قفزت من فراشها برشاقة ، قفزة عسكرية ، متحدية نومها الأهبل ، لبست جلبابها الوحيد و تسللت من الحجرة الضيقة التي تكتريها فوق السطوح ، أغلقت الباب بإحكام و هدوء حتى لا توقظ طفلتها ، و نزلت الدرج حافية ببطء حتى لا يستفيق الجيران ، و مرقت من الباب الخارجي إلى الزقاق تدفع عربتها الصغيرة أمامها ، و تمتمت بأدعية حرصت على مداومتها ، لفحت وجهها برودة الفجر الرطبة ، فملأت رئتيها بهواء نقي لم يلوثه استيقاظ المدينة بعد .
هي امرأة في الأربعين ترملت بعد وفاة الزوج ، قضت و إياه حياة زوجية عمرت عشر سنين ، جنت منها ثمرة وحيدة ، الطفلة المحبوبة "فاطمة" ، لطالما سألتها عنه ، و أعيتها المدارات في الإجابة . وجدت نفسها و صغيرتها وحيدتين بلا معيل إذ كان الزوج عاملا مياوما فقط ، فلم يترك معاشا و لا إرثا . و رغم ضيق ذات اليد كان ينضح كرما و جودا ، ينفق مساءا ما كانت تقبض يداه صباحا ، فكانت تعاتبه برفق و أدب "اللحم و السمك في يوم واحد يا رجل ؟ " فيرد بابتسامة جميلة ساخرة من عتابها. أحبته حيا و ميتا ، تدعو له بالرحمة في كل حين ، رفضت الزواج ثانية بدعوى أن الفقيد حاضر في ذاتها ، اتهموها بالحمق ، فلم تكترث .
تخرج فجرا تجمع في عربتها كل المتلاشيات ، صفائح معدنية، بلاستيك ، ورق مقوى... لتبيعها . ولم تكن جولتها الصباحية هاته تخلو من متاعب التحرش و البذاءة و المراودة على النفس ، و هي متجلدة في إباء كالجلمود . تعود مع السابعة بخبز و جبن و شاي و سكر ، توقظ طفلتها لتفطرا معا ، ثم تصحبها إلى المدرسة في فخر عميق ، و متى اطمأنت عليها في الصف مع قريناتها تغادر إلى مكتب أحد المحامين لتنظفه كل صباح بأجرة شهرية قنعت بها ، و مع العاشرة تمر بالسوق تتبضع ما ستحضر به الغذاء و العشاء معا ، و بعد الزوال تشتغل في بيوتات بعض الموظفات مرتبة حسب أيام الأسبوع ، فتحظى منهن بأكل و لبس ، لتعود إلى البيت مساءا متورمة القدمين كليلة العينين بريئة من كل إثم ، تغالب النعاس حتى تؤدي آخر فريضة، و تجاري طفلتها بحكايات تتلعثم في سردها ، لتغط في نوم أميري عميق ،فتحلم بزوجها الغائب غيبته الأبدية و الحاضر في ذاتها .
لكن ما لهذا الكابوس يجثم على صدرها ليلتين متتاليتين نغص عليها رقدتها المطمئنة ، تحلم بكائن غريب الصورة ،مركب من ثور برأس بشرية و يدين طويلتين بأظافر حادة كالمناجل بأمرها بصوت كالخوار أن تقف مكانها ، و هي تهرب منه في مكان يشبه الغابة بين الأشجار يمينا و يسارا ، فيلحق بها و ينقض على رقبتها فتصرخ حتى تحس بيد ابنتها توقظها فتستفيق مذعورة تتصبب عرقا، تستعيد بالله من كل شيطان رجيم و تحاول النوم ثانية فلا تستطيع.
كانت ، دائما ، تتحاشى الصدامات مع حثالة الطرقات في جولاتها الفجرية حتى فجر هذا اليوم ، استيقظت في داخلها رغبة ملحة في الذود عن كرامتها حتى آخر رمق، أمام هذا الغاشم السكران الذي دأب على ترصدها عند عطفة الزقاق ، ينتظرها بوجه متفحم يشم قماشة سوداء لا يكاد يقتلعها من منخاريه الكبيرين كفوهتي بندقية صيد ، يبللها بسائل تفوح رائحته العفنة ملوثة هواء الفجرية المفضل ، اعترض طريقها مترنحا بجسارة كبيرة ، ترجته أن يتركها لحالها ،فتزايد غروره مع رجائها ، و هاجمها كالثور الهائج، فلم تجد بدا من مقابلة الشر بالشر ، و استلت قضيبا حديديا من تحت عربتها و عالجته بضربة عل رأسه ،فصرخ صرخة هزت الزقاق، فاستفاق من صداها النيام ، و سقط الثور و الدماء قانية تنزف من أذنيه
و أنفه و لم يتحرك بعدها أبدا.