فصل من رواية: عــيـن العــدم ( ليلة إغتصابي...ليلة موت العالم في عيني)-عبد الحق طوع (إسبانيا)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

فصل من رواية: عــيـن العــدم
( ليلة إغتصابي...ليلة موت العالم في عيني)

  عبد الحق طوع    

هيئت السرير، الوسادة والغطاء لنوم.
تناولت قرصا مهدئا لهشاشة وغليان الأعصاب مع كأس ماء بارد.
تحركت نحو النافدة... بعد وقفة ونظرة عابرة على الأوراق البيضاء وصـور المسيـح ومريـم العذراء وعـلى رسالة الأب نيكولاس والتي تلخص أقصى مستويات الإقصاء، الاغتراب، الهم والمحنة، الحيرة والقــــلق في كلمة واحدة :
أكتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــب
قلت في نفسي :
ـ من....من أي محطة من العمر أبدء؟
تصفو الرؤية وتضح معالمها. يطيب الحـديث وتزهو الذاكـرة وهي... وهي تعيد أنفاس المشاهد والأحــداث، وتعطي إشارة شرارة الانطلاق وتتحرك قوائم جياد عربــــة الحكي سفراً في منفــى عتمــة الأعمــاق، لتنظـــيم ومسايرة فوضـــاه...ليوقع ودون ذرة خوف أو خجل :
أول حرف لأول قبلة أو صفعة، لأول......
من يخاف لا يتقدم...
من أي محطة أبدء؟
وكل المحطات حالة واحدة لجرح واحد: مع دورة الثواني...الساعات... الأيام والفصول يزداد اتساعا وغورا.
فتــــحت النافذة. أغمضت عيني. تشممت هواءه الرطب، رائــــحته، سمــــعت زقزقة البجع، هدير أمواجـه وهي ترتطـم على صــــفحات قارب الذاكرة وهناك في شــــسـاعة
زرقتـها...لاح غبش ضـــــــــوء كدائرة ترتعش من البـرد والظلام، تحوم...تحوم حول طفل يجلس إلى شــــاطئه.
**************
يهتز...
يقاوم الأمواج...ازدادت عنفا وشراسة.
ينخفض... يهتز... يقاوم...وفجــأة على إثر....على إثر موجـة عنيفة وصــاخبة يهتز...
يصطدم بالصـخور الشائكة... ويغور... يغور في الأعماق...
لا يهم !!!
ليست هي المرة الأولى التي أعاين فيها مشهد غرقــــــــــــــه.
لا يهم !!!
إن تعب البحر من بلع قواربي الورقية...لن أتعب من الاستمتاع بلعبة صنع الأحلام.
ولما لا؟؟؟؟ في يوم ما أركب قاربا بلحمه ودمه...
ومن جديد فتحت محفظتي، أخرجت دفتر التاريخ وبدون تحديد مزقت ورقة... وأنا أتابع مزق قاربي الغريق وهي تطفو فوق الزبد، وفي لمــحة بصر ونشوة عارمة، صنــعت قاربا وعلى جنب من جنباته كتبت نفـس كلماتي التي لم أجد لدفأها بديلا :
فرنسا الساحرة،
يا أرض الخبز، الحرية والأضواء : أحبك
خذيني إليك.
وضعته وبحذر بالغ فوق الماء وتركته يطفو من جديد......
وهو يطفو... ينخفض... يهتز... يقاوم...شيء...شيء ما شدني من تلابيب الذاكرة. التفت
إلى الخـلف...إلى البراريك الغارقة في الهم والبؤس، محولا نظري إلى الدواخل....
ورأيــــــــــــــــــــــــت :
سيارة بوشتى في أسـفل الزقاق، حـولـها يحـوم الأطفال والبــعض مـن الفضـوليين. بقعـة وباتفاق الجـماعة خصصناها لرمي الأزبال تفصـلنا عن بـراكته. وليس غريبـا أن تشاركنـا
الفئران الحياة تحـت نـفس السقف إلى درجة مرور فأر أمامنا وفجأة لا يثير فينا أدنى شعور
بالاستغراب أو الفزع... ننظر إليــه بمطلق الـهدوء. وكأننا خلقنا معه علاقة ود وألفة،
نظرا لمعاشرتنا الطويلة لسلالته. حـتى قطط الحـي الضالة أكتفت بالنظر إليها ومن بعيد
بعين عدم الاهتمام واللامبالاة. و...وكأنها تنكرت لفطرتها وخلقت وأخـيرا حـالة سـلم
معـــــه. لا لشيء، فقط لأنها لم تعد تستسيغ لحمــه لكثرة استغلال طعمه، بل أحيانا تترك له
المــكان ليــجول ويصــول بكامل حريته.
شيء مـدهش حـقا...دفعت سي إبراهيم مؤذن الــحي إلى القــول في خطبة جمــعة، حول
صـداقة قطط حينا وفئرانه : ورب الكعبة إنها علامة من علامات الساعة.
لهذا السبب عندما اعتقلت في صيف 1981...وأنا في زنزانتي اتخذت من الفئران عائلتي
الجديدة. مع دفء حضورها، أراوغ الأيام الباردة الثقيلة المملة. نعم...نعم وضعت لكل
فأر اسمه الخاص.
قال رفيق زنزانتي :
ـ ألا تخاف الفئران؟
قلت وأنا ألقي فتات الخبز إلى فأر لا يظهر من جسده إلا رأسه الصـغير، يقترب من الفتات
كلمـا اطمئن على آمان الموضع. يحمل ما يكفيه بفمه ويعود إلى جحر في أسفل الجدار :
ـ ما ملكت في طفولتي لعبة. وحدها الفئران لعبتي.
............................
تحت....
تحت التعذيب الوحـشي الجسـدي والنفسي، الزعـاق الحاد، الشتم النابي والتــهديد القاس،
جز جذور شـجرة عائلتي. اعتقال الأحياء منهم والأموات ولينعموا بخيرات وبركة التعذيب
...فنون أتقنوها بامتياز ويتفاخرون بها في جلساتهم الحميمة مع كل اكتشاف جديد.... ومادة الإبداع وفـــــضائه الجـــسد.
نعم !!
مـع الضـرب المتواصـل وقـعت على خربشـات سوداء تلـــوح من كومـة أوراق، موضـــوعة فوق طـــــاولة الكوميسير أو الجــــحيم...خربشات سوداء تتمايل تنط في الهواء...لم...لم تســـــتطع عيني المملوءة بالدمع والدم التمييز بين النقطة والفاصــلة، الـــــحرف واللكمة، الله والشيطــــــان.
قال الكوميسير بصوت حاد وهو يشير إلى مدونتي :
ـ هل هذه صورتك؟ هل هذا رقمك؟
وقبل أن..................
قاطعني وهو يعرك عقب سيجارته بشدة في رأسي الحليق :
ـ إذن وقع لطبون أمك.
ناولني قلما، أخذته بيد مرتعشة، شد إحكام أصابعي وارتفع صوته بالزعاق :
ـ ماذا بك؟ أتريد أن أدخل القلم في ثقب خــرزتك وقع هنا يا ولد ألف أب وأم واحدة،
وقع، ريحتك ريحتك خانزة، مابقات لك غير الثورة....وقع.
........
بعد التوقيع والوقـع وأنا ممدد على بلاط زنزانتي الحــافي الـبارد وقد أغشى الــدم والدمـع عيني، تســائلت في نفسي : ماذا تعني ثورة؟ صحيح لأول مرة في حياتي أسمع هذه الكلمة والتي قيل لي وســخرية فيـما بـعد من أجلها أنا هنا. هل هي غالية إلى هذا الحد؟
لتكن ما تكون همي الوحيد الخروج إلى الشمس.
......
أي حقد.
أي حقد أعمى ركب عقل معذبي؟
هو على يقين من براءتي...فيما بعد تأكدت من تلك الحقيقة الجارحة. سي الحاج كان
مهووسـا بحب الأطفال.
هذا الحب في الثلث الأخير من الليل إلى اغتصاب.
نعم !!!!
في حينها لم أتجاوز العاشرة من عمـــري....بعــد. غير أن أطفال أحـياء الجـوع والعطش،
يتصـلب عظمـهم وتلوح نسائم الرجولة في محياهم باكرا. لهذا السبب حشرت في معتقل الكبار.
الوحش القذر حولني إلى أنثاه.
فعـ....
فعــــل الاغتصاب تجرعه كل نزيل في سني. ويغير أنثاه كل ليلة تماما كتغييره لقميصه
الملوث بالدم مع مطلع كل نهار. وأي نهار يانهار؟؟؟؟
لا أحد.
لا أحد منا تمكن من جز إير إبن العاهرة.
الملعون يعرف شغله جيدا وكأنه ورثه أبا عن جد. فهو قبل أن يباشر لذته. يتمكن من ربط
القيد وبإحكام وعلى أفواهنا يضع لصاقا ويتحول صراخنا إلى متاهات أنين.
لا أقوى...لا أقوى على النظر في عين سي الحاج. مع نظرة خاطفة وكسيرة، أشعر بأن الأرض تمشي وتجئ تحت أقدامي...أشعر بانهيار مطلق لشخصيتي...شخصية؟؟؟
يدمرني...
يدمرني ذلك الانفعال الداخلي إلى حد الضياع والتلاشي وهو يعيد مشهد ليالي الاغتصاب آهات شبق لذته الممزوجة ببكائي الذي لا يرفع صوته.
يدمرني....ويجبرني على طأطأة رأسي ودفن عيوني كحبة قمح تحت بلاط السجن البارد، وأحيانا تخترق نظراتي سقفه، وفوق أقرب غيمة تائهة، تجلس منتظرة بدمع دعاء مخلص مكتوم : يد إله رحيم..
يدمرني....
يدمرني هذا الانفعال الداخلي ويلقي بي إلى هاويات الخجل والشعور بقزمية وجودي... إلى
أقصى... إلى أقصى مستويات الضعف و الإقصاء التام من عالم الرجال.
إلهي...
لبست ثوب الرجا و الناس قد رقدوا
و بت أشكو إلى مولاي ما أجد
و قلت يا أملى في كل نائبة
و من عليه لكشف الضر أعتمد
أشكو إليك أمورا أنت تعلمها
مالى على حملها صبر و لا جلد
و قد مددت يدي بالذل مبتهلا
إليك يا خير من مدت اليه يد
فلا تردنها يا رب خائبة
فبحر جودك يروى كل من يرد
********
وواصـــــــــــــــــل....
وواصل اغتصابي.....
ربما لهذا السبب لم يكن لي حظ مع النساء. إذ كلما سنحت لي الفرصة لممارسة الحب مع من يهواها قلبي، كلما حضرت صورته.... وبحضورها أتخلى عن مواصلة البحث عن لذتي...مع اللقاء الأول والثاني و.... يغيب نجم من أهوى.
قالت لي : الأرض تحتاج إلى حرث والحرث يحتاج إلى ماء. هل تفهمني؟
مكثنا طوال الليل في عراء مطلق على السرير نحدق في السقف :
في الصباح، قبلتني وهمست في أذني :
ـ آسفة أنت رجل طيب، لكن نحن النساء...( صمتت ) وأغلقت الباب ورائها إلى الأبد.
ربما لسبب نفسه اتخذت من المخدرات حبي البديل. ومن العابرات المنهزمات أو بلغة الغوغاء: عاهرات الساعات الأخيرة من الليل. لحظة دفئ...نعم وحدهن وفي محطات غريبة ودون مقدمات أو غناء..وحــدهن يحققن لذتي. ربما يجمعنا ويوحدنا نفس الإحساس الجـــريح بالقـــهروذكريات ليلة اغتصاب بعيد....
..........................

أتخطى ( صمت ) أتخطى الأربعين ولحد الأن ( صمت ) لا...لازلت أد...أدفع الثمن.
شغـ.... شغب تلك الليلة.
أمي...أمي وبعد انتظار طويل وقاس، وإحساس الأم لا يخطئ أبدا. تنبأت أن حالة الشارع
لا تطمئن بخير، كلفتني بالبحث عن أخي المهدي الذي تخلف عن المنزل.
الدار البيضـــــــاء؟
كانت.....كانت في حالة حصار شديد، بعد نهار عاصف. وقعه أولاد الأحياء الغارقة في وحل القاذورات.السلسيونيون، المتشردون،الكحليون، اللصوص الصغار، المجانين نشأة، العاطلون على الدوام ال........
وال.......نهار غاضب وعابر وقعوه بغضب وعنف...وكأنهم كانوا ينتظرون هذه الفجوة. هم وحدهم نزلوا إلى الشارع وحولوه إلى جحيم من النهب والخراب والدخان.
نعم !!!!!
كانوا ينتظرون ومنذ زمن بعيد هذه الفجوة...وربما جهة ما ذكية وحاذقة لها...لها يد في
هذا الجنون الذي ركب عقول هؤلاء البؤساء، لا يعلم أسرارها إلا خالق البشر والحيوان.
كانت وراء غيمة غضب صيف عابر.
سيارات يجبر سائقوها ومع التهديد بالسلاح الأبيض والحجارة، على مغادرتها يفرغونها من
البنزين. وبنفس البنزين يحرقونها، سيارات عادية وقديمة الاستعمال. كما يقولون سخرية تعود إلى أيام نوح. وعلى مرأى من مالكها المواطن البسيط. ومع أدنى احتجاج يتعرض إلى الضرب المبرح. وقد يخترق خنجر من يد غادرة صدره...وهنا كان.
دكاكين ملابس، مواد غذائية في نفس الحي الفقير، يعرفون أصحابها بل قد يكون من الذين
يقاسموننا السكن تنهب وتحرق. شيء غريب حقا. تخريب وتدمير.... مدارس، مستشفيات،
حافلات، أعمدة كهرباء،حتى الحقد مسح الحدائق العمومية الفقيرة من النبتات والورود إلا كراسي مهترئة أحرقت
......
ومع...
مع أول رصاصة أطلقت في الهواء، ومع سقوط أول ضحية. بعد أن تأكدوا أن البنادق محشوة بالرصاص، وليس كما اعتقدوا وهم في قمة نشوة هستيريا الخراب، يواجهون العسكر بالحجارة والصراخ
(حبات حمص أو عدس (..
دخل الغاضبون إلى قبورهم وأقفلوا أبوابها بإحكام. وجلسوا ينتظرون الصباح، هم يعرفون
جيدا أن عيون المخزن لا تنام، تمهل ولا تهمل، هم يعرفون أن السفر إلى جحيم تحت الأرض قريب زمنه.
عشرات..
عشرات الضحايا تعثروا وسقطوا...
ومن لم يمت برصاصة، مات بالركل والرفس. وبدأت حملة الاعتقالات العشوائية العمياء...إلى درجة أن المخافر امتلأت إلى درجة أن فاضت بالبشر.
فكروا....وحولوا الملاعب الرياضية وقاعات السنيما إلى معتقلات....
هل؟؟؟
هل العنف كهذا يمكن أن يكون وسيلة إلى تغيير؟
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وأنا أتجول بين الجثت، كان أخي المهدي ممددا على الأرض. اقتربت منه بحذر شديد ورعب يثقل خطوي.
لا....لازال أزيز الرصاص يدوي هنا وهناك.
يده.....
آه إلهي !!!!!
يده اليسرى وضعها جهة ثقب في رأسه ووسادته جلطة دم.
في..... في حين اليمنى وبإحكام تقبض مسدسا من خشب صنعه بنفسه.
حملت أخي الصغير عائدا والدمع يملأ حلقي إلى محطتنا. وأنا في طريقي أو قفني صوت أشباح
وقال رئيسهم :
ـ إيه أنت... ضع تلك القذارة على الأرض وارفع يداك في الهواء. وتعال إلى هنا.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
لحد الآن....وربما إلى الأبد...إلى قيام القيامة....لن نعرف له قبرا.
المهدي أخي البطل الذي حارب الأشباح بمسدس من خشب لا قبر له. ومن لا قبر له لا وطن له.
.............أين.....أين كان الله عندما أعدموه؟..
********
سيارة بوشتى في أسفل الزقاق.............
نعم !
قبل وصول بوشتى بأيام، الجميع يعلم حتى عطار الحي سي العربي العين الخفية للمخزن، مع العلم يدعي أنه من الوطنيين الأحرار الذين قاوموا المحتل، صاحب الدكان المتنقل على
ظهر حمار. يعرف أن بوشتى قادم من فرنسا. أمه رابحة تهيئ كل شيء. تطلي واجهة البراكة بالجير وفوق الباب تثبث العلم المغربي الذي تآكل ثوبه وفقد لونه الأصلي بفعل الرياح والمطر.... وهو يقترب من براكته والناس نيام، يضغط على كلكسون سيارته بشكل مزعج وقوي ومتقاطع، وعلى صوته الحاد ومع زغاريد النساء المقربات لأمه رابحة....هذا أكيد يطمعن في حفنة شاي صيني أو حفنة قهوة برازيلية....أشياء لها علاقة طبعا بالبطن. يستيقظ الجميع حتى الكلاب الضــالة والقطط تشاركنا حفلة النظر إلى ما أحضره بوشتى من بلاد الثلج.
حقائب..
حقائب ملفعة بالأسرار. جبال نفايات تتوج سطح السيارة، ثلاجة، تلفزيون، دراجة هوائية
، صناديق ...و... أشياء أخرى تتناقض مع بدلته الأنيقة. أكيد هذه الأشياء، وكما يؤكد بعض الوشاة التقطها، من مزابل النصارى و بإمكان الإنسان المهاجر أن يعيش في أوروبا فقط من مزابلها.
نعم هي قاذورات بالنسبة لأهل الثلج. بالنسبة لنا الكنز الذي يشتهيه الجميع. القط عندما لا يصل إلى اللحم القديد المنشور على الحبل وهو يحوم...ويحوم زاحفا بجوعه على
بطنه.. يموء... ويموء، ولكي لا ينفجر غضبا يقول في نفسه إنه متعفن. بل البــعض منهم
يتمنى لو كان كلبا يأكل وينام في مزابل النصارى.
أكيد هذه النفايات سيبيعها بوشتى لسكان الطوب. وبالرغم وهذا أكيد أن أغلبها معطوبة الروح، قدور سيكليس بإمكانه إصلاحها، إنه جن كما يقول أبي وبأجر هزيل أو قارورة
ويســكي المقابل. بوشتى لا يبخل من هذه الجـــهة على نفسه...سيسكر الجميع على حسابه،
وأبي أيضـــا حيث توجد الشياطين يكون الأول من يقدم تحية الجلوس. يجلس وبلهفة حرقة
جنون عطشان ينظر إلى حركة اليد وهي تملأ الكأس بمحمول الزجاجة التي يزداد لمعان بريقه في منتصف الليل، حضورها البهي يجدد الروح المتعبة ويسمو بها إلى معارج طاووس حكي والكل يلمس بأناه سموات وهم بطولة لا يكذبها إلا أشعة شمس الصباح الأولى. يجلس.... يجلس أبي وينتظر دورة المعشوق : الكأس.
....................
يضحك سي بوشتى وهو ينظر إلى سطحية سيارته، وهو يضحك لاح سن معدني في فمه وجد مكانه بين أسنانه الأمامية. يثير الانتباه ويضفي على الرجل هبة معينة :
ـ بزنيس...الكل بزنيس.
و.... وبعد أن يستريح من أتعاب الطريق الشاق والطويل، وذهابه إلى حمام أحياء الطوب، و لتنعم عظامه بدفئه وبعد أكل الكسكس، يخرج من براكته يسابقه بطنه وتأخذه خطواته إلى مسجد النور : هكذا اسمه.
وبعد صلاة العشاء تطفأ شموعه، تغلق أبوابه القصديرية. وتجلس الجماعة بجواره على حصير أعدته زوجة سي إبراهيم المؤذن، مع صينية كاملة القوام. يتكلف سي إبراهيم بالإشراف على إفراغ الشـاي في الكؤوس. وعيون الجماعة بلهفة وعطش تتابع يد بوشـتى مع دخولها إلى جيبه وخروجها.
هم اجتمعوا هذه الليلة حوله طمعا في تدخين سيجارة رومية أو الفوز بشقف من الكيف
أو...ويحلو السمر!! !!!
يناول بوشتى مفتاح السيارة إلى أبله الحي ديبا وبصوت آمر :
ـ هاك... افتح الكوفر أو جيب أسي ديبا واحد '' العتروس رومي ''
تنشرح الوجوه...بالفعل لا معــــنى لحياة هذا الحي بــدون العتــروس كما قال مــرة أبي
في حــقه وأضــاف :
ـ ليست النار هي أول اكتشاف للإنسان. الخمرة هي أولى إكتشفاته، وحدها الملعونة، زرعـت في نفســه ذلك التحدي العنيد لمقاومة وحوش الغابة الضارية. وبها صنع طريقه....
بالفعل.. لا معنى للحديث مع بوشتى بدون الكأس. مع دبيبه في الـعروق، تتفتـح شهية النفس علـى استقبال كل ما هب ودب من كلام. حتـى الشـتم النابي يتحول أحـيانا إلى قنبلـة قهقهات.
مـــــعه يتغير الـجو ويلطفـه تلك المســـــحة من الدفئ والألفة، ينكـــسر جدار الكلفة بين القلوب ويطيب الـــــحديث ويزهو.
مع الكأس الأول والثاني والزجاجة الرابعة والخامسة.و.... يتحول الضعيف المعدم مثل أبي
إلى بطل.
كيف؟؟؟؟
كيف يمكن أن يجتمع الشيطان والله في جسد واحد؟
هذا ما لاح في نظـرات سـي إبراهيم وهو ينـظر إلى بوشتى الغـارق في جلبابه الفاسي الأبيـض والذي يوحي بالعبد المؤمن الوقور.
وفي نفسه يقول :
ـ لقد غير خبز وماء فرنسا الرجل. ذهب إليها مسلما، وعاد منها سكيرا.
صحيح !!!! من عاشر أمة رجالها ينكحون البهيمة صار واحدا منهم، إلا من رحم ربي.
وهو يغادر مكانه بعد أن قدم للجماعة تحية الوداع ويتسلم نصيبه من الشاي الصيني وقهوة
برازيل وحفنة من دراهم عرق جبين سي بوشتى، يردد لازمته المعروف بها، كلما وجد نفسه أمام فعل مكروه :
'' جعلنا الله وإياكم من الطائعين وجنبنا أفعال الفاسقين يا قوم نبينا محمد صلى الله
عليه وسـلم يقول : لايـدخل الجنـة مدمن خمر ولا مؤمن بسـحر ولا قاطع رحـم ومن مـات وهو يشرب الخمرة سقـاه الله من نهر الغوطـة. وهو ماء يجري من فرج المومسات ''
............
أبي سيشرب من هذا الماء المتدفق من فرج المومسات إلى حد الثمالة وسيطلب المزيد
والمزيد....عندما....عندما تخلو عروقه من دم العتروس، يتحول إلى وحش لا يطاق. يصـاب بالغثيان والهلوسة ويكسر كل ما تقع عليه عيناه، مع زعيق...آهات وأنين.
وليس...وليس غريبا أن حياته انتهت بشارب كحول حريق سيك وبه دخـــل في الأخير إلى ليل الجنــون البارد... موتـــه الغريب في مقبرة الحي. في عراء مطلق يحضن جثمان عجوز.



 
  عبد الحق طوع (إسبانيا) (2008-03-11)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

فصل من رواية: عــيـن العــدم 
( ليلة إغتصابي...ليلة موت العالم في عيني)-عبد الحق طوع (إسبانيا)

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia