سؤال الفلسفة سؤال الحريــــــــــة-عبد الستار الكفيري (أربـــد – الأردن)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

سؤال الفلسفة
سؤال الحريــــــــــة

  عبد الستار الكفيري    

ليس في وارد هذه المقاربة توخي النظر في الجذور التي أفضت إلى غياب الفلسفة وما لابسها نظرياً وتاريخياً , على أهمية هذا وخطورته , وليس القصد من وراءها الوقوف على المآلات التي تناتجت عن هذا الغياب في الفضاء الثقافي العربي العام , من غيابٍ كلّي أو شبه كلّي لسلطة العقل ومرجعيته لصالح مرجعيات ما قبل معرفية مُعتمة , تناسلت ولم تزل بما هو أشد ظلاميةً وقتامةً , لدرجة بتنا نلمس فيها التأثيرات الناتجة عن ذلك ونعاين تجلياته في واقع التخلف السياسي والثقافي والاجتماعي العربي الذي نشهده بين ظهرانينا .

   إن هذه المحاولة تروم البحث في ميكانزمات إهمال الفلسفة وتفاعلاتها , وما نتج عنها من تراجعٍ لمكانة التفكير الفلسفي في السياق العربي الراهن  , والذي يشهد بمجمله انكساراً وتعثراً في شتى الأصعدة و المستويات , مما حال بيننا كأمةٍ لم تزل تبحث عن مشروعها النهضوي  وبين التطور والتقدم القومي و الإنساني , وانسحاباً ملحوظاً من ميدان الفكر العلمي بعدما قطع شوطاً طويلاً من الابتكار والإبداع , من المحتّم أننا نستهلك آثاره وتداعياته هاهنا , في الجغرافيا العربية الممتدة شرقاً وغرباً , بدءاً من الأقراص المدمجة ذات الاستخدامات التقنية البسيطة وصولاً إلى الفسفور الأبيض الذي يختص بإذابة الأجساد البشرية !! .

   الإشكالية الأساسية في طرح القضية التي بين أيدينا تتعلق بمدى تأثير الفلسفة في الجمهور العربي ومدى تفاعل الأخير معها , لكن مهلاً , فإعمال النظر في هذا لا ينهض إلا على فرضية وجود فلسفة و إنتاج فلسفي ومشروع فلسفي مستقل وفاعل , وهذا لا يصحّ عربياً , مادامت الفلسفة لم تزل معزولة في جزيرة صغيرة تقبع عند أطراف المحيط المتشظي , ومادامت حرية التفكير الفلسفي أصلاً محظورة و محجورٌ عليها من قبل سُـلط سياسية واجتماعية وثقافوية ترى في الشُغل الفلسفي ممارسة عتيقة ونخبوية انقضى زمنها , إلى جانب نظرةٍ يشوبها التهكم والسخرية , وقد يكون من الطريف هنا أن نذكر أن بعض المصريين يدعونها بـ " الفلسحة " تعبيراً عن روح السخرية التي يتمتع بها ضحايا الابتذال والتسطيح , فضلاً عن أن تلك السُلط غير مكترثة أصلاً بالفكر العلمي ولا مبالية إزاء حالة الفوات الحضاري و الحطام العمومي  بلغة الطيب تيزيني , التي تستبد بالأمة ومشروعها المنتظر , إذ أن لهذه السُلط في مجموعها مصلحة متقاطعة في تأبيد ظاهرة الظلام الفلسفي في المجال العام  , لأنها منتفعة من تغييب الفلسفة وعزلها  , بمعنىً ما أو بآخر , لكونها لا تفكر إلا بما يضمن لها المزيد من احتكار الثروة والسلطة .       إلى جانب ما سبق , هناك سلطة ثيوقراطية يتملكها القصور والعطب , سلطة تدّعي لذاتها العصمة , و ترى في نفسها وكيلاً معتمداً وحصرياً  للحقيقة والمعرفة والغيب , لها الأخرى أيضاً المصلحة في الإبقاء على حالة شيوع المفاهيم المبتذلة والمسطحة للفلسفة وتكريسها شعبياً , وفي أشد تجلياتها زيفاً والتباساً  , باعتبارها ضرباً من فذلكة تنظيرية هائمة لا جدوى من طرحها أو بوصفها جنوناً أو زندقةً يحرم ممارستها واقترافها , وقديماً قيل " من تفلسف فقد تزندق " , إنها سلطة تموضع مرجعيتها في سلطة متعالية مقدسة تمنحها الحصانة في مواجهة أي نقد أو نقض , لتخلق في إطار هذه الوضعية الإذعان والتبعية وتجنب أيّ تساؤل !! . 


   لقد فات كثيراً من المشتغلين في الفلسفة , وهذه معركتهم ,  أن مواجهة هذا الابتذال والاختزال والتبسيط المُخل ينطلق بداهةً من التأسيس الملائم لمفهوم الفلسفة الحقيقي وتعميمه , مرهوناً بالانفتاح على مرجعيات تسهم في ضبط السؤال الفلسفي وإشكالاته النظرية على قاعدة المبادأة والتجديد لا المسايرة والتقليد , وهذه معركة لم تحسم بعد , على الرغم من تلك القرون التي أزهقتها الأمة من حياتها .

 
    إن أكثر ما يميز الفلسفة على الطريقة العربية , وهي بائسة بلا شك ,  أنها دائماً محل ريبةٍ وشك , وأنها مصدر قلق وتهديد لتلك السُـلط , لأن الفلسفة بهذا المعنى لا تعدو كونها طريقة خاصة في التفكير , تنظر إلى العقل بوصفه السلطة العليا ومرجعية الحقيقة , طبقاً ليورغن هابرماس , علاوةً على كونها  مطارحةً جَسورة للأسئلة القلقة الهاجسة وصوغاً منطقياً لها لا تقديماً للأجوبة الجاهزة الناجزة , فضلاً عن كونها – زيادةً على ما سبق -  هزاً لليقين السائد ومساءلة متوثبة للبداهات المألوفة وللنماذج المستقرة . وكونها كذلك فقد حسمت تلك السُـلط أمرها إزاءها , لتصنع من نفسها قوة موحدة , إن صح التعبير , في مواجهة الشغل الفلسفي , والنتاج الفلسفي بوجه عام .
 
   وإذا كان لأحدٍ أن يعتقد أن التفكير الفلسفي لم تُـتح له المناخات اللازمة , ولم تتوفر له الشروط والسياقات الضرورية , ليمارس وظيفته في المجال العام , فلأن السبب يعود في جزء منه إلى ما سبق , ويعود بالموازاة معه إلى أن الفلسفة في الواقع العربي , الذي يمارس هيمنته بمعنى ما , لم تعد تملك دفعاً ذاتياً جوّانياّّ ً يؤكد راهنيتها , بالإضافة إلى كون ذلك يحول دون قدرتها على صوغ التساؤلات الملائمة للواقع الوجودي المعاش , باعتبارها نظراً عقلياً في الوجود , وصوغاً لأسئلته الحائرة التي تبالي حتى بأدق التفاصيل عبر إحالتها المستمرة إلى سندها المعرفي , بحثاً عن المعنى والمشروعية , فضلاً عن كونها بحثاً دائباً في المعرفة ذاتها وشروطها وإمكاناتها , وقدرة العقل من ثم على إنتاجها , فالفلسفة لاتكفّ عن كونها نقداً ونقض , ثم نقد النقض ونقضه .

   لقد فشلت الفلسفة في رهانها التاريخي على كسب المعركة في مواجهتها مع الوهم والظلام , فاستبّد التكفير وأُستُبعد التفكير , وغلبت الأسطرة وتراجعت الحقيقة , والذي حصل فعلاً هو أنه غابت الحرية , حرية التفكير الفلسفي , أو أُغتيلت قسراً و إكراهاً  , ولم يعد من معنى لصناعة الإمكان من غير حرية , فالفلسفة هي نقيض الحَجر والإذعان , وأخلاق الطاعة والامتثال , كما أنها  رديف الخلق والإمكان . ألم يُعرّف هايدغر الكائن البشري بصفته " إمكانيته على أن يكون حرّاً " , على أن الفلسفة بهذا المعنى أو ذاك لا تعدو كونها نقيضاً للوهم , الوهم الذي قد يتلبس الإنسان حين يظن أنه يمتلك منتهى الحقيقة وناصيتها . 

  تاريخ العلم يكشف لنا أسطع الأمثلة في المعركة التي احتدمت منذ آلاف السنين , بين سلطتي العقل و اللاعقل , سلطان العقل في مواجهة اللاهوت , فجاليليو تحدّى هيمنة الكنيسة ومحاكم التفتيش , التي قضت عليه بالموت , ليثبت بقوانين العلم الصارمة حقيقة دوران الأرض , على الرغم من تمسك رجال الكنيسة بحرفية النص في الكتاب المقدس , واحتكار تأويله وتفسيره , لقد كان صراعاً بين منهجين , منهج ينتصر للعقل و يرى أنه يستطيع أن ينقض بالعلم وقوانينه وأدواته  ما يمكن أن يستقر في القاع ويحاكمه بمنهجية محكمة ومضبوطة , في مقابل منهجٍ يرى في أنه يمتلك إجابات نهائية , قطعية الثبوت , لامناص من الإقرار والتسليم بها .  وهنا يمكن أن تأخذ الفلسفة العربية , والمشتغلين بها , من هذا المثال وغيره على مر التاريخ , درساً في التحرر من وصاية تلك السُــلط التي أمعنت في تغييبها وحكمت عليها بـ " الموت " والتكفير  ,  وبالنتيجة فقد عزلت الفكر العربي عن مسيرة الفكر الإنساني وتقدمه , وتداعى معه التفكير الفلسفي بعدما تقوّضت أركانه وتزلزلت جدرانه.



 
  عبد الستار الكفيري (أربـــد – الأردن) (2010-01-02)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

سؤال الفلسفة
سؤال الحريــــــــــة-عبد الستار الكفيري (أربـــد – الأردن)

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia