عن كتاب " الباب المغلق " لأحمد الخميسي فتح الأبواب المغلقة-نبيل زكي /مصر
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

عن كتاب " الباب المغلق " لأحمد الخميسي
فتح الأبواب المغلقة

رغم انني قرأت رواية‮ "‬خالتي صفية والدير"‬ للكاتب والأديب الكبير‮«‬بهاء طاهر»‮ ‬فور صدورها‮.. ‬إلا انني شعرت برغبة في التعرف علي انطباع أديب مبدع آخر هو‮ «‬أحمد الخميسي»‮ ‬بالنسبة لنفس هذه الرواية‮.‬
يقول أحمد الخميسي ان هذه الرواية تشغل مكانة خاصة للغاية مستمدة من القدرة الأدبية التي لا نظير لها،‮ ‬ومن الضمير المرهف للروائي بهاء طاهر‮. ‬وقد خرجت الرواية إلي النور عام ‮١٩٩١‬،‮ ‬وكانت ـ من زاوية ما ـ رد فعل علي أحداث العنف التي تلاحقت ما بين سنة ‮٠٨٩١ ‬ـ ‮٠٩٩١ ‬في جنوب مصر‮.. ‬وقد سعي كاتب الرواية‮.. ‬ونجح في ان يشعر القارئ عبر صفحات الرواية كلها بأن حياة المصريين واحدة،‮ ‬سواء أكانت في بيت مسيحي أم مسلم،‮ ‬وان اختلاف الدين لا يجعلنا مختلفين إلي درجة الصراع،‮ ‬لأن ما يجمعنا في الحياة أكثر بكثير وأقوي‮. ‬وحتي عندما يصف الكاتب‮ »‬الجلايات‮« ‬التي‮  ‬يعيش فيها الرهبان داخل الأديرة،‮ ‬فإنه يصفها بحيث تبدو قريبة للبيوت داخل القرية‮.‬
وتدور أحداث الرواية في قرية صغيرة في صعيد مصر تقع بالقرب من أحد الأديرة القبطية ويصف لنا الروائي الكبير في الفصل الأول وعنوانه‮ »‬المقدس بشاي‮« ‬حياة القرية والصلات الطيبة التي تربط ما بين أهلها،‮ ‬ويتذكر كيف كان ينتظر قدوم العيد ليحمل،‮ ‬وهو صبي صغير،‮ ‬الكعك إلي الدير،‮ ‬وكيف كان يلتقي هناك بالمقدس بشاي الذي يترك في نفس الصبي أثرا لا يمحي بمودته وطيبته‮.‬
أما عن صفية،‮ ‬الشخصية الرئيسية،‮ ‬فإنها ليست خالة الراوي في الواقع،‮ ‬لكنها بنت خال أمه،‮ ‬إلا انه اعتاد أن يناديها بقوله‮ »‬خالتي صفية‮«.‬
يطرح بهاء طاهر منذ البداية وحدة تاريخ مصر،‮ ‬ثم يطرح صفية والدير،‮ ‬كحقيقتين لابد ان تتعايشا في وئام وحب‮.‬
صفية تحب حربي ـ قريبها ـ وتقول عنه انه‮ »‬مثل فلق القمر‮«‬،‮ ‬وحربي‮  ‬يعشقها‮. ‬والقرية كلها تعلم ان صفية لحربي،‮ ‬وحربي لصفية‮. ‬إلا ان‮ »‬البك‮« ‬صاحب القصر يطلب صفية زوجة له‮. ‬ولا يمكن رد طلبه‮. ‬هكذا تنصاع صفية وتتزوج‮ »‬البك‮«‬،‮ ‬وتنجب له ابنه حسان‮. ‬وتتحرك الوشاية لتلعب دورها حين يسمع‮ »‬البك‮« ‬بأن حربي يخطط لقتل حسان انتقاما منه‮. ‬وتتعقد الأحداث بحيث يجد حربي نفسه مرغما علي قتل البك بالفعل،‮ ‬ومن ثم يتم سجنه‮. ‬أما صفية التي كانت تعشق حربي فإن الكراهية تشعل قلبها كله الآن،‮ ‬ولم يعد يشغلها سوي ترقب خروج حربي من السجن لتقتله هي أو يقتله ابنها حسان‮. ‬وعندما يخرج حربي من السجن لا يجد ملاذا سوي في الدير‮.‬
وهنا يصبح الدير علي خط الاشتباك بين صفية وحربي،‮ ‬ويقول أحدهم لصفية‮: »‬ان خرج من الدير قتلناه،‮ ‬ولكننا لا نستطيع ان نقتله في الدير‮.. ‬حرام‮« ‬ويكرر فارس،‮ ‬زعيم المطاريد،‮ ‬المعني ذاته قائلا للقروي‮ »‬حنين‮« ‬باستنكار‮: »‬تريدني ان اعتدي علي الرهبان الذين أوصي عليهم ربنا سبحانه وتعالي في القرآن«؟
هنا يلاحظ كاتب هذه السطور ان العبارة الأخيرة جاءت علي لسان زعيم المطاريد،‮ ‬أي أحد محترفي ارتكاب الجرائم‮.‬
ويقول أحمد الخميسي ان الرواية تنفي جذور الطائفية‮.. ‬بالتأكيد علي المحبة التي تجمع أهل القرية،‮ ‬وبأن الدير كان‮ ‬يمثل ـ فيما يمثل ـ حماية لحربي المسلم،‮ ‬وفي ذلك المجال تحديدا نجح‮  ‬هذا العمل الأدبي في نقل رسالة حب تبدد أجواء الظلام القاتم‮.‬
كل منهم‮.. ‬وحيد
الأحد‮:‬
في الكتاب الذي نشره أحمد الخميسي بعنوان‮ »‬الباب المغلق بين الأقباط والمسلمين في مصر‮« ‬عام ‮٧٠٠٢ ‬يروي حكاية باب شقة صغيرة في الطابق الأول بعمارة في حي الظاهر،‮ ‬يسكنها الأستاذ موريس المحاسب في أحد البنوك وزوجته مدام جانيت التي تعمل في مدرسة‮  ‬تعليم لغات أجنبية قرب المنزل‮. ‬الاثنان تجاوزا سن الانجاب دون ان ينجبا،‮ ‬لكنهما قانعان بحياتهما التي تمضي في هدوء‮. ‬وفي العمارة،‮  ‬يوجد محمود البواب،‮ ‬الذي جاء منذ زمن وسكن أسفل السلالم وتوفيت زوجته وتركت له ابنة وحيدة صغيرة هي‮ »‬هدي‮« ‬التي تشتري للسكان ـ وخاصة لمدام جانيت ـ الحاجيات من المحلات الواقعة أمام العمارة‮.‬
موريس وجانيت ـ المحرومان من الأولاد ـ أحسا بعطف علي البنت الصغيرة‮. ‬وكان يحدث أحيانا،‮ ‬في أوقات المغرب،‮ ‬ان تأتي بالشاي أو الخبز للأستاذ موريس،‮ ‬وتدعوها مدام جانيت للجلوس‮: »‬اقعدي ياهدي استريحي وأنت طالعة نازلة طول النهار‮«.‬
تجلس هدي علي حافة المقعد،‮ ‬وتحملق في شاشة التليفزيون إلي ان يناديها والدها لأن أحد سكان الطابق الثالث أو الرابع يطلب شيئا من محل بقالة،‮ ‬وتهرول هدي لتلبية الطلب‮. ‬وعندما تخرج البنت‮  ‬يحل شعور خفيف قاتم في الصالة،‮ ‬وتبدو الحياة موحشة‮.‬
يموت محمود،‮ ‬والد هدي،‮ ‬علي فرشته تحت السلم،‮ ‬ويكتشف سكان العمارة انهم لا يعرفون له بلدة أو أقارب أو عناوين‮. ‬ويتولي أحد السكان جمع التبرعات من الشقق ويشترك مع الأستاذ موريس في انهاء الاجراءات ودفن الرجل‮. ‬وأصبحت إقامة هدي عند الأستاذ وزوجته أمرا مسلما به‮. ‬واشترت جانيت فستانا وحذاء جديدين للبنت،‮ ‬وأخذت تفكر في وضع سرير لها في الغرفة الصغيرة‮.‬
لا أحد يعرف من الذي تفوه بكلمة أو ملاحظة عابرة أو سؤال،‮ ‬لكن الكلام راح ينتقل شيئا فشيئا من محل المكوجي إلي البقال،‮ ‬ومن صاحب البقالة إلي دكان العصير ثم إلي المقهي‮.. ‬ومن رواد المهقي إلي الشقق والبيوت‮: »‬الأستاذ موريس أخد البنت الصغيرة وح يخليها نصرانية ويعلمها علي طريقتهم‮«.‬
وبدأت الغمزات والتلميحات من جانب الصيدلي وصاحب المخبز ومحل البقالة في صيغة أسئلة تبدو بريئة في الظاهر‮.‬
أدرك موريس المقصود بالكلام وشعر بارتباك‮. ‬صحيح انه رجل متقدم في السن ومعروف انه طيب وعلي خلق،‮ ‬ولكن ليست هذه هي المشكلة‮.. ‬بل توجد هناك قضية أخري‮!‬
روي موريس الحكاية لزميل مقرب إليه،‮ ‬فنصحه علي الفور بأن يطرد البنت لكي لا يتسبب بقاؤها عنده في مشكلة في الشارع والحي،‮ ‬أبعد من ذلك النطاق‮!‬
واحتج موريس بأن البنت مستريحة وتحب هذه الأسرة الصغيرة،‮ ‬ورد عليه زميله بقوله‮: »‬سيبك من حكاية مستريحة،‮ ‬مش ده الموضوع‮.. ‬العملية أكبر من كده ياموريس‮«.‬
يسأل موريس نفسه‮: ‬كيف يطرد طفلة صغيرة بلا أهل ولا سند ويلقي بها إلي الشارع؟
ويوما بعد يوم،‮ ‬شعر بأن العيون تلاحقه وتترقب قراره‮.‬
وتحولت الأسئلة إلي عبارات مباشرة‮.‬
واتخذ قراره،‮ ‬وطلب من البنت مغادرة الشقة‮.‬
انفجرت هدي في البكاء وسألت‮ »‬أروح فين ياعم موريس؟ أنا ما اعرفش حد‮ ‬غيركم‮«. ‬واستنجدت البنت بمدام جانيت،‮ ‬التي‮  ‬قمعت كل مشاعرها وأصبح وجهها متصلبا‮. ‬قالت هدي انها لن تغادر المكان،‮ ‬واتجهت إلي الصالة لتراجع ما علمته اياها مدام جانيت من حروف الكتابة‮. ‬واضطر موريس ان يجذبها من ذراعها بقوة ويضعها خارج باب الشقة‮.‬
البنت ملتصقة بالباب‮.. ‬تخمشه كالقطة وتبكي‮: »‬أنا زعلتك في حاجة ياعم موريس‮.. ‬والنبي دخلني‮.. ‬والنبي‮«.‬
انهمرت دموع موريس وجانيت وراء الباب المغلق،‮ ‬لكن الباب ظل مغلقا‮. ‬وخلف كل ناحية‮.. ‬شخص وحيد بحاجة للآخر‮.‬
يقول أحمد الخميسي ان كل ما أراده من قصته ان يدفع مع الآخرين الباب المغلق،‮ ‬ولو دفعة صغيرة،‮.. ‬متشبثا بالأمل في ان ينفتح في الضمائر والنفوس‮.‬
ما أشد الاختلاف بين زمن‮ »‬خالتي صفية والدير‮« ‬وبين زمن‮  »‬الباب المغلق‮«! ‬ولكن أحمد الخميسي علي حق‮.. ‬فإن الباب لن يبقي مغلقا‮.. ‬لأن فتحه من ضرورات الحياة والبقاء،‮ ‬خاصة اذا شارك الجميع في فتحه‮.. ‬لكي تذهب بعيدا السموم المكتومة ويدخل الهواء النقي وضوء الشمس‮.‬



 
  نبيل زكي /مصر (2010-02-14)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

عن كتاب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia