أعز ما يكتب (3من3) الحلم والواقع وما وراء الواقع-عبد الكريم برشيد (المغرب)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

أعز ما يكتب (3من3)
الحلم والواقع وما وراء الواقع

  عبد الكريم برشيد    

ي قول ألبرت أينشتاين ( إذا تعارضت النظرية مع الواقع، فغيروا الواقع)
ونفس الشيء يمكن أن نقوله عن النظرية الاحتفالية، والتي تتعارض اليوم تعارضا كاملا مع الواقع، لأنها تختلف عنه ولا تشبهه، ولأنها تسبقه بمراحل كثيرة، ولعل هذا هو ما يبرر أن يعمل الاحتفاليون ـ نظريا وفعليا ـ من أجل تغيير هذا الواقع المتخلف، وذلك حتى يصبح في مستوى تقدم وحقيقة وجمال وكمال ونبل وشفافية النظرية الاحتفالية، والتي هي أساسا حلم في مستوى البشرية كلها وفي مستوى الأبدية.
بحثا عن ذلك الواقع الآخر إذن، وبحثا عن المدن الأخرى الممكنة الوجود، وبحثا عن الفن
الآخر، وعن الفكر الآخر، وعن المجتمع الآخر، وعن العلاقات الإنسانية الأخرى، وعن
المؤسسات الاجتماعية الأخرى، تأسست الرؤية الاحتفالية، وظهرت النظرية الاحتفالية إلى
الوجود، وكانت ضرورة من ضرورات شعرية الحياة،  وكانت بجمالياتها وبشعريتها
استجابة لشعرية الوجود.
ويعتقد الاحتفاليون أن  الشعراء أصدق من الواقع، ولو كان هذا الواقع جميلا ما جملوه،
ولما أضافوا لهم من جمال نفوسهم كل هذه المحسنات الجميلة والنبيلة البديعة، ويعتقدون
أيضا أن المخترعين أسرع من ذا الواقع، ولهذا فقد تغير إيقاع التاريخ بفضلهم، وأرى أنه
علينا أن نتوقف قليلا عند السؤال التالي:
ــ أيهما ينبغي أن نغير اليوم، أحلام الشعراء غير الواقعية، أم نغير هذا الواقع، وذلك بكل وقائعه غير الشعرية؟
وعن هذا السؤال تجيب الاحتفالية: نغير الواقع طبعا، وذلك حتى يصبح في مستوى علم العلماء، وحتى يرتقى إلى مستوى حكمة الحكماء، وحتى يصبح الحكام فلاسفة، وحتى ينزل الفلاسفة من أبراجهم العالية، ويصبح لهم دور كبير وخطير في تغيير الواقع، وفي تغيير وجه العالم، وفي تصحيح مسار التاريخ، ويذكر أبو حيان التوحيدي أنه قيل لديوجانس (ديوجين) ( متى تطيب الدنيا فقال: إذا تفلسف ملوكها، وملك فلاسفتها)      
يمارس الإنسان الاحتفالي المسرح وهو يعرف أنه يعيش في مسرح الدنيا، وهو لا ينسى أن بداخله مسرح آخر مختلف، وهو بين هذين المسرحين يحيا ويعيش، ويحاول دائما ، يجدد حياته في المسرح، وأن يجدد هذا المرح في الحياة، وفي تعريف هذا المسرح يقول الاحتفالي ( الأساس في المسرح أنه حلم عاقل، وأنه فكر فاعل ومنفعل، وأنه فيض الواقع وفيض التاريخ وفيض الحياة وفيض الوجدان الجماعي وفيض الروح الكونية) حوار مع ع. برشيد ـ أجراه عبد العزيز بنعبو ـ جريدة المنعطف ـ الملحق الفني ـ ص 7
لقد آمن الاحتفاليون بأنه لا يمكن أن يبنوا بناء إبداعيا مركبا ومعقدا، وأن يؤسسوا عالمهم  الفكري والشعري بدون أن يكون ذلك على أرضية فكرية صلبة، وبدون أن ينطلقوا من تصور نظري سابق.
ولقد ترددت في بيانات الاحتفالية ـ وبصيغ متعددة ومتنوعة كثيرة ـ الفكرة الجوهرية التالية، وهي أنه لا يمكن أن نمشي في الطريق بدون خارطة الطريق، ولا يمكن أن نبحر في بحار الوجود والحياة والمسرح بدون الاعتماد على بوصلة رزية داخلية، وبدون أن نحدد وجهتنا، وبدون أن تكون لنا أهداف فكرية نسعى نحوها، وبدون أن نعرف طبيعة الأرض التي نقف عليها.
في هذا السفر الإبداعي والفكري، تحدث الاحتفاليون كثيرا عن الرؤية والرؤيا، وأكدوا على أن عين العقل عندهم أكثر أهمية وأكثر خطورة من عين الحس، وقد كان ذلك اقتناعا منهم بأن ما لا يمكن أن تدركه العين المجردة، يمكن أن يدركه العقل، ويمكن أن يصل إليه الخيال، ويمكن أن يلحق به الخيال، ويمكن أن تقبض عليه الأحلام، وبذلك، فإن الذين يعيشون حياتهم بالتقسيط، والذين يحيون عمرهم يوما بيوم، وساعة بساحة، وحالة بحالة، لا يمكن أن يدركوا أي شيء كبير وخطير في هذه الحياة، والذين لا يتصورون الأشياء المجهولة، ولا يستحضرون الأشياء الغائبة، والذين لا يستشرفون الآفاق البعيدة، والذين لا يتوقعون حدوث الوقائع الغريبة الممكنة، كل هؤلاء ـ وآخرون غيرهم كثير ـ لا يمكن أن ينظروا إلى ما هو أبعد من أنوفهم، ولا يمكن أن يصلوا في سيرهم إلى أية محطة بعيدة.
ولقد حرصت دائما، على ألا أكون من أولئك الذين ( حظهم من الفهم الحفظ ومن العلم الذكر) واعتمدت على العيون السحرية التي في داخلي، وتعجبت مع أبي حيان التوحيدي من ذلك الذي يرى ولا ينظر، وقلت معه ( ما أعجب أمرا تراه بعينك، ألهاك عن أمر لا تراه بعقلك) فقبل أن أفعل شيئا، فإنني أحلم به أولا، وقبل أن أؤسس أي أساس فكري أو إبداعي فإنني أتصوره وأرسمه أولا.. أرسمه في الفراغ النظري، والسؤال الفلسفي هو الأسبق دائما لدي، وكل هذا نعيشه اليوم، من ابتكارات إبداعات ومن اكتشافات وفتوحات، ما هو إلا أجوبة عملي عن أسئلة نظرية سابقة. لقد غير العلماء والمخترعون والمكتشفون وجه العالم، ولم يغيروا نظرياتهم، ولو غير جاليليو نظريته ـ حول دوران الأرض ـ فهل كان سيتغير وجه التاريخ؟    
إن اكتشاف القارة الأمريكية هو جواب عملي عن سؤال نظري يمكن أن نصوغه على الشكل التالي: أي عالم، وأية حياة، وأية أسرار يمكن أن توجد خلف المحيط الأطلسي المخيف؟
أما اختراع الطيران، فإنه لابد أن يكون جوابا عن سؤال أيضا.. سؤال قد يكون ظهر للناس قديما بأنه سؤال مجنون، ولكنه كان حقيقيا ومشروعا بكل تأكد، وككل الأسئلة الكبيرة والخطيرة، فقد كان سابقا لعصره، ولكنه لم يكن متخلفا ولا غريبا عن حلم الإنسان في الطيران، ونفترض أن ذلك السؤال المؤسس للطيران كان على الشكل التالي:
لماذا لا يطير الإنسان كما تطير الطيور التي في السماء؟
بمثل هذا السؤال المؤسس إذن، تقدمت البشرية، وغيرت وتغيرت، وجددت وتجددت، وليس بتلك الأسئلة الخرافية التي من بينها ذلك السؤال الذي تعرفون، والذي هو : أيهما أسبق في الوجود، الدجاجة أم البيضة؟
 وهذا التعلق الصوفي، بالسؤال النظري وبالنظر العقلي، هو الذي كان وراء النظرية الاحتفالية، وكان وراء كل اكتشافاتها وكل فتوحاتها الإبداعية والفكرية .



 
  عبد الكريم برشيد (المغرب) (2010-01-08)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

أعز ما يكتب (3من3)
الحلم والواقع وما وراء الواقع-عبد الكريم برشيد (المغرب)

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia