إجازة السوق-صالح جبار (العراق)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

إجازة السوق

  صالح جبار    

منذ أن كنت صبيا، عملت في زراعة الأرض، فقد كنا عائلة كبيرة.. نعتمد على زراعة (الشلب)... ولما كبرت غادرت قريتي الصغيرة لأداء الخدمة العسكرية.. وفي المعسكرات تعلمت الكثير..

ولم تمض فترة طويلة حتى اندلعت الحرب... فلم يكن ثمة أمل في التسريح من الجيش.. لهذا قررت التطوع..
لم تكن الأمور تسير على ما يرام، لكنها كانت أفضل ما يمكن أن يبعدني من الأرض الممتلئة بالأوحال ومن شتلات (الشلب).. التي تحتاج إلى عناية خاصة، ومن قسوة البرد في الشتاء، وحرارة الشمس في فصل الصيف التي لا ترحم.. جسدي الضئيل..

وبدأت أفقد أصدقائي الواحد تلو الآخر في هذه الحرب الضروس.. فكرت طويلا في الهروب من جبهات القتال، واللجوء إلى قريتي الصغيرة... لكنها ما عادت تغريني بأرضها الطينية وأسراب البق المنتشرة بكثافة...
وفي صباح أحد الأيام، تم استدعائي إلى مقر الفوج، وذلك لظهور اسمي ضمن قوائم استلا م السيارات الخاصة بمراتب المطوعين...

كان الأمر بمثابة تأجيل لقراري الهروب من الحرب.. منحت إجازة لمدة أسبوع لإكمال المعاملة..
ولشدة فرحتي لم أقرأ التعليمات حين دخلت إلى الدائرة المعنية..

ومن خلف النافذة المفتوحة على الباحة، تفحص الجندي ذو الوجه الحليق والبشرة الطرية الكتاب الذي دسسته له.. لم أدر لم تذكرت قسوة قريتي النائية وملاجئ الجبهات المشتعلة.. انتهت لصوته:

أين إجازة السوق؟ ابتسمت ببلاهة وقلت:
- ألا يكفي كتاب الترشيح..؟ رمقني بنظرة ازدراء وقال:
- لا.. واستدار نحو الجهة الأخرى، ليكمل حديثه مع أحد الجالسين معه في الغرفة التي تنضح بردا في القيظ...
وفي القرية بعد أن عدت إلى الدار، تمددت على الحصير، ورحت أقلب كتاب الترشيح، وقد أسندت رأسي على الجدار الطيني.
فكرت من الذي ينقذني من الورطة... وفجأة لمع اسم (شاكر فرهود) وقلت في سري
(إنه الوحيد الذي يمكنه إنقاذي من هذه المحنة..)

كان بيتهم يقع في الطرف الغربي من قريتنا، ويبدو منعزلا عن بقية الدور.. فقد كان (شاكر) رجل في الخامسة والأربعين من العمر، يعمل سائقا بين القرية والمدينة..
حينما وصلت، كان لا يزال يحاول إطفاء محرك سيارته، أجبته بصوت عال رد التحية
- أهلا تفضل...
لم يكن لدي متسع من الوقت للجلوس والتحدث، فقد كنت على عجلة من أمري، وأيام الإجازة قليلة.. ولا بد أن أحصل على مبتغاي...
اتفقنا أن نذهب سوية يوم غد إلى مديرية المرور.. إن لديه علاقات واسعة، وسينهي الأمر بأسرع وقت، لكن المسألة تحتاج بعض المال، لأجل ذلك.. ولأني رجل ريفي لا يجيد المجاملات.. صرخت بغضب واستهجان قائلا: تقصد رشوة...!!

اتكأ صاحبي على سيارته المتوقفة، وهو يحملق في وجهي باستغراب، بعد أن شاهد رد الفعل التي أبديته.. قائلا:
- لا يا أخي.. أي رشوة.. إنها إكرامية، للإسراع في إنجاز
المعاملة.. وأردف:
- أم أنك لا تريد معاملتك تكتمل بسرعة..
- أحسست أن شيئا داخلي قد استيقظ.. بعد أن تيقنت أنها لن تنجز بدون ذلك.. أضفت..:

- النبي قبل الهدية...
في اليوم التالي كنا متوجهين نحو دائرة المرور.. بعد أن اتفقت على بيع إحدى البقرات.. وفي الطريق كنت أتحسس الأوراق النقدية التي كانت في جيب السروال.. وخيط من الشك يتسرب داخلي، خوفا من عدم حصولي على إجازة السوق، فبادرته قائلا:
هل أنت متأكد من الحصول على الإجازة اللعينة..؟؟!


نفث دخان لفافة التبغ، وقد أمسك مقود السيارة باليد اليسرى دون أن يلتفت نحوي.. وقال:
اطمئن... إن شاء الله ستحصل عليها...

ولكي أكون واثقا من حديثه، طلبت أن نتفق عند عدم حصولي على الرخصة أن لا أعطيه النقود.. لكنه أخبرني:
إنهم لا يؤدون أي عمل قبل أن يستلموا أكراميتهم..
وإزاء حيرتي، صار لزاما أن نتفق من جديد.. فقلت:

- أنت الكفيل.. وبدون تردد قال:
- الكفيل خسار..
ومضت السيارة تجري بسرعة، ومن بعيد لاحت بناية المرور، فيما قبض (شاكر فرهود) المبلغ، حينما توقفنا على جانب الطريق، مضى مندفعا وسط الزحام.. مندسا وسط الجموع الواقفة أمام النوافذ المواربة.. كان الضجيج يعلو ثم يرد ليخفت، وبعد طول انتظار عاد ليبلغني:

علينا أن نغادر المكان.. فقد اتفقت على موعد معهم، واحتجت أن أقول له: الموعد قريب أم بعيد..؟ أجابني وهو يمضي نحو السيارة المتوقفة.. فيما كان يلوح بمفتاح العربة:
سنبقى في المدينة.. حتى يحين اللقاء عصرا..

كنت غير مقتنع لما يحصل، ولكن لا توجد فرصة أغتنمها لأجل الحصول على الرخصة.. إلا هذه..
عند الظهيرة كنت أحاول جادا تعلم السياقة، لكني لم أكن أجيدها، وفي الموعد المحدد، حضر رجل حليق اللحية، عندها رأيت صاحبي يقفز من وراء المقود مرحبا به، عرفت أنه الرجل الذي أتفق معه صباحا.. كان يبدو في عجلة من أمره.. قائلا:

يجب أن نذهب إلى دار السيد العام..
وبدون تردد أجاب شاكر: حاضر لا عليك سوى أن تدلنا على الطريق..

انطلقت السيارة وسط الشوارع الفسيحة، ونسمات الهواء تداعب وجهي، وقد جلست خلف الرجل النحيف.. لا أدري لم تذكرت قريتي الطينية.. وزوجتي التي لا تمل من الاعتناء بالبقرات الثلاث، وحظيرة الحيوانات، حيث رائحة الروث تملا الفضاء.. كنت أفكر بمرارة وفجأة وجدت نفسي أكره زوجتي.. رحت أردد داخلي (يجب أن أتزوج من امرأة أخرى....) انتبهت عند السيارة أمام المنزل الفخم، ورائحة الرازقي تعطر الجو، بدا كأنه شيء أشبه بالأحلام.. مضى الرجل الذي كان جالسا بجوار السائق نحو الباب، ووضع أبهامه على جرس الدار..
سمعنا صوتا نسائيا يأتي من الداخل:
من الطارق..؟

عفوا.. أنا الملازم أحمد..
ظهرت المرأة وهي تقترب من الباب الخارجي للمنزل.. حيث كنا نقف، كانت تبدو طرية مثل (قشطة) بقوامها الرشيق وبشرتها البيضاء، حينما تطلعت إليها، ازداد كرهي لزوجتي، التي تذكرني بجاموسة جارنا وهي تغطس ببركة الوحل وقلت بداخلي (يا للقرف)..

أعطت السيدة الجميلة الورقة البيضاء إلى الضابط الذي حظر معنا.. شكرها ومضينا معا. وفي السيارة قال: علينا الذهاب إلى السيطرة التي تقع خارج المدينة.. اتجهنا صوب الشمال الغربي للمدينة الواسعة، في مكان الغروب يزحف ببطء ليكسب الأشياء لون العتمة..
وعند نقطة التفتيش سمعت الملازم يحدث شاكرا
أعطني النقود الآن..

ألا تذهب لترى.. قاطعه الضابط قائلا
لا وقت لدينا.. هاتها الآن، دس السائق يده في جيبه واخرج حزمة النقود ليضعها بيد (الملازم احمد) الذي قال:
هل النقود كاملة العد ؟!..
نعم.. سحب الرزمة ووضعها في جيب بنطاله، وترجل لوحده.. وطلب منا البقاء داخل السيارة لانتظاره..
ومضى نحو الغرفة الوحيدة في هذا الفضاء الواسع.. احتجت أن أدخن سيجارة فقد تعبت أعصابي من الانتظار وعدم الوثوق بما يجري.. فقلت لصاحبي ترى لما جاء بنا إلى هنا ؟!
لا أعلم
إن قلبي يحدثني بأننا سوف لن نحصل على شيء..

انتظر.. لنرى ما يحدث.. وبعدها نقرر


عاد الملازم أحمد، لمحت على وجهه ابتسامة ساخرة.. أيقنت أننا مغفلون، وأن هؤلاء يضحكون علينا وأدركت بأننا لهم صيد ثمين..
حينما اعتدل في جلسته وتحركت العربة باتجاه المدينة.. استدار بنصف جسده نحوي.. وقال
تعالوا بعد أسبوع وستجدون الرخصة جاهزة..
ضحكت في سري، لان إحساسي لم يخب، وقلت جازما بعد أن تركنا الضابط الذي غادرنا متبخترا..
لقد كذب علينا
لا تقل ذلك !!

إنها الحقيقة وبحس الرجل الريفي قلت سترى إذا صدق معنا فاجئني أحساس بالمرارة، ونحن نتجه نحو قريتنا المنسية، وراودني شعور غريب بان أطلق زوجتي وأنهي كل معاناتي ..
شعرت بالغضب، لأني بعت البقرة وصرفت ثمنها لأجل الحصول على إجازة السوق.. والتي قد لا أحصل عليها..
ولكنني لم أضعف إزاء الأفكار التي تراودني، فقد كنت مصمما في الحصول عليها.. لهذا قررت أن أبيع محصول الشلب وأبدأ من جديد..

عدت إلى المعسكر وطلبت إجازة من أمر السرية.. بعدما أخبرته بقصتي.. ووعدته بكيس من الرز لو أني وفقت في الحصول على الرخصة.. لكنه اخبرني بأنهم فتحوا دورات خاصة بتعليم السياقة.. ومن ثم تمنح لنا أجازات السوق..

انتظمت مع آخرين في التدريب (بمعسكر النقلية) ولم تكن الدورة سوى نزهة تمتد إلى أسبوعين.. لمعرفة أصول قيادة العربات، وبعض المحاضرات في الميكانيك وعند انتهاء المدة المحددة كان يجب أن تبدأ الاختبارات لكني فشلت بإعادة المركبة إلى الوراء فقد أصدمت بالحاجز المثبت عند نهاية النقطة..

وإزاء فشلي كان علي أن ابحث عن منفذ يخرجني من هذه الورطة، فلم أجد كبير عناء بالتحدث إلى الجندي الذي يعمل مراسلا لأمر الوحدة التي نتدرب فيها.. ولما علم بحاجتي طلب مني مبلغ من المال..



ورحت أتوسل به لأجل أن يقلل المبلغ المطلوب.. ولكنه شرح الأمر لي بصورة أخرى.. ففهمت ذلك وفكرت..
لا بد أن أبيع بقرة أخرى لأجل الحصول على إجازة السوق.. وإلا لن احصل على السيارة.. فرضيت وسمعته يقول بصوت عال.. لا تنسى أن تحضر معنا كيسا من الرز..
واحتجت أن أتنفس الصعداء.. وقلت بحرقة:
- تدلل



 
  صالح جبار (العراق) (2008-03-13)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

إجازة السوق-صالح جبار (العراق)

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia