في حديقته المفضلة وسط المدينة ، رمى بنفسه على كرسي إسمنتي، فأحس ببرودة تسري في أوصاله ، أعقبتها قشعريرة هزت جسمه النحيل ،و مد رجليه إلى الأمام في استرخاء تعود أن يمارسه في هذه الجلسة، و ألقى نظرة متفحصة على المكان ، فوجده كما ألفه دائما ، لم تصل إليه عناية المسئولين بعد ، هو حديقة لم يبق منها إلا الاسم .
جلس وحيدا كعادته ، أشعل سيجارة و نفث دخانها بقسوة عدة مرات ، و تطلع بعينين مثقلتين كليلتين إلى شجرة باسقة عانقت السماء في حب ، و تمنى لو يتسلقها لينظر إلى المكان من فوق ، ذلك أفضل . لكن وجد نفسه يتابع فحل حمام يغازل أنثاه فوق حائط قصير في الحديقة، و كيف أنها تمانع و هي راغبة،
و مع امتناعها يهيج إصراره حتى أرضخها لنزوته ، ثم طارا محلقين في رشاقة بهلوانية تشد الناظرين .
عاد إلى حاله يرقب المكان ، و هذه المرة ، باهتمام أكثر، كأنه ينتظر شخصا . لكن هذا من أغرب ما يمكن توقعه ، فصاحبنا دائم الوحدة ، و ما شوهد بصحبة أي كان ، و هذه مشكلته ،" الوحدانية "، التي لم يستطع التخلص منها مهما حاول ،و حاول الناس معه . فهو موظف في شركة عمومية ، متفاني في عمله إلى درجة العبادة ،و سجله حافل بالتشجيعات ، لكنه قليل الكلام مع الجميع ،لا أصدقاء و لا أحبة له . وصفوه بنعوت شتى، لا يأبه بأحد، بل أحيانا يتعمد إغاظة الجميع ، حتى التحية الصباحية لا يتبادلها مع أحد من الزملاء، حتى مع رؤسائه، منهم من قبله كما هو، و منهم من مقته و رفضه كوجود. يفضل قراءة الجرائد و الكتب بشراهة زائدة و يفضل السيجارة الأمريكية الشقراء .
في يوم حاولت إحدى زميلاته في العمل ، بإيعاز من زملائها ، اقتحام عالمه الخاص ، و رغم خبرتها ، وجدت بابه صلدا منيعا ، فعدلت و تركته و شأنه إلى حين ، إذ أقسمت باليمين القاطع أن تعيد التجربة ثانية و ثالثة .
و ها هو اليوم في جلسته هاته يبدو متوترا أكثر من اللازم ، ينظر إلى ساعته بين الفينة و الأخرى ،
و يدخن بشراهة ، يقف ثم يجلس ، و يتمتم . فتح جريدته ، تصفحها دون أن يقرأ حرفا منها ، رماها جانبا و نهض ليخطو خطوات ، لكنه تجمد في مكانه و زاغت عيناه في البهو الكبير للحديقة محاولا التحقق من الشبح القادم في اتجاهه، شبح فتاة ملتفة في معطف أسود . عاد إلى جلسته و دقات قلبه تتلاحق بسرعة ، فأحس بالخوف ، و كاد أن يسلم ساقيه للريح ، لكنه تماسك .
جلست إلى جانبه بهدوء و هي لا تحول عينيها عنه، باسمة في صمت ، تنتظر أن يبادرها بالكلام ، لكن صاحبنا كان يريد منها أن تفعل ، و ساد الصمت ثقيلا مقيتا ، حتى انفكت عقدة لسانه و قال لها
"أهلا و سهلا " فانتفضت واقفة كالمذعورة و صرخت " حمدا لله أنك نطقت " فضحك صاحبنا ببلاهة طفل معتوه .
لم تكن الفتاة إلا زميلته في العمل التي كانت قد أقسمت ، أمام زملائها ،على أن تقتحم عليه عالمه حتى تجرجره إلى عش سقفه واحد.