تسول بكل اللغات.-السعيد مرابطي (الجزائر)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

تسول بكل اللغات.

  السعيد مرابطي    

فتنة بدوي..
تـفـاحتـان عـليهما دم مـراق. حـرارة مـن جـَلـنار.الإثـنـتـان أغـدقـتـا فـــي ذكاء اللـون تسـبحـان شـمالا،تـكـتـسـبان الشـكل مـنـه.إجـاصات ثـلاث غـرقـن يـمـيـنا في الـعـسـل وانـسـكـاب الـدلال الـعابث؛ لا يـفـصل بـيـننا سوى خيط العـبق الرفـيع. وذي خوخـة طريــة اغـتـبطـت فـي نـار الشـقـائــق  لا أكـاد أطـرد عــنها نـظراتـي حـتى تسـتـقـر ثـانـية علـيها،فـإذا هـي لكأنـما تـملكـت حجما أكـبر وفـضــاء جـديــدا! مـا هـذا الـبـذخ المـــسـتحضرالـمسـتـفـز لـشـهـية تـورط وانـفـتاح نــهـم مـسـبوق بـلـعاب؟..فـاكـهة تــسـتهـويك تـلـهو بـجـوارحـك ، حـواسـك وذاكـرتـها.هــا مــدُ طـرفك لامـسـني، ذق مما تـشـتهي!.
تحـثـك فـتـسـتـجيب.أنـا صـافـية الـمنـبت ،الـمجرى والـقـطـف. تـهــمَ أنـت ولا تــــجرؤ.
الطـاولـة كـدعـابة هـيـئـتها أنـيـقة.تـموضع الـكوكـتـيل عليها جـَد مـسـتـساغ. يـمـهـل الـنـظـرات ولا يـزعـجـها حـتى يـمرح فـيـه الــذوق ما بـين تـرتـيب وإهــمال ، هـكذا لـيروق كــــــــــل مزاج.
             
وأنـت تـقـف حـذو الـعـقل المـتـفـائـل ، حـدثـني يـا سيدي عـن هـذا الاستفزاز الـمريب. مـن أيــن جـئتم بـكل هـذا الـترف الـمـبـاح لـخيـال الـخاصة ؟..مـزية ولاككـل الـمزايا. وجـبـة ولا كـكل الـوجبات. نقـيض يـبعثـرني شـتـاتا في متناول أزقتكم وأنهجكم ، يجعلني أستطرد قصــة الاستفهام دونما خـجل. ولأنني عربي فالاستطراد يا سيدي هو إرثي الوحيد الذي حرص على حـفـظه لــي أجـدادي. مـحض صـدفـة جـاء حـضوري عـلى عـكـس هـذا الـوافد على الذمـة يتأمـل غـير آبــه بـمماحـك انـخرط يـرشـق أسـماع الزوار بـعـبارات مـخـادعـة.
 مــدارات..أحاديث على درجة من الازدحام. يشكــو الرواق المـدبج
 للــغرض تخمــة فــي العــرض!..       
 هــنا أكسيجين الــحياة ، راحة الأرواح ..صــدى إنسانية يطفو!..
 لـعلَه ضــرب من الدهــشة إذ وقـفـت أمــم اللوحة أزدرد
 يـقظة أصـباغـها. كوامــني فــي اسـتنـفار تدفـقـت فـي تــوهـــج. كــم ذا أســتطـيب الــمقام وكــم يـظـل يـلـزمني لأســتـعيد تــوزنا بــالمـعادلة ؟..دعــني قـلـيلا أتعرف على ذاكــرة حواسي وهــي تستــأنف نــشاطها المــتشــظي...كــأنما إكــبارا حدود مــخـيالي، نـــطَ بـذهني أحد الأســماء الــتي تــثــير بــه مــا عــقلت لــها بوريقات كــنـاش من جــملة ما قـرأت: -علــينا بــالـفن كــي لا نــموت بــالـحقـيـقة *."
عــفوا يــا سـيدي ، فــنَكم اشــتـباك تــشنج صــرف ، لا يــنــسيــني حقـيقتي بل يــزيدهـا مــجابــهة لــي. يــذكــرنــي الآن بــمــغــص فــي الأمعاء. الــبارحة عــجزت على دفع سـعر كـعـكـتـين لــبائع مــتجول ، فاقــتــصرت عـلى كــعـكة يـتيمة وبــتَ أدَعــي بأن الــماء أفـضــل مـا يـسـتوجـبه قــضاء لــيلة صيفية.
الأشــكـال، الألــوان، الــمضـامــين..عـبـث سـلطانــها بــسحنة الــزوار.وحــده الــذوق أطــبق يــرسم نــقاط تــعـجـب.
لــست حذقا ولا أدعــي مدنــية ســلوك ، فــأنا بدوي فــي كــل اتـجـاه.  غــير أن الــشيء بــالــشيء يــذكــر...ثــمَــة لــوحة تــمـامـا فــي قــصي زاوية الـرواق، سـرها الـخاشـع اســتوقــف أكـثــر مــن كـوكـبة.مــا مــرت إحــداها إلا وحانــت مــن بــعضهم الـتـفاتـة عــطف مــغــلَــفة بــشــفــقة ، تــلوَح  بأن اللــوحة حــقـــا آســرة.هــي ذي لــوحة الــطفل الــباكــي الــمشـهورة.
 كــيف لـي بإخـفاء تـبـرمي عــنها لمــا أعـيرها مــن تـأويلات أغـلب ضــني لا يوافـقـني عـنـها عـشـــاقـها...لا يــهم ! فــاللــوحة طـال ســيطها الآفــاق وليـس رأيــي مـا سـيقــلل من شـأنها أو يـطـفيء مـن إشـراق رونـقها ، بـعد أن عــانقـت دور الـدنـيا واكـتــسـحت الــمطابخ . ربــما أدخـلـت شــيـئا مـن الــوقار حـتى عــلى نـفـوس الــخــدم والــحـشـم.

أبـواب الــسمــاء..       
        
ستـائر الـمـخمـل مـسـدولـة بـشـكـل  يـبـيح للـغرفة رشـف ضـوء النَـهار. هـذا يـريـحـني أكـثـر ، فـغـرفة لا يـمرح غـزل الـشـمس فـيها لا تسـتـيـقـظ. حـاجـتـي للـشـمس حـاجـة مـزاج أمـره محـسـوم.أنـا  خلاصـة لـطـقس شـموس تـصـحو بـبـلـد، تـرشه ، تـلـفَه
تـجـلـده ولا تـؤذيـه. تـصـحو تـنـاديـه : أنـا ثـروة وبـالمـجان!.. غـيـر أنـنـا طيـبـون ولأنـنـا كـذلـك نـريدها للـمـزاج لاغـيـر.
شـكـل الـسـتـائر يـبـدو علـى نـوافـذ الـخـان أجـنـحة حمــائم تـتـوثَـب للـطـيران. الـنـظافـة والأنـاقـة فـيه عـلى صـلح مـستـديم. صـاحبـة الـخـان ذواقـة ومـن طـراز محـافـظ : -أمـسـكو عـن عـادات سـيـئة ، أنـا لا أريد جعَــات شـراب أو شـيـئا مــن هذا  القـبـيـل. صـرامـتها فـي تـدبـير الـشـؤون، نـبرتـها الآمــرة لـم يـعـفـياني مــن مـراقـبة هـندامـها وهـي تـنصـرف جـارة ذيـلا أسـود لأجـنحـتها المسـيحـية.
عـند الـظـهـيرة قـضمـت خبزا وحـبة تـفـاح لـم أذق أشـهى وألــذَ. حـمـدلـت ، كـبَـرت ، صلَـيـت. الـوسـاوس التي راودتـها بــشأني، طـردتـها بـعد مـراقـبـتـها لـطقـوس صـلاتـي.
شـاء غـروب شـمس الـبارحـة أن يـشهـد خـيال شـخصي وأنــا أرشـف بمعـيــتها قهوة معـطـرة أعـدتـها خــصيصا بـمقصورتها ثــم دعـتـني لأقـاسـمها لـحـظات ثـقة وطـدتـها أبـواب الســـــماء.
حــلـيب الـبمـبـيـني *..

الـوقت متـخفَ وزئـبقي... هــي ساعة أو تـزيد، جـمحـت بــي الأفـكـار بعـيدا.. استـلَـني هـوى الـنـفس تمشَـيت مفـتونا . هـذي روما عـلى مصراعيها كــل الـطرق تؤدي إليها. أنا الآن مــلء أحضــانها تـهب لـي متسعا شاغرا. هــنا الآثار الـناجية من الزمن تنفث رائحة قـياصرتها وملوكــها. هــا ساحاتـها..باحاتها..تذهب فــلول فـضول. تـخـمد قلـيـلا رغبة قـيصرية ، كــم راودتني هنــالك يشــكل لا يــوصف. عـلى الأحرى أرغمـتني هــنا عــلى جلــوس مباغت فــوق مـقعد حجري مباغت صامت لا يــكلم الــدنيا إلاَ تـهـكما بــها.إذا ما حانت مـني الـتـفاتــة ، تشـبـثت أطـالع ذاك المـحـياَ الأشـقر يشـع كـينبوع ، رحت أوغـل فــي الـشرود: – أتــراه طـيف كليوباترا سـعى حـقبا ضـوئية خـصَـيـصا لـيـتوزع فـي سمات حسناوات رومــا كــيما يـبعـث فــي الدنيا الــهـيام القـديم ؟ !..
لــم كـل شــيء هــنا يـشـعرني بـالـترف الـمـبـالـغ فـيه:الأكـل ، الــمـشروبـات، اللـبـاس ، الـعـمران ، الــجـمال ؟..
أو يـكـون الـفـقر مقـصـورا فـقط عـلى أمــثـالي فـي ما اشـتهـي ومـا لا أشـتـهي؟!..
لا ريـب فـي أنـني أطـلت الـتـجوال نـهـارا، أهـبط مـن شـارع إلـى سـاحـة ، أعـبر زقـاقـا شـاحـب الـمـلامح أمـشي مـنكـس الـجـبـين تـظـاهرا بـطـمأنـينـة أهـل الـبـلد ، ورأسـي تـمور بـصـور الأمــكـنـة والـمـآثر ؛ تــزرع فـي خـواء الــذات احـتـفالـيـة الــظـفر والـقـداسـة.هـنا على سـطح الـذاكـرة نـقر بـلا هـوادة يـأتـي مـن واجـهـة الـكولـيزيوم،يـسـوق صـدى مـلاحم الـمـتـصارعـين فـريـسة للأسـود ، وهـتـاف جـمـوع تسعى لـلإطـاحة بـغـريم بـطل ألَـهـوه دونـما إذن مـن كـهـنة القـيصـر.
هـو الـكـولـيزيوم مـفـخرة رومــا، لا تــدخـلـنَـه وإلاَ سـيبـطـشنَ بـك بهائـه وصـداه. !..
مـمـشاي صـمت ضـاج وأنـا بـين أحـجار زقـاق شـاحـب الـلامح أفـقـت عـلى نـبرتـها الإيـطالـية وصــورة يـسراهـا مـاسكـة بـيمـنة طـفـلها الـمـتوعـك الخـطى . وعـيت غـرض تـلـك الـسـيدة ذات الــعــقد الـرابع ، غـير أنـها لـم تـمـهلـني لـحـظة تـدبر إذ هـي راحـت تـسوق الأمـر ذاتـه بإنـجـلـيزية دارجـة ، سـرعان مـا أردفـتها بفـرنـسية مـسـتـهـجنـة اللـكـنة:
شــملـتك عــناية الـرب ، أرجــوك ، تـصدق عــليَ لأطــعم  الـبمـبـينـي* حـليـبا وخـبزا. نـاولـتـها قـطـع اللــيرات مـتـلـعثـما عـند إفـراغ جـيوبــي .أجــش كــانت نـبرتها وهــي تـلح بـالـشكر وتـنصرف.
قــرع أجـراس غـمـر طنينها رومـا الـعـصـرية .        ضجَـت طـواحـين رأســي إثـر إيــابي بــالـطائرة. لــذت بـحديـث النـفس أكـلـمها بـشأن لـوحـة الـطفل الــباكــي ...كــان أجـدى بـصـاحب الـمعرض أن يـعلَـقها إلى جــانب لــوحة الـفاكـهة ذات الــبذخ الــصـارخ.



  *مـقولة للفيلسوف نـيـتــشه
*البمـبيني:الـصبـي بالإيطالية
  السعيد مرابطي (الجزائر) (2009-10-28)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

تسول بكل اللغات.-السعيد مرابطي (الجزائر)

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia