المدينة الصغيرة-محمد مباركي/وجدة - المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

المدينة الصغيرة

كنت أعرف عنها الشيء الكثير ، قبل أن أعين للعمل فيها و أعيش فيها خمسة عشر عاما . هي مدينة صغيرة ، بناياتها طبق فوق طبق ، جميلة و متكبرة كعارضة أزياء ، تولي ظهرها للغرباء و تتبرم عليهم  ، تصمت متى يمرون بأزقتها و تبصق على مواطئ أقدامهم ، و تخيط لهم بذلا من الأكاذيب و التوجس
 و الخوف ، كأنهم جاؤوها بوباء الطاعون الأسود . و في المقابل تتحذلق كالمومس و تلثم أطراف الأزياء الرسمية ، و تتمسح كالقطة المتشردة بأقدام الذين راحوا يوما ثم عادوا ، يحملون سرر العملة الصعبة ينثرونها تحت أقدام الطبالين و الزمارين  في أعراس البادية المهاجرة إلى المدينة مع كثافة الهجرة القروية من سبعينات القرن الماضي . تتحول المدينة إلى راقصة تتناسى كل حدود الحشمة البدوية المتأصلة فيها . لم أكن أستغرب ، بحكم اختصاصي ، من هذه السيكولوجية المزدوجة : التعجرف من لاشيء و الخنس إلى درجة العدم . ربما استلهمت عجرفتها من سكانها الأصليين ، كانوا غزاة ، جاؤوا من وراء البحر شربوها التبخيس حتى ارتوت ، فظهرت بوجهين كملاط غرفة، زين بزليج أبيض و أسود .
عرفت عنها الكثير من أبنائها ، كانوا زملائي في الثانوية و الجامعة ، هنا ، في مدينتي الكبيرة ، كل شيء فيها  كان يذوب كالملح ، و كلما كبرت يكبر معها إهمال الناس لبعضهم البعض إلى درجة التنافر المقيت .
بقي أبناء هذه المدينة الصغيرة أوفياء لها ، بعد أن تفوقوا في الدراسة ثم توظفوا في قطاعات الدولة ،
في غفلة من الزمن المعوق ، بل منهم من لم يخرج من المدينة ، قالوا عنه في خبث
 " لم يتجاوز بعض قناطرها " . و هذا النوع من البشر مشكلته أصعب و التفاهم معه من قبيل المستحيل. لكن يبقى القاسم المشترك بين هذا و ذاك هو فتح ملفات العورات ، الأمر الذي كان ينفرني من مجالسة بعضهم . و لم يكونوا من أيها الناس ، كانوا محسوبين على الإنتلجنسيا .
شاهدني أحدهم  أرافق بعض المتحزبين فاتهمني في ديني ، فقلت له إن علاقتي بخالقي لا يعلمها غيرنا، فما شأنك أنت ، قال" هو من باب النصيحة " ، قلت : " و الله ما أردت بها وجه الله " .
 و أفتى آخر فِيّ  فتواه البليدة و قال لي في  جمع من الحضور الكريم ، دون أن يستحي ،
 " أنت فاسق فكريا ". لم أرد عليه ، و تركته كذلك الذي ذكره رب العزة ، إن تحمل عليه يلهث و إن تتركه يلهث ، فبهت و ابتع لسانه ، و قاطعني . و ذلك ما كنت أبغي . فقد تعبت من تحمله . و افترقنا مستريحين من بعضنا ، فلم تلدني أمه و لم تلده أمي . و سعدت بهذه القطيعة و حمدت الله و أثنيت عليه ، لما أزاح عني هذا الحمل الذي ناءت به نفسي . تملكني جنون الحيرة من كون فكرة تتحول إلى قنبلة يدوية تمزق أشلاء علاقة  اعتقدت أنها صداقة . و لا أدري كيف استحضرت في حينها  مثال
" عدو عاقل خير من صديق أحمق " .
اعتقدت أن هذه المدينة الصغيرة ، مدينة المتقاعدين و الشحاذين ، هي آخر محطة  ، من هذا الوطن العزيز ،أنيخ بها راحلتي حتى يقضي الله في أمري ، بعدما اندمجت في ثناياها طولا و عرضا . و ضننت أني أصبحت من أبنائها . لكن الأيام و الشهور و السنوات ، بالنفاق الاجتماعي ، أفسدت هذا الضن   .
حدثتني الرتابة و الوجوه المتكررة و الأزقة الساكنة بالرحيل عن هذه المدينة النائمة نصف نومة . فهي كذلك الحيوان الذي ينام بعين واحدة و يترصد بالأخرى فريسة افتراضية .
 راودتني فكرة الرحيل فجأة ، في يوم ممطر، غسلت زخات المطر جسدي من الأدران ، و تملكتني حيرة  السؤال " إلى أين سأرحل ؟ " " هل أعود إلى مدينتي الكبيرة برأس تحجرت بالجلسات الطوال في  المقاهي الفقيرة المبتذلة ، و قراءة الجرائد الحزبية العارية من مصداقية سنين النضال ؟ " .
تشابكت الأسئلة في ذهني حتى تلبد بغيوم أمطرت الحيرة و الخوف من الطرق الوطني رقم 127.  لكنني قررت ، بعد أن استخرت ،أن أركب سيارتي و تكون وجهتي أقصى مدينة في الطريق المتوسطي  ، طنجة . أتبع طيفا أحببته ، قيل لي أنه رحل هذه السنة  إلى هناك



 
  محمد مباركي/وجدة - المغرب (2010-01-21)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

المدينة الصغيرة-محمد مباركي/وجدة - المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia