التجريب إضافة ومعول ضد التابوات-قاسم مطرود /إنجلترا
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مسرح

التجريب إضافة ومعول ضد التابوات

  قاسم مطرود    

أن تكون تجريبيا يعني التمرد على القواعد الثابتة، ومخالفة المألوف، وغزو المجهول، و الإتيان بالإبداع الجديد الذي يمثل إزاحة وهدم وبنيان.
ووفق هذا المنظور، كيف يمكننا القول: هذا مسرحا، نصا، عرضا تجريبيا أو غير ذلك، أولم تكن محاولة الإنسان الأولى هي تجريب بحد ذاته، يوم اكتشف النار، أو السقف، ليبدأ رحلة السكن والتدجين ،أولم تكن أيضا محاولة فك رموز السماء وإعطاءها أسماء الآلهة كي تيسر عليهم سبل العيش، انه  تجريب في سوح مختلفة.
 وإذا كان لزاما علينا الوقوف على المسرح فقط، وحصرا منذ نهايات القرن التاسع عشر، حتى نهايات القرن العشرين، والحق إنها الفترة الخصبة والجديرة بالمناقشة.
وكذلك على ورقتنا أن تحافظ على السياق المراد طرحه لهذا اليوم والمتمثل في أدبيات التجريب في الكتابة المسرحية ووثائقها.
أقول: صعب علي وعلى غيري أن ينفرد حديثه عن النص المسرحي، أو الإخراج، أو الأداء، دون أن يمر بهذه العناصر الثلاثة، مكتشفا الالتماعات التي بنت إحداهما الأخرى، بل لا يمكننا تجاهل التلفاز والحروب والعوامل الاقتصادية والتغيرات في الرؤى الاجتماعية وغياب البداوة وتكنلجة الحضارة وعولمة المشاعر ومعلمة الأسرار واختراق المنازل عبر الانترنت كل هذا يتجانس ويتداخل في موضوعة التجريب .
بل وأنا أحاول الكتابة اشعر بوجود أطراف تلهث خلفي تجرني إلى منطقة الحوار التي تسكن وما أن افر منها أجدني واقعا في بقعة أخرى قد تبتعد أو تقترب من التجريب في الكتابة المسرحية،فكيف لي إغفال تجديد تسبس الاكاري أو اسخيلوس أو سوفوكلس كي أصل وهذا المراد إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومن أين جاء برتولد برخت بنظريته الملحمية أن لم يكن لكتاب فن الشعر لأرسطو طاليس الأثر الأول، وما كتب طاليس مخطوطته الخالدة أن لم تكن بين يديه المحاولات الأولى في التجريب المسرحي.
انه وبحق موضوع شائك لكنني سأضع لي مسارا يسيرا واقنع نفسي بان كوننا وتاريخ الإنسان بدا حقيقة في القرنين الأخيرين أو لنقل منذ اكتشاف البخار وكل الذي سبقه محاولات لاكتشاف المجهول، إلا انه تجريب في أشكال مختلفة مقرونة بزمنها وسعة إزاحتها وكثافة تكوينها.
ولان المسرح منجز جماعي، لهذا دام خلوده رغم هجوم التلفاز والسينما وكل وسائل الملتيميديا.

وعليه ما أنجزه ستانسلافسكي بتطوير الممثل على المسرح أو تجذير مفهوم المنظر المسرحي كعنصر أساس في التكوين عند جوردن كريك لا ينفصل عن تهمش اللغة في مسرح اللامعقول وخاصة عند يوجين يونسكو، بل التأكيد على وجود المخرج عند راين هارت ومايرهولد أو الإضاءة عند ادلوف ابيا التي دفعت المؤلف المسرحي بالتفكير على اقتحام المساحات الأوسع وعدم اعتماد النص على الحوار المسرحي كما كان في السابق، بل اعتبار الحوار عنصرا من العناصر الهامة وليس كل شيء ،ما وددت قوله إن اكتشافات المخرجين وتغير هندسة خشبة المسرح والتلاعب بمعمارها كما فعل مايرهولد في مسرحية "هيلدا جابلر"حين أزاح القوس المسرحي الجداري ومد الخشبة إلى عمق الصالة.
 ألا يدفع هذا المؤلف المسرحي بالتفكير مليا بكيفية باقتحام مساحة أوسع في عقل المتلقي .
بل يمكنني القول أن غاية التجريب، أن كانت له غاية هي اكتشاف الغامض من الأشياء، والتحرش بالمقدس، وكسر التابوات، ويوم يحدث هذا يصبح قديما، وعليه أن يبحث عن نواة أخرى، ينطلق منها ويبني عليها هيكله، عله يجد بقعة ضوء في ظلمة، فقد كتب على المبدع التجوال في ثناياها.
الكل يحاول تشيد جسر بين المعلوم والمجهول، هكذا يشعر الإنسان بأنه أمام جملة مجاهيل، وخاصة الفنان المسرحي  المتبصر في عصره الرائي لما هو ابعد عن الآخرين، الذي  يكون بحثه أكثر ديمومة وعناء، وقد يستوطن في صغائر الأشياء، باحثا عن عالم الأنا الواعي، والعالم اللاوعي، عسى أن يجد تفسيرا لوجوده، ودفاعا عن بقائه.
لهذا جرب بيكيت وهارلود بنتر الكتابة عن الصمت، باعتباره لغة، أو بحثا عن الإسكات الذي يلف الآخرين، ومدى قدرة المسرح في استصراخ المتلقي، محتجا أو رافضا لواقع لا يبدو عليه أي تبرير أو معقولية،
أن سر ديمومة المسرح تكمن، في سعة وقدرة التجريبيين الذين يمدونه بين حين وأخر بدماء جديدة وأنفاس محملة بالأوكسجين،فما أن يمضي زمن قصير على مكتشف، حتى يبزغ مبدع آخر، حاملا بيد معولا وباليد الأخرى خارطة بناء.
ولان جوهر المسرح هو البث الجمالي والفكري والإنمائي بين الممثل والمتلقي، وهذا ما توصل إليه مسرح"الوين نيكولايس" الذي مزج بين مسرح انتونان ارتو الغير لفظي ونهج كريك في تحريك الكتل المجرة وتفعيلها على خشبة المسرح.
أن موت الإله عند نيتشه، ونظرية التطور عند دارون، والنظرية الشرطية عند بافلوف، وغيرها من النظريات، التي شكلت فتحا أو صدمة في عقل المبدع واكتشاف البارود واستخدامه وانتشار أشلاء البشر، لم يكن إلا صعقة إلى من كانوا يستعذبون المعسول من الجمل فبالرسم كانت خطوطهم تشبه النار، واللون الأحمر ألقان يتوزع الفضاء، وفي الشعري هجر الشعراء المديح ولغة الأمس، والمسرح الذي يجمع هذا وذاك كان خطابة مختلفا هو الآخر، حيث المساحة الفارغة التي حدثنا عنها بيتر بروك، وبعد بحثنا عنها وجدنها داخل أنفسنا قبل أن تكون على خشبة المسرح.
لم يعد ينفع المسرح تقديمه أمام النبلاء ولم يعد لرأي النبلاء ذلك التأثير في مسيرته مذ بداية القرن العشرين وخاصة في روسيا التي كانت تحتضن لوحدها حوالي 24 ألف فرقة مسرحية وهذا يحيلنا إلى التفكير مليا بمدى أهمية العرض المسرحي وقوة تأثيره في نفوس الآخرين.    
يقول كاندنسكي:"يجب أن تكون حواس الفنان مرهفة لالتقاط صوت الضرورة الداخلية" ويبدو أن المسرح ومبدعيه واكبوا مرغمين جنون عصر كانت فيه المشانق سمته، والتمثيل بالجثث برنامجه اليومي لذا بحث عن لغة جديدة وصورة صادمة تمكنه من إحداث إزاحة أو تأثير .
لهذا حاول يونسكو إلغاء اللغة أو تهميشها، لأنه شعر بعدم فاعليتها أو عدم قدرتها على التعبير عن حجم الضياع الذي يلف الإنسان، وبالشكل نفسه جردنا بيكيت وجعلنا واقفين إلى جانب شجرة جرداء  ننتظر طوال الوقت كودو،ذلك  الشيء الذي  يجهله هو نفسه، لأنه ابن هذا العصر، وقد حاول أن يجرب في منطقة الوعي المزدوج وعي عصري تفرضه العادات والقوانين والعسكر، ووعي بالكاد تجمع شتاته أنامل إبداعية.
ما يمكن تسميته بالتجريب في عالم النص ،هو تجريب وتجديد في الفكري الذي سبق،حين غاب المنطق والمعنى بعد الحرب العالمية الثانية وعند بروز الفاشية والنازية بات ملحا البحث عن منطقة أخرى، للتحاور الإنساني.
 ويوم يبدأ البحث يسير معه التجريب في خط واحد ليبدأ في رحلة الاستكشاف وسيسمح الإنسان المبدع الخلاق لنفسه قول هذا أو ذاك أو صنع مخلوقات جديدة بنيتها الكلمات التي تجسد الصور المنجزة حداثويا.
أن تشيؤ الحضارة والبشر واعتبار كل شيء سلعة لها ثمنها جعل آرثر ميلر أن يكتب نصا مسرحيا يحمل عنوان المشكلة ذاتها إذ حافظ وبشكل غير مسبوق Arthur Miller على إنسانيته في المعالجة الدرامية لجميع نصوصه حتى بلوغه 89 عاما ووفاته سنة2005, وهو يتبنى ذلك الموقف في جل نصوصه المسرحية وسيناريوهات أفلامه ومقابلاته الصحفية بدا من مسرحية "موت بائع متجول" والتي هي الأخرى تجريبا لهدم الأسس الأولى للعقل التقليدي والتي حققت شهرتها عام 1948 مرورا بالعديد من المسرحيات ومنها "كلهم أبنائي"
في مسرحية الثمن The Price   تطرق  ميلر لمفهوم الثمن في هذا النص وما هو المعطى والدلالة له في عصر خرب.
حقا إن المحور الأساس الذي بنيت عليه المسرحية، هو بيع أثاث قديم لشقة قديمة، والبحث عن شخص يقدر قيمته ويدفع ثمنه, ويبدو ومن هذه الزاوية أراد المؤلف  يقول بان كل شيء له ثمن على مرور الزمن, وهناك من يكون ثمنه باهظا ومن لا ثمن له.
 إن الشفرات المستخدمة هي أثاث المنزل, أي قطع من الجماد وليس مطلوبا منها مجارات عصر لا يرحم، ولكن وفي لحظات ما، نشعر أن لأثاثنا أرواح ونبض وذكريات، لأنه كان شاهدا علينا في مسيرة حياة مبهمة.
لهذا الكرسي ذاكرة حميمة كونه كان شاهدا على الصراخ يوم ولدنا، وهذا الدولاب يذكرنا بعدد الكرات التي احتفظ بها، يوم لعبنا مع الفريق المضاد، ولا يمكن نسيان سرير النوم، الذي
يا ما عانق أجسادنا وهي تأن من التعب والنعاس, من هذا المنطلق اعتبر ميلر مدخل الأثاث مدخلا ناجحا في بناء نصه المسرحي معرجا على الشخصيات الأخرى محاولا التجريب بغية إحداث تغير.
وبعد التشيؤ وتحجيم الإنسان، تأتي الضياعات، التي عززت اغترابه في عصر يجهل مفاتيحه، بل اغترب أمام نفسه ، وشعر انه كائن من كوكب آخر، وليس له مكان هنا، وهذا دفعه إلى العزلة عن الآخرين وفقدان التوازن، والبحث عن زورق النجاة.
 ومن هذا التداعي بزغ المجرب الكبير برتولد بريخت، الذي ارتضع هموم عصره، عبر مدرسة بسكاتور، وتعمقه بالفكر الماركسي والهيجلي، وكيف حاول أن يوقظ الإنسان في مسرحه، بغية أن لا ينام كما يبغي عصره الذي يوزع أفيونه بالمجان.
مع تجريب بريخت، وفي جميع نصوصه والتي هي عروضه في الوقت ذاته، كنا معه على الحد الفاصل بين ثقافة الأمس المتمثلة بأرسطو وقوانينه في الدراما، ودخولنا عالم جديد اسمه التغريب.
ما أريد أن أصل إليه، هو لا يمكننا أن نفرز بين مساحة التجريب بالنسبة للمجرب وبين التحولات العصرية الكبرى المتمثلة بالحروب والكوارث والإنماء أو الهبوط الاقتصادي.
بمعنى حين تشتد عاصفة التجهيل تتحرك جموع المجربين في الإيفاء والدفاع عن وجودهم الإنساني.
فلم يكن ظهور الدادائية أو السريالية أو الملحمية كما ورد ذكرها أو الوجودية أو الرمزية ومسرح اللامعقول إلا ليكون ردة فعل أو بحث وتجريب في المناطق القفرة .
وشاهدنا جل المجربين تكون مساعيهم على الوجود الإنساني كإشكالية عصرية وأنا لا أريد في ورقتي هذه أن أتعبكم بتناول الكتاب المسرحيين اللذين بانت لمساتهم كمجربين مضيفين في عصر يحتاج من يحركه لأنهم كثر وهذا ليس محل بحث انجازاتهم إلا أني أشير لهم فقط.
ومن حسنات التجريب الواعي المدرك للتحولات العصرية من النمو السريع لتكنولوجيا المعلومات جعل عصرنا يجري في ساحة سباق خيل، مما عزز التعددية والاختلاف بالرؤى ليكون إثراء للمنجز الإنساني، فمان أن تظهر فكرة أو مفهوم أو فلسفة للوجود،تدحرها أخرى لان التي سبقت أصبحت في عداد الماضي وهذا هو قانون التجريب.
أن الإحساس بالقلق والخوف من هذا الوجود المتحول والمتغير هو ما تدور حوله جل مسرحيات بكيت ويونسكو واداموف وجينه وشحاته وغيرهم.
اعرف أن مساحة المحور المراد الاستيطان فيه مساحة واسعة إذ علينا التجوال في أدبيات التأسيس للتجريب المسرحي ووثائقه بدا من نهايات القرن التاسع عشر حتى نهاية القرن العشرين. بالرغم
من حصر محورنا في أدبيات التجريب في الكتابة المسرحية ووثائقه ، إلا أني أجدني متوقفا في مرحلة
 ما بعد الحرب العالمية الثانية وخصوصا مسرح اللامعقول ذلك المسرح الذي أعطى الوجه الحقيقي لمفهوم التجريب.
 لست متناسيا الدور الذي لعبه سترندبرغ في مسرحية الأب أو المس جوليا وما قدمه ابسن في البطة البرية أو بيت الدمية ولكن لزاما عليّ الوقوف عند بيراندلوا ذلك الذي صفع العصر وهز عروش المسرح البرجوازي في مسرحيته ذائعة الصيت "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" الذي طرح مشكلة وجعل الجميع يبدون آرائهم فيها .
وفي نهاية الأمر لم يأخذ أي من تلك الآراء والتي لم تصب في المنوال الأخير، وهذا هو ديدن الحقيقة النسبية التي تدفعنا للقول :ليس ثمة طبيعة إنسانية ثابتة.
كيف لا يندفع المبدع إلى سوح التجريب وهو يجهز من قبل الفلسفة الماركسية بجملة نارية مستفزة "ليس هنالك شيئا ثابتا،كل شيء متحول " ألا يشجعنا هذا بالبحث عن مصدر المعنى أن كان هناك معنى لهذا الوجود,كيف تبنى شخصياتنا المسرحية وفق هذه المداليل الجديد، لعصر متخم بالتجديد والعدم والدم والهدم والبناء، هل يعقل أن تبقى شخصيتنا ومواقفها باردة كالثلج وهي تحتضن فوهات المدافع.
حين يشعر الإنسان بأنه محاصر من عصر افترض أن المادة فيه هي المعيار الأساس للوجود، سيبحث حتما عن أصوات جديد للصراخ قبل أن تصدا حنجرته.
التجريب ثورة والثورة لا تنهض إلا إذا اكتملت سبل النهوض والسؤال الذي يسبق،لم نشبت تلك الثورة لم ثار جان جينه لم ثار انتونان ارتو في ثلاثينيات القرن العشرين حين اعتبر المسرح ميتا أن لم يزوّد بالمزيد من الأحلام التي تدفعه إلى الطقسية في الأداء .
لم ثار فيكتور هيجو الذي اصدر بيانه وهو في الخامسة والعشرين حين قال:فلنحطم تلك النظريات والنظم الشعرية،ولنطح بتلك الواجهات الجصية العتيقة التي تخفي حقيقة الفن.
انه أي هيجو،بدا بغزو المجهول وهدم الواجهات الجصية كما أراد مذ مسرحية هرناني، التي أعقبتها أعمال زولا وابسن وسترندبرغ كي يدعموا مساحة التجريب ضد التابوات.
 التجريب هو التمرد على القواعد الثابتة ولكن ما هي القواعد الثابتة ومن يحدد ثبوتيتها أو حركتها وفاعليتها في المجتمع،انه المبدع ولهذا قلنا كما سبق :بان النسبية في التوافق أو عدمه هي سمة هذه القرون المتحركة الغير ساكنة،هناك الكثير من يجد ضالته في السكون بل يدعمه وهذا على مستوى سياسات بلدان كي تترك إنسانها في سباته، ولكن هذا ليس ديدن المسرح الذي ولد والانتقاد معا وكأنهما ولدا في حبل سري واحد،مذ قالت انتجونا لكريون
انتكونا: أتتمنى أكثر من موتي؟
كريون:كلا
 مازالت هذه الإشكالية  مستمرة في التحدي والاستمرار كي لا يترك المبدع الخلاق هموم عصره إلى لاعبين صفاتهم غير إنسانية وان كانوا يشبهوننا بالشكل.
يجب أن يكون التجريب تجاوزا للركود،بمعناه المرضي، لان جسد الإنسانية يصاب أحيانا بذلك المرض، ويظل يبحث عن مستفز، ويوم نشاهد شخصية الأستاذ لدى يونسكو في المسرحية التي تحمل الاسم نفسه، وكيف يعامل تلميذته وما هو رقمها في عداد الموتى، علينا أن نستيقظ، لان دورة الموت مستمرة، وحين يضع يونسكو جثة في عالمنا المسرح، ويجعلها تتضخم، وقد تنفجر علينا، أن نعي حجم خسائرنا، وفداحة تلك الخسارة، انه تجريب في استفزازنا وصحوتنا.
لا يبتعد التجريب عن الديمقراطية بمعناها الصحيح، وليس المتداول هذه الأيام عبر الفضائيات، إذ انه يحتاج إلى فسحة من تبادل الآراء كي يوصل فحوى التجريب أو ينحيه ليجرب صورة أو جملة كلمات أو ابتكار معاني جديدة للحياة.
والحرية هي الأخرى، والتي يمكن القول بأنها قرينة الديمقراطية أو بالعكس،إذ دونهما يكون التركيب ناقصا.
أن سر ديمومة واستمرار التجريب عبر العصور، هو ارتباطه بالإنسان وبالتالي بالمجتمع، وقريب عن مشكلاته، حتى وان حلق في فضاءات الحلم أو الرمزية، إلا انه يتمنى أن يخلق عالما أفضل، أو أهم، لان التجريب لا يقر بنظام وعليه ليس من المفترض أن نقول هذا أفضل من ذاك لأنه يتعارض ومنهج التجريب.
هو مزج بين الحاضر والماضي، أي التجريب إذا اقتضت الضرورة لاستيضاح ذلك، أو التذكير بما هو أنجع للإنسانية، هذا العصر الذي يلفنا أو الذي انفرط.
وقد يهدف أحيانا إلى سلخ الحاضر من الماضي ليتمكن من النهوض أو البحث الميداني وأبعاده عن التابوات التي حكمته بالوراثة.
هذا ما حاوله الفريد جاري حين طرح مفهوم الباتافيزقية والتي هي ردة فعل للميتافيزيقية من خلال نصوص اوبو ملكا واوبو عبدا،ومنهما وغيرهما أراد جاري أن يجرب في منطقة هو نفسه يجهل كل مداخلها لأنه يصعب على الكثير إيجاد تفسير واضح، لهذا المفهوم الفلسفي، المراد منه خلق سلالم جديد للصعود، والتي ركبها فيما بعد يوجين يونسكو.
ولكن الباتافيزقية أوجزت مشغلها بالقول :هي لحظة التكشف الصوفي التي لا تعرف إلا عند الاتحاد أو الانغماس في مدلولات الشيء .
وهذا يحيلنا إلى العصر الحديث ومفهوم المتلقي والى أي قسم ينقسم، إنها دعوة للاتحاد للوصول إلى جذوة المتعة بعد الإبحار في الفكر المراد طرحه يقول :
الفريد جاري:انك عندما تقص قصة مفهومة فانك تلقي عبئا على المتلقي وتفقده ذاكرته،ولكنك عندما تقص قصة لا تخضع لقواعد المنطق المألوف فانك تعطي العقل فرصة التفكير الخلاق.
نستشف من قول جاري بأنه ومسرحه والذين جاءوا بعده يخاطبون العقل لأنه هو الذي يمكن أن نعول عليه في تحريك الساكن والراكد في هذا القرن وعدم مخاطبة العاطفة فقط والمتكرر من القيم البالية،لهذا سيدفعنا هذا التصور إلى الانفتاح على الثقافات الأخرى.

وقد اخرج قليلا عن ورقتي وأحب إذ استوطن في هذه النقطة وهي الانفتاح على الآخر وضرورة مناقشتها هنا وخاصة في هذا المهرجان الدولي الذي بدا انفتاحه منذ الدورة الأولى إلا أني أتمنى أن يكون انفتاحا واعيا.يمكننا من إيصال منجزنا إلى الآخر الذي يجلس بيننا الآن وهو يتعطش لمعرفتنا ولكننا لا نوفر له وسائل المعرفة.
 
ولأنني أعيش منذ سنين في أوربا وبالتحديد في هولندا عرفت عن قرب أناس أرادوا أن يعرفوا عني وعن ثقافة وحضارة الأرض التي انتمي ولكني لا املك وسائل الإيضاح ومن هذا المنبر اقترح على هذا المهرجان أن يقوم بترجمة النصوص العربية إلى اللغة الانكليزية مثلما أصدرت مصر سلسلة المسرح العالمي، وأنا على يقين بان لدينا  كتاب عرب مسرحيين هم على قدر كبير من الإبداع والتجريب ولا يعرفهم إلا نحن العرب فقط،وقد اطلعت هذه الأيام بعد وفاة المبدع الكبير محفوظ بان كتبه إذا طبعت في الوطن العربي فإنها تطبع إلفين أو ثلاث وإذا طبع الكتاب نفسه في أوربا يطبع خمسين ألف،أقول لكم القارئ الأوربي يتمنى معرفتنا إذا ساعدناه.
نعود إلى محور بحثنا ونقول أن التجريب مرتبط بالخبرة،فلا يمكنك أن تكون مجربا أن لم تتمتع بالخبرة الكافية التي تمكنك من الهدم والبناء هكذا فعل بريخت يوم طالب أن يكون المسرح تعلمي فقط خاليا من المتعة التي اعتبرها ترفا بسبب تأثره بالفكر الشيوعي ولكن يوم زادت خبرته ونضج مفهومه الجمالي لما يحيط به عاد وجرب على الجمال واعتبر المتعة هي الأساس بل هي العقد الذي يربطنا مع المتلقي.وكيف نصل إلى هذه النتائج أن لم نديم المعملية والكشف والتجريب على النص والممثل والسينوغرافيا وكيف تتشكل المعاني إذا تواءمت التصاقات الجسد والفضاء وهل يحيلنا بالفعل إلى الفضائيين المفترضين على المسرح وداخل الممثل الشخصية التي تصل في نهاية الأمر إلينا كمتلقين،بهذا يمكننا القول أن المعملية دافع هام في إثراء التجريب وإكسابه القدرة على رسم خارطة الأشياء بعد العديد من التجارب التي يستقر على منظور العقل في نهاية الأمر.
ولان محورنا ومهرجاننا مسرحي، لذا نقول بات التجريب مرهونا بالعرض المسرحي أكثر من كونه تجريبا نصيا، أو يعمل أحدا بمعزل عن الآخر، وإذا أردنا لحديثنا أن يكون أكثر فائدة وعمومية، فعلينا أن نتحدث عن العرض المسرحي باعتباره منجز حضاري لا يمكن الاستغناء عنه، وساحة واسعة للبوح والتجريب، فما أن يكتب المؤلف كلماته الأولى واصفا منظره المسرحي يشاهد هو قبل غيره ذلك العرض المفترض ليعزز إمكانية التجريب على لسان أبطاله دافعا فيهم الأنفاس والرغبة بالتغير،ولان التقنيات الحديثة في جميع علوم الحياة باتت في تقدم سريع صار العرض المسرحي هو الآخر يعزز بين يوم وآخر تقنياته بغية ملاحقة عصر لا ينتظر أحدا .
كيف يمكننا أن نعرف أن هذا تجريبا أو عدمه، وفي تصوري انه لأمر صعب الفرز أو القول اشتغل هذا المجدد أو لم يشتغل إلا إذا طبقنا بعض النظم التي افترضناها،للتجريب بل أكون خاطا أن قلت منهج التجريب،لأنه ليس منهجا ولا مفهوما بل هو حداثة آنية مرهونة بنوع الحدث وأصحابه وزمانه ومكانه وكل تجريب يحمل صفته الخاصة،لهذا يصعب إيجاد تعريفا وافيا له إلا أننا قد نتفق أو نختلف على بعض الصفات، التي يجب أن يتحلى بها التجريب والمجرب.
أن يكون مخالفا للمألوف،والمألوف هنا بمعناه السكون والتكرار والرتابة التي تحيلنا إلى الموت في كافة أشكاله،ويوم يصل التجريب إلى إدهاش المتفرج وصعقه وهز مقعده وفكرة واستفزاز قاموسه اللغوي والبصري، يكون قد حقق بعض من مراميه.
قد يعتقد الكثير بان التجريب لعبة المثقفين فقط، وليست هناك أية علاقة للجمهور بهذا المعترك، فما علاقتهم إذا سقطت الدادائية وبزغ نجم السريالية، وما الذي يكسبونه إذا كسر بريخت الجدار الرابع أو رسم عليه ورودا أو أسلاكا شائكة.
هذا هو الصراع المراد الوصول إليه،لا اعني أن يكون المسرح وبالتالي التجريب جماهيريا بل أن يحتدم العقل وزمانه وان يكتشف أن لم اقل يخلق وان يصعب إيراد هذه الكلمة أي الخلق إلا أن واجب التجريب خلق المنظومة التي تأهل العصر بالسير بيسر،هكذا كان المسرح الإغريقي يوم بنا له أبجديات جديدة وهكذا عزم العرب على البحث والتجريب لخلق كينونتهم المفترضة كالشعوب الأخرى ، وما مهرجان القاهرة التجريبي إلا صورة دالة على هذا البحث والتجريب ومكاشفة الآخر ومحاولة معرفته والمكان الذي هو يسكن وبالتالي نعرف مقاعدنا في هذا الكون الفسيح.



 
  قاسم مطرود /إنجلترا (2010-02-04)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

التجريب إضافة ومعول ضد التابوات-قاسم مطرود /إنجلترا

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia