جمالية الاختلاف في "وردة الشاعر"(*) للقاص مصطفى شعبان-الطيب هلو (المغرب)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

جمالية الاختلاف في "وردة الشاعر"(*)
للقاص مصطفى شعبان

1 ـ للواقع الراهن إغراءاته الباهرة، كما له إثارته للتخوفات وبعثه للقلق. ولعل في ردود فعل المثقفين المختلفة إزاء العولمة وآثارها الآنية والمحتملة ما يكفي دليلا على ذلك. وقد كانت وسيلة التعبير عن المواقف في الغالب الأعم هي النصوص السجالية، إما في شكل كتاب فكري أو مقالة. ولم نعثر، إلا نادرا، على مثل هذه المواقف في نص أدبي. إضافة إلى أن الجنس الأدبي الأنسب لمثل ذلك التعبير هو الرواية، بما تملكه من مقومات فنية مثل تعدد الرؤى وزوايا النظر والشخصيات وغيرها مما يتيح لها الاضطلاع بهذه المهمة.
وقد كان من المثير أن نعثر على تصورات فكرية ومواقف تجاه الراهن الفكري والاقتصادي والسياسي في نصوص قصصية، تتيح لنا أن نقاربها، ونكشف عن مواقف الكاتب الصريحة والضمنية تجاه العولمة وما تستتبعه من جوانب فكرية أساسا، كالحوار الحضاري ومنطق الاختلاف والعلاقة بالآخر و النظر إلى الذات في مرآته وغيرها من القضايا الشائكة.
وقد منحتنا المجموعة القصصية " وردة الشاعر" للروائي والقاص مصطفى شعبان، بما تحمله وما تعبر عنه من مواقف واضحة، مادة صالحة لمثل هذا التتبع وهذه المقاربة
 يربط مصطفى شعبان العولمة، على امتداد مجموعته القصصية " وردة الشاعر"، بكل ما هو مأساوي وبشع. ففي قصة " الفَلَقَة" يصر السارد على التعبير عن فقدان كل شيء في زمن العولمة؛ إذ لم تبق له غير قشة أخيرة يتشبث بها، هي بطاقة الإقامة في فرنسا. وهي البطاقة العصية التي يلاحقها ليضمن بها بعض الحقوق، ولتخفف عنه قليلا من المعاناة.
وإذا كان السارد المتذمر من العولمة في قصة " الفَلَقَة" هو الطالب المغترب، فإنها في قصة "النفقة" قد طالت المقيمين في أوطانهم، بسبب الأزمات الاقتصادية التي أصابت العالم كله، ووصلت إلى كل مكان فلم تسلم من شرها أية دولة.
كما يكشف القاص من خلال الحوارات عن الهشاشة والضعف الحضاري تجاه العولمة، عن الصراع الداخلي بين القديم والجديد والثنائيات الضدية الصارخة بعنف داخل ذواتنا، عن القوة المدمرة للعولمة والتي تقضي على الاختلاف، بما تحمله من تنميط حضاري، وأحادية ثقافية تهدد الخصوصيات والتراث المحلي لكل شعب. ولعل في استعماله تعبير:" العولمة سحقت كل شيء." بصيغة الماضي شحنة نفسية قوية تناسب العنف والدمار الذي يحسه الكاتب تجاه العولمة. هذه العولمة التي سحقت القيم وشيَّأت الإنسان وجعلته مجرد سلعة. ويحاول الكاتب إبراز هذا الجانب من خلال معلم أساس من معالم العولمة الاقتصادية وهو الإشهار، والذي يركز على مفاتن المرأة لتسويق أي منتج. يقول في قصة "أشواق" :
" نسوة يبدين كل محاسنهن ومحاسن الإشهار الذي يروجن له بمؤخرات متدفقة لكن نحيفة . غابت البدينة من الساحة. أكلتها موضة الرشاقة. وقفت المرأة أمام السيارة شبه عارية وتقف أخريات أمام ثلاجات." ليصل إلى السؤال الممض: " أين هي السلعة المعروضة؟
الياوورت بمحاسن المرأة، والسيارة بمحاسن المرأة، والقهوة بمحاسن المرأة." (ص 69)      
استرسال وتدفق الصور بشكل لافت في كل المحطات تمظهر أساس لهذا الاستغلال البشع للإنسان، وما يتعرض له من تشييء وتسليع. ولا يمكن تفسير هذا الإصرار من الكاتب على نقل هذه الصور إلا بوعيه الرافض لمنطق العولمة وسلبياتها. هذا الوعي الذي تعكسه لغته. فاختيار ألفاظ من قبيل: سحقت، أكلتها الموضة، وغيرها دليل واضح على هذا الموقف .
2 ـ يستند القاص الروائي المغربي مصطفى شعبان، في مجموع أعماله، إلى رؤية حضارية عميقة تؤسس الاختلاف و تبئر النقط المضيئة لدى الآخر، بل إن أي ذات سواء أكانت عربية أم غربية إلا وتبحث في دواخلها عن كل ماهو إيجابي، ولو بدا ضئيلا لدى الآخر لتبني عليه الاحترام والمحبة، وتطمس ما أمكن العناصر المسببة للصدام والقطيعة و الصراع .
في قصة "العميد أوليفيي" يختار الكاتب الآخرَ ساردا، ليفصح عبره عن الإمكانات الهائلة للتعايش . فالآخر ليس شرا كله . ف"ستيفان" الموظف تحت قيادة العميد "أوليفيي" يصر على أن يكون "أحمد" رفيقه في كل مهمة إلا إذا تعذر ذلك لأمر ما . حتى أصبح الأمر مألوفا لدى العميد "أوليفيي". ويصرح السارد منذ البدء قائلا: "وكلما استفتاني في الاختيار:ـ مع من تريد أن تذهب في مهمتك يا ستيفان ؟
كنت أجيب : مع أحمد.
وبمرور الوقت أصبح العميد "أوليفيي"  يعرف اختياري المفضل فيدللني كل ما ساعدت الظروف على ذلك" . (ص 5ـ6 )
بل إن شخصية أحمد، العربي العامل في سلك الشرطة الفرنسية، مثال على منطق التسامح والقبول بالآخر. وتصبح شخصيته، المرحة والكريمة وشخصية زوجته أيضا في علاقتها مع أسرة ستيفان، نموذجا يحقق التوازن في الحكم على الآخر لدى ستيفان. وحتى يعمق الكاتب هذا التوازن يختار مرحلة عصيبة من تاريخ فرنسا وهو حدث الشغب الذي طال هذا البلد إثر موت مهاجرين مطاردين، وما تلا ذلك من ملاحقات للمهاجرين و المسلمين على وجه خاص، فيعترف ستيفان بهواجسه:
" تتماثل الصور التي أصبحت تهاجمني. أتنفسها في الهواء. أقرأ كل الملامح التي تختلف مع ملامحي شبهة، وعلى كل شال شبهة، وتحت كل لباس فضفاض علبة موقوتة ستتفجر، وعلى كل شوارب عصية منصة هجوم مرتقب." (ص 8)
ولا يوقف هذا السيل من الصور المتدفقة عن صورة العربي في الذهنية الغربية، التمثل السائد والنمطي إلا بروز الصورة الأخرى؛ صورة أحمد.
" تتدفق في ذهني صورة زميلي أحمد، فتوقف هذا السيل المتدفق من الصور ( ...) ثم أعيد قراءة الأحداث ..."(ص 8 )
ذكريات العلاقة الإيجابية مع أحمد وزوجته السيدة عائشة، وما يمثلانه من أخلاق إسلامية رفيعة هو البوصلة التي تعيد ستيفان  إلى اعتداله في الموقف . ولا حاجة لشرح البعد الرمزي الذي اختاره الكاتب لأسماء الشخصيات العربية ( أحمد ـ عائشة ) لكن الصورتين الإيجابية و السلبية تتصارعان في رأس ستيفان كحيوانين جيء بهما إلى موسم الهيج، يتأمل أحدهما الآخر غير متحمسين للهراش. آذانهما منتصبة وحال الترقب في أعينهما." (ص 9)
 ثم تأتي الصورة الحاسمة التي تقوي كفة التسامح والتعايش؛ صورة المدرس وهو "يشرح الدرس ويقول:" إرادة العيش سويا بالرغم من اختلاف الثقافات. التنوع غنى ومصدر للإفادة." (ص 10)
ولعل حسم الموقف بهذا المشهد تأكيد على دور المدرسة في إغناء ثقافة التسامح والاختلاف.
 ينطلق الكاتب من فكرة الاختلاف وإيجابيته في قصة "أشواق"؛ إذ كل يمكنه أن يقدم للاخر ما يفتقده أوما يغريه بالاختلاف . وقد اختار الكاتب فكرة طريفة هي إعجاب سيدة فرنسية بالخط العربي، وهي تلاحظ الذي يجاورها على الكونتوار وهو يخط تأملاته. ولم تتردد في اخفاء إعجابها وطلبها منه أن يكتب لها شيئا بهذا الخط فكتب اسمها وعبارة متمنيات لتطير فرحا ويبدأ التعارف.
" ـ معذرة ياسيدي إن كان لا يضايقك طلبي فخط لي حروفا مثل هذه الحروف الجميلة.
ـ أتريدين أن أكتب خطوطا كتلك التي كنت أخطها على الورقة؟
ـ نعم أريد خطوطا كتلك التي كنت تكتبها على الورقة..."
ويستمر الحوار الطويل الكاشف عن الإعجاب بالخط العربي على امتداد صفحتين.
تحتفي مجموعة " وردة الشاعر" بالاختلاف الحضاري وتمجده دون إحساس بالدونية والاستلاب، و تنتقد العولمة دون تقديس للذات وتغاض عن هشاشتها وعوراتها.
إنها دعوة للمراجعة والتفكير في مصير العالم الذي تهدده العولمة وتدمر خصوصياته، ومراجعة للذات الغارقة في عيوبها. وفي الأخير هي دعوة للتعايش الإنساني.



 
  الطيب هلو (المغرب) (2009-11-30)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

جمالية الاختلاف في

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia