . هو يحكي و نحن نستمع بخشوع و ندفع له أرغفة الخبز و السكر و الزيتون و الاحترام الكبير.
و كنا نتساءل من أين يأتي محمود بهذه القصص، رغم كونه أميا. قال أحدنا " قد حفظها من أبيه أو أمه أو جدته . فأجاب أكبرنا سنا نقلا عن جده أن " محمود لا أب له و لا أهل ، فهو نطفة جاءت من خطيئة".
بكينا ، نحن الصغار ، لذكرى محمود بُكاءً صامتا ، و بعض سكان من قدس هذه الذكرى بتسمية أحد أبنائه المولودين " محمود ".