واقعية الواقع في "كتيبة الخراب" (*) مساءلة للشخصيات والأحداث-رشيد ايت عبد الرحمان / المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

واقعية الواقع في "كتيبة الخراب" (*)
مساءلة للشخصيات والأحداث

دخـــول:
تحكي رواية "كتيبة الخراب" للروائي المغربي عبد الكريم جويطي، أحداثا لا يتجاوز زمن حدوثها ثلاثة أشهر، مع بعض الارتدادات إلى زمن ولى (التأريخ للمكان والأشخاص)، في شبه مونوغرافيا الخراب، ونبش في الذاكرة.
تتأسس الرواية على بطولة بشرية فردية وبطولة جماعية، ثم على بطولة يجسدها المكان (المدينة)، باعتباره محورا تدور في فلكه أحداث كبرى تتفرع عنها صغرى كالنيازك، لا تفتأ تنطفئ بداخله.
فهي إذا، رواية واقعية، يحكيها راو لعب أغلب أطوارها، ونسج بقية خيوط فصولها التي لم تعرف مشاركته المباشرة..
يبدو المكان حقيقيا، وبعض الأحداث أيضا يبدو حقيقيا، نجح الكاتب في تشكيلها مجتمعة وتحريك الشخوص في عالم من صنع خياله الثـري.
I    - بطولة المكان:

يلعب المكان بطولته من حيث كونه محتفى به (من قبل السارد)، احتفالا كبيرا يبلغ درجة التقديس أحيانا.. لكنه سرعان ما يهوي به، احتقارا، في غياهب الإسفاف والسفالة، مغرقا إياه في الوحل، ليصفه بـ "مدينة أشد بؤسا من ضفدعة جف غديرها" (ص19) .
كما تلعب هذه المدينة دورها من حيث كونها مسرحا لأحداث الرواية. وقد ارتكز الراوي على عنصرين:  الشجيرة، والعقد، يربطهما بخيط رفيع على رقعة المكان، إذ يعتبران دينامو الحكي، كلما خبا، التجأ الكاتب إلى أحدهما، فحرك الأحداث بدينامية أشد.
1- الشجيرة:

تفتتح الرواية بنداء "الشاوش بوعزة" ل"موظف أشعث" يردد فيه: "مصيبة من الدانمارك".
بينما ينظر البطل (الموظف الأشعث) إلى السائحة الدانماركية، أنها مخلصة وفية لوصية زوجها الراحل "روبي"، وفية للمكان الذي شهد أولى لقاءاتهما، ينعتها  الشاوش بوعزة  بمصيبة من الدانمارك،  من خلال ما تلقنه من رئيس المؤسسة، أو مما استخلصه من صيغة طلب استدعاء الموظف..
مصيبة/ وفية تأتي، إلى بلد نام، بشجيرة نامية لتنفيذ وصية، مرفقة بظرف يحمل قولة فلسفية بالإنجليزية إلى رئيس المؤسسة  الذي تحيط به ثلة (جوقة)، لم يستطع أي منهم مقابلة السائحة، ليلوذ الرئيس بموظف مقهور ملفوف في معطف وهموم، كي ينوب عنه في فك لغز هذه الوافدة التي تخلصت منها سلطة الوصاية..
إذا كانت السائحة مزدوجة الشخصية (حسب كل من الشاوش والموظف)، فإن الحديث عن الشجيرة يقتضي أيضا إثارة رمزيتيها، الظاهرة، والخفية:
أ- الرمزية الظاهرة للشجيرة:

تبدو الشجيرة، وهي من نوع فيكيس في أصّها البلاستيكي الأسود (ص15)، بريئة غضة تحتاج إلى رعاية وعناية فائقة.. حاول الموظف استجداء الشفقة عليها.. لتبدو مثل طفلة يتيمة اجتثت من حضن أبويها، واستوجب معها هذا الوضع حضنا خيريا، لم تجده في المؤسسات العمومية، لأسباب ذكرها السارد في الفصول الأولى من الرواية (تفاهة الهدية، لو كانت دولارا...)، ليترشح هو "كمجتمع مدني" لاحتضان هذه المسكينة..
إذا فالشجيرة تبحث لها عن مكان في (المكان البطل)، المكان الزاخر بالأشجار بتنويعاتها الكثيرة، وهي تخفي رمزية أخرى.
ب- الرمزية الخفية للشجيرة:

رغم الهالة التي سلطها السارد على الشجيرة، توحي، بوريقاتها الثلاث، بلعبة الورق في السوق الأسبوعي. وإن كانت الورقة المبحوث عنها مميزة بطية صغيرة، لا تدع مجالا للشك في كشفها، فلا أحد يتمكن من معرفتها... وكذلك شأن الشجيرة العابرة للأجواء والبحار، تتساقط أوراقها ورقة ورقة، وتبقى اللعبة مستمرة.. مبهمة، يوحي بذلك ترك البطل الشجيرة بين الحياة والموت..
شجيرة عقيم تأتي للقضاء (للتضييق) على الشجر المثمر الرمز الأزلي: الزيتون، البرتقال، الرمان، والحلول محله، لتفقد الفضاء (المكان) مقوماته ورمزية الأشياء. فكما جاء المستعمر الفرنسي بشجر الصفصاف (العقيم والآوي للناموس)، تأتي الدانماركية بشجرة شبيهة، وكأنه تواطؤ مع (أولئك الذين لا يدخرون جهدا مثل الطوفان والجراد والجفاف في التهام الأشجار)، إلى مدينة (يشكو فيها نافذو الصبر من أصحاب الجنان والمقاولين عجز العلم عن ابتكار وسيلة فعالة لقتل الأشجار قتلا سريعا وسريا؟) (ص17). فإذا كانت الأشجار تُزال بشتى الوسائل، دون مراعاة لقيمتها.. فكيف يفعل بشجرة قوبلت بالاحتقار منذ دخولها المشهد؟
ولحسن حظ المكان (المدينة) ظلت الشجيرة حبيسة الجدران، حبيسة الاسمنت.. تطل من حين لآخر في فصول الرواية تُحتضر.. ورغم تقدير الموظف لهذا، والرؤية الإيجابية التي تلقى بها هذا الوافد الصغير، فإنه بعجزه، لم ينجح في منحها حضنا تحيى فيه الحياة الطبيعية، وإن بدا بعد مرور ثلاثة أشهر قد نجح في تزويجها زواجا "قيصريا".. (ص183).
رغم أن كل الظروف البيئية المحيطة ملائمة (التربة، الماء، الهواء...) لغرس شجيرة (إذا ما سلمنا ببراءتها)..  فإن ضعف البطل البشري، وعجزه عن الحفاظ على الشجر الأصلي.. يجرنا للحكم بفشله في إعطاء الشجيرة حضنا تنمو فيه..
إذا كانت الشجيرة المحرك الأول للبطل، ومزودا للأحداث بالطاقة، فإن العَقد لم يكتف بتحريك الأحداث، في وقتها الراهن، بل تعداه إلى النبش في ذاكرة البطل وسلفه بحثا عن جذور العقد وماهيته وقيمته.
2- العَقد:

لقد أدى التناحر بين القبائل المشكلة لفضاء بني ملال، في الزمن القديم، إلى تدخل عدة جهات لفض النزاعات والتقتيل الذي كان نتيجة للرغبة في الاستئثار بماء عين أسردون. وكان تحرير العقد وثيقة للتصالح بين القبائل، وخريطة طريق أسفرت عن "قيال" يقوم بمهام رعاية توزيع الماء بالعدل، وحسب الحصص المتفق عليها. جاء العقد ليخلص المدينة من الاندثار بسبب الحروب، فتم تحريره بحضور الوجهاء والسلطات:
-    لتقسيم الماء.
-    لتشريف صالح بن حدو (أحد أجداد البطل) بالاحتفاظ به والقيام بمهمة القيال...
 فكان العقد بذلك باعثا على إغناء الأحداث وتحريكها.. بل لإخراجها من الزمن الحاضر والارتداد عقودا إلى الزمن الماضي، بحثا عن مصدر العقد وأصله. ليتأكد أنه توورث أبا عن جد:
والد الموظف الشعث محمد – ابن بوزكري – ابن صالح بن حدو (الذي كان تحرير العقد في زمنه).
كان الرابط/الفاصل بين العقد والشجيرة: أن العقد جاء لحفظ الماء (ماء عين أسردون)، والحفاظ على الحياة واستمرارها في مدينة بني ملال، والشجيرة قدمت في زمن العطش واستئثار الاسمنت المسلح على الماء والخضرة...
إذا فالمكان، يلعب بطولته قائما بأدوار:
- كونه محتفى به.
- كونه يحتضن الأحداث والشخوص.
- كونه رافضا لاحتضان وافد جديد. وهو بذلك يبدو كأنما يفضل الموت جدبا على احتضان وافد.
فالمكان هو ذلك الحاضر الحقيقي في الذات الكاتبة، والمحفز لتحريك الأحداث، باعتباره المستفز للإرادة والفعل أو رد الفعل عند باقي الشخصيات:
- إما إيجابيا، بالإحسان إليه وتقديم أو بالحلم والسعي لتحقيق هذا المبتغى..
- أو سلبيا بالإساءة إليه عمدا بغية تحقيق أهداف ضيقة شخصية (في الغالب)، أو عن غير قصد بالجهل أو التقاعس..
 
II    - البطولة البشرية:

جاءت الشخصيات مقسمة، وهي تفعل فعلها، إلى قسمين: الفاعلة بمفرها والفاعلة جماعة ممثلة لمختلف المؤسسات.
1- الشخصية الرئيسية:

لقد اختار الكاتب، لأداء دور السارد، شخصية "موظف بئيس" (ص19).. لم يحدد إطاره، بل جعله، بدهاء لافت، يقدم نفسه أنه مثقف من طينة الفلاسفة. ينظر إلى العالم من حوله وأسفل منه من صيصه المتعالي. ينتقد كل شيء، وكل شخص، وكل فعل أو حدث، دون أن يقدم بديلا. وبذلك يخرج الكاتب (أو يكاد) من اللعبة، ليترك بطله يلقى مصيره مع هذه المساءلة التي سأحاول، جهد الإمكان، وسمها بالموضوعية.
يتبين أن هذا الموظف ولج الإدارة في أوائل التسعينات (1991-1992)، في إطار حملة توظيف الشباب. قضى، إلى تاريخ كتابة الرواية (2002-2003 تقريبا)، حوالي اثنتي عشرة سنة في "مؤسسة بئيسة" (ص 19).
موظف ينتهي به المطاف في المطرح البلدي (ص218). وهو إجراء إداري، اعتبره إهانة (مع أن هذا الميدان استثمر قبيل صدور الرواية بقليل ويستنزف أموالا طائلة في إطار التدبير المفوض)..
ينتهي، كما شاء أن يقدم نفسه للقارئ، ضحية للإدارة.. يحسب محيطه أفقيا وعموديا ينبذه، أو هكذا يجر القارئ ليتعاطف معه، دون أن يقدم سببا مقنعا لهذا النفور (التنافر)..
شخصية ضحية جبن ارتداه، وإن لم يقر بجبنه: "هل كنت ضحية جبن صغير؟ لا أعتقد ذلك" (ص20)، ولم ينسلخ منه إلا في آخر الرواية وهو ثمل.
يرتدي البطل رداء المظلوم المقهور، الموظف المهمل "classé". وقد حاول جاهدا دفع القارئ للسخط معه على وسطه.  ظل طيلة فصول الرواية يتقن خطاب الضحية (ضحية الأشخاص والفضاء والأشياء..) بكّاء على أطلال خربة تفنن بتقاعسه في تشكيل بعض تضاريسها..
ومن أجل تبين حقيقة كون البطل ضحية أو فاعلا سلبيا، لا مدعى عن السؤال عن إحقاقات هذا الموظف وإخفاقاته، في الرواية، من خلال مختلف علاقاته، ومن خلال ارتباطه بالمكان.
أ- إخفاقات البطل:

آثرت تقديم إخفاقات البطل، لكونها المهيمنة على سلوكه اليومي، وفي ارتباطه بمحيطه أفقيا وعموديا. فجاء الفشل متعددا، والتشظي سيد قراراته التي لم تخل من مسحة جنون وتهور أحيانا.
-    الفشل في العمل:
رغم طول المدة التي قضاها داخل المؤسسة، والمؤهلات التي صرح بتوفره عليها، لم يستطع البطل إيجاد موطئ قدم ، إن مع الطرف الرئيس أو المرؤوس (الزملاء)، ليصف وجوده داخل المؤسسة بالنشاز(ص 10).
لم يتوصل إلى تسوية وضعيته الإدارية، بل ظل يتظاهر بتنزيه نفسه عن هذا الحق (ص20)، ليتفادى بذلك الاشتباك مع المنافسين. كما ظل يشتكي غربته عمن سبقوه، ولم يقو على التحالف (الاندماج)، ولم يقدم على خطوة للتأثير فيهم، للتغيير بالإقناع أو حتى المواجهة.
لم يتمكن من كسب رضى زملائه، فدخل في صراع إيديولوجي عقيم مع "عبد الصمد الوقوري" الذي ظل طيفه يلاحقه، وإن ظل هذا الصراع مقنعا بزميله الحلبي. الحلبي الذي استطاع أن يواجه الوقوري الذي يقابله بنعته بالزنديق.
لم يكسب احترام رؤسائه المباشرين، فجاءت نظرة الازدراء التي واجهه بها رئيسه في بداية الرواية، ثم الانتقام في آخر المطاف، لسوء تصرف الموظف (من وجهة نظر الرئيس). وكان الأجدر به أن لا يتعدى حدود اختصاصاته المحددة في تحرير محضر الاجتماع، وعدم التعقيب على سلوك الرئيس، الذي قد يكون من اختصاص أطراف أخرى..(ص216).
رغم انتقاده للموظفين الأشباح، فقد ثبت (أثبت) أنه شبح صغير، متفنن في صنوف مغادرة مقر العمل: إما لتزجية الوقت في المقهى، أو القيام بجولات فارغة، أو لقضاء مآرب الشخصية (ص31) و (ص43).
يقضي معظم وقته الإداري في القراءة. وهو بذلك لا يختلف عن شخصية "الوقور" الذي يمضي وقته الإداري في التسبيح. وهما سلوكان يمثلان وجهين لعملة واحدة.
لم يسع لتوظيف مدخره المعرفي والمعلوماتي المكتسب من القراءة في إفادة "المؤسسة" في شيء.
-    عدم تناسق المظهر الخارجي (الهندام):
كان عدم لياقة الهندام مدعاة لأول إهانة يتلقاها الموظف من رئيسه المباشر(ص10). ومهما قدم من مبررات فإن ذلك لن يشفع له، لكون الهندام ضرورة، ليس إدارية فحسب، بل هي ضرورة يومية، خاصة وأن الباعث على الازدراء لم يكن نتيجة كون الملابس بالية، وإنما لكونها رثة وغير متناسقة، ولكون الشعر منفوشا (أشعث) لم يكلف نفسه عناء تسريحه، ليعطي الانطباع بكونه شخصية مهملة.
قد تُوهم بكونه يتخذ المظهر وسيلة للاحتجاج.  وإن سلمنا بهذا الأمر، فما الدافع لتخليه عن مبادئه وقناعاته أمام رئيسه المباشر الذي أهانه بطلب مشط إحدى زميلاته وطلب تغيير معطفه الرث بسترة أحد الأعضاء(ص10)؟؟.
-    الفشل في العلاقات الإنسانية:
يتجلى هذا الفشل في سوء اختيار الأصدقاء. وإن كانت الشخصية تدّعي التعالي عن العوالم السفلى وتنتقدها، فإن علاقاته كانت من هذه العوالم. فصديقه الوحيد " الحلبي" وهو صديق يسدي النصيحة من موقع المنصهر في بوتقة المعيش اليومي. أما باقي علاقاته فكانت من العاهرات ورواد الحانات. فلم يورد ولو علاقة واحدة مشرفة. وكان هذا باعثا للحديث عن فشل أخلاقي.
-    الفشل الأخلاقي:
ويعكس هذا الفشلَ عجزُه، رغم تقدمه في السن، عن تكوين أسرة، وقضاؤه بتبجح أغلب لياليه في أحضان "العاهرات" (ص65)، وارتياده للحانات والخمارات وتنويعه في الوجهات: حانة الطاحونة القديمة وحانة اللقلاق (ص62) و(ص167).
بل حتى قضاء حاجته الطبيعية (التبول) تكون بهيئة فئة "الشماكرية"، وأفكاره تعرض شبيهة بأفكارهم، كلما أقدم على قضاء هذه الحاجة وهو في حالة سكر(ص167).
فأثبت بذلك كونه شخصية عديمة القيم... وربما هو السبب (الباطن) الذي لم يفصح عنه طيلة أحداث الرواية، وكان (ربما) سبب عدم إقدامه على ربط علاقات مع إدارات أخرى..
-    الفشل في العلاقات مع باقي الإدارات:
يتمثل هذا الفشل في كون البطل لم يتوصل، رغم كونه "ولد البلاد"، إلى ربط علاقات مع مؤسسات أخرى: الولاية، الشرطة، العدل... بل اختار الهامش والترفع عن مثل هذه العلاقات، فدفع والده، بذلك، الثمن غاليا..
-    الفشل في  إنقاذ الوالد من غياهب السجن:
ظل الأب رمزا للصمود والقتالية (الفنتازية) Fantaisie ، سواء من حيث مظهره، أو من خلال إقدامه وطرقه كل الأبواب للحفاظ على استمرار حياة (المكان) المدينة وبها.. مستمسكا بكل خيط يرى فيه أملا في استرجاع الماء.. وحتى آخر رمق في أحدث أنواع النضال المستحدثة (الاعتصام)، الذي انتقده الولد، واعتبره "شوهة".. وبقي فاعلا في الأحداث بل استطاع أن يجمع حوله ثلة من الغيورين ومن الشامتين والفضوليين عند مفترق الماء (ص215).
لم  يكلف الموظف نفسه بانتداب محام، ولا باستئناف الحكم الصادر في حق والده؛ بل بقي يرقب حكم القاضي الذي كان واضحا ومنتظرا منذ اتهام الوالد، فظل مكتوف الأيدي حتى صدور العفو(ص188).
وبهذا تنضاف إلى تشكيلات ملامح شخصيته لمسة أخرى، لتجرنا للحديث عن مقومات المروءة عند البطل.
-    فقدان مقومات الرجولة:
وإن بدا متقربا من والده فإنه لم يكتسب منه شيئا.
لقد حاول بمكره استدراج الطالبة الجامعية نادية (ليلى) العميري، واستغلال حاجتها لعلمه، دون أن يفيدها بشيء، ودون أن تمكنه، رغم حداثة سنها، من نيل مراده. فظل عقله الثعلبي يحدثه بالإيقاع بها، واستعراض عضلاته (المعرفية) المكتسبة دون أن يضيف إليها شيئا لإنجاز بحثها حول شخصية الأعشى.
وإن كان الأمر مدعاة للخجل ووصفه بانعدام مقومات الرجولة، فلا بد من ذكر فشل البطل في الاستئثار بامرأة تعلق قلبه بها، (سلوى الصويرية متعددة الأسماء)، وظل معلقا بها رغم إيثارها لغيره عليه. نكرة انتزعها من بين يديه دون أن يبدي أي مقاومة، ليتكوم في ركنه يتمنى لو يلقي بها ليلتقطها هو (مثلما يلتقط عقب سيجارة)، دون أن يحس بأي إحراج..(ص135).
وإذا فشل هذا الفشل الذريع، فلا أرى داعيا، إلا داعي إتمام القراءة، للبحث عن أمانة هذا البطل.
-    تضييع الأمانة:
لا تكتسب الأمانة هنا أهميتها من قيمتها المادية، بل من قيمتها الرمزية، فنجد من الأمانات المضيعة:
•    تضييع العقد الذي كان محفوظا منذ عقود. ما أن تسلمه حتى ضيعه، دون أن يدري أين ولا متى، ليبدد بذلك كل أمل في استمرار صمود والده، واسترجاع حقوقه وحقوق المدينة التي كان يحفظها العقد (على الأقل من وجهة نظر الأب)(ص173).
•    تبديد مدخرات الأب المالية، في تحقيق حلم محكوم عليه بالفشل.. بل يعكس السعي وراءه ليس جنون ميمون الحلاق بل بلادة الموظف الذي امتدت يده رغم معرفته المسبقة بصور التحايل الكثيرة، إلى صندوق الوالد في استخفاف وانعدام تقدير للمسؤولية،  وتسليم مبلغ مدخر لا يستهان به لـ"حراك" محتال مجهول الهوية دون التحري عنه (ص150).
•    القرآن الكريم لم يسلم .. وكأنه بذلك يقول بأن حياته عبثية ولا شيء فيها يستحق أن يحتفظ به..
((أما عاد فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية)) (ص74) : {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية}الحاقة ي6.
((إن بطش ربك شديد)) (ص74): {إن بطش ربك لشديد}البروج ي 12.
وكأن البطل يسعى وراء ذلك للقطيعة مع الماضي. نجده يجادل والده في التقويم بالمنازل، ليعتبر الأمر قد ولى (ص26)، مع العلم أن هذا التقويم هو نتيجة تراكم تجارب (لنقل علمية) ملموسة، أثبتت نجاعتها، ولا ضير أن تضاف إليها تجارب أخرى حديثة لا أن تأتي عليها وتقوم مقامها. في المقابل نجده يتمسك بأفكار بائدة.
-    الفشل في التخلص من أفكار بائدة:
تتمثل شخصية البطل النظرة القبلية الضيقة إلى الوافد على المدينة أنه (براني)، بل تدفعه هذه النظرة إلى نعت المدينة بأبشع الأوصاف: فهي، من وجهة نظره، "تفرج" قدميها "للبراني" مثل أرخص عاهرة (ص63). وفي زمن العولمة، بل قبل التنادي بهذا المفهوم الجديد نادت إحدى الأغاني الشعبية:
آحايدي داك الطابع من الباب   راه كالبراني كمول البـلاد
وهذه النظرة تدفع للسؤال، ما هي مواصفات البراني؟ وهل هذه الدعوى (ضد البراني) ستبقى سارية المفعول؟ والواقع ينفي بعض فصولها. فهاهو المهندس" فورجول" (البراني بكل المقاييس) أغيرُ على المدينة من الموظف (ص108)، فهو على الأقل استطاع أن ينجز ويقترح مشروعا لتهيئة إحدى الحدائق بالمدينة (حدائق تمكنونت). وهو من صاح في وجه مرافقيه: "أين كان الناس؟ أين كنتم أنتم؟".(ص109).

من عرقل المشروع!!؟؟
...............................
كما أن القضية الرئيسية التي أرّقت والده وزجت به في السجن، تدفع لسؤال مماثل:
من باع ماء عين أسردون؟ هل هو براني أم "ولد البلاد"؟ وأين كان "أولاد البلاد" وقت بيع الماء؟؟.
...............................
ومن خلال الاطلاع على بعض صور عين أسردون، يطرح سؤال مارد:
 من كسر المنحوتات التي كانت تضفي جمالية وسحرا منقطع النظير على المركب السياحي؟؟
...............................
-    الفشل في الإقناع:
لم يتمكن البطل من اقتراح حلول على صديقه "ميمون الحلاق"، بل ظل يجاريه في أفكاره (الجنونية). فرغم قربه منه وامتلاكه، حسب زعمه، أدوات الإقناع،  لم يستطع ثنيه عن فكرة الهجرة التي ظلت تراوده، وتدفعه للاجتهاد، حسب مقدراته الفكرية، في اختلاق وسائل (وإن لم تكن ناجعة) لتحقيق حلم محدد.. قام بمغامرة مراهقاتية فهاوده الموظف في رهان خاسر، لا يختلف اثنان منذ انبثاق فكرته أنه خاسر. إذ كيف يمكن النجاح في اجتياز البحر الهادر بدراجة هوائية مزودة بلوح؟؟.
كما نسجل فشله في إقناع والده بالعدول عن مطالبته الدائمة بقضية حكم عليها (هو) بالخسران. غير أن والده ظل يحمل حلما ويؤمن بقضية..
لم ينجح في إقناع زميله "الوقوري" بالعدول عن أفكاره الجنونية، بدل متابعته في زيارته الجنونية لملاقاة الجني (ص 175).
وفي مقابل ذلك لم يقدم بديلا.
-    الفشل في تقديم أي بديل:
ولعل هذا الفشل هو خلاصة (الفشل المتعدد والمتراكم المتراكب) للبطل. فهو عاجز عن تقديم أي بديل للوضع القائم على مختلف الأصعدة.
وتجلى هذا الفشل في كونه عاجزا عن إحداث أي تغيير في محيطه الصغير (داخل المكتب) أو في محيطه الكبير(المؤسسة) ولا في محيطه الأكبر (المدينة).
وهذا لن يمنع من عرض إحقاقاته.
ب- إحقاقات البطل:
من خلال القراءة المتأنية للرواية، وكذا من خلال تعداد بعض إخفاقاته، يتبين أنه عنصر فاشل بكل المقاييس، شخصية تتقن فن الحذلقة، تستعرض المعرفة، مهتمة بأدق التفاصيل، متشبثة بالمعرفة المستمدة من الكتب، دون أن تتحصن بالحكمة العملية وأن تبادر مبادرة بناءة..
تنتهي الرواية بإقدام البطل على مغامرة غير محسوبة العواقب، ستنتهي به، لا محالة، في السجن، وهو بذلك يقدم على رد فعل، لا على فعل مدروس. وهذا هو الإحقاق الوحيد الذي يمكن أن يحسب له (ثم عليه)، ليظل شخصية فاشلة، محبطة..
ومن خلال عقد مقارنة بينه وبين بقية الشخصيات، سيتضح أن معظم الشخصيات استطاع أن يحقق حلما، أو أن يسعى (على الأقل) لتحقيق حلمه، حسب مقدراته الفكرية والعاطفية بل ونوايـاه.
2- باقـي شخصيـات الرواية:

سأحاول استعراض أغلب شخصيات الرواية من خلال علاقتها بالبطل (السارد)، والحلم الذي تسعى لتحقيقه، ثم من خلال المؤسسات التي تمثلها.
علاقة المرؤوسية:
رئيس المؤسسة: ويتسم بالفظاظة، السخرية، اللهفة على المال، الأمية، صناعة الخراب وأحلامه سياسية (سياسوية) متعددة.
أعضاء مكتب الرئيس: صَور المكتب على أنه جوقة تابعة، متملقة، تقوم حياتها على عرض الخدمات وتحلم بمكاسب وحظوة لدى الرئيس وتحقيق أهداف سياسية (سياسوية)(ص10).
علاقة عابرة وأساسية:
الدانماركية: وصفها الشاوش بمصيبة، وقدمها السارد رمزا للوفاء للوصية ولبني ملال، فدفع قسرا لتمثيل الرئيس للتواصل معها وهي تسعى لتحقيق وصية زوجها (روبي) (ص9).
روبي (حاضر/غائب): زوج الدانماركية، الفشل في الحياة الزوجية الأولى. تمنحه بني ملال فرصة (هدية) اللقاء بمواطنته ضمن فوج سياحي، وقد سعى لشكر المدينة بإهدائها شجيرة، فلم يسعفه المرض في تحقيق حلمه، فتدارك الأمر بوصية (ص12).
علاقة الزمالة:
الشاوش بوعزة: وهو من صغار الموظفين، وميزته تهويل الأمور، وحلمه إرضاء المسؤولين والتودد إليهم، وإن على حساب كرامته أو على حساب غيره (ص9).
الموظفون: يجمعهم التكدس (غياب الكراسي، مغادرة العمل، التسيب، المعاناة، مختلف الأمراض، الفراغ). تتعدد وتختلف أحلامهم وقد قسمهم السارد إلى ثلاث مجموعات (ص128).
خديجة النايلي (ابن سيرين ): وهي المسؤولة عن محضر الدخول والخروج، ويميزها حرصها الشديد على هذه الوثيقة، تدمن تفسير الأحلام، وتطمح للزواج (ص52).
عمال المؤسسة: وصفهم بالعجز واهتراء آليات العمل، ويقتصر حلمهم على قضاء الوقت المفروض (ص28).
عبد الصمد الوقور(ي): وهو متشدد ومجنون، وحلمه الزعامة الروحية، وقد حقق بعض حلمه باستدراج الموظف لملاقاة الجني المزعوم (طوش) (ص 54) و(ص175).
محمد النقابة: وهو نقابي بالمؤسسة، ظهر لمواساته في اعتقال الوالد، وفي مشهد الدعوة إلى وقفة احتجاجية، وحلمه حلم نقابي (استقطاب الموظفين)، كما وصف خطابه بالتقادم انقضت مرحلته وزعامته. وكان بذلك الطرف الثاني لجذب حبل الزعامة في مواجهة الوقوري. (ص47) و(ص146).
علاقة الصداقة:
الحلبي: وهو تابع (رد عجز على صدر)، يخرج عن صمته أحيانا يعقب ويقترح الحلول الواقعية (الجاري بها العمل)، سيزيف، زنديق ضال، وتربطه بالبطل صداقة وزمالة وحلمه أن يعيش  يومه بشتى الوسائل (ص 31) و (ص48) و(ص56)، أحيانا يكون مكملا.. وقلما يعارض..
ميمون الحلاق: شاب ساذج ملحاح ويتمسك بالوهم، وحلمه الأكبر الأول والأخير هو الهجرة، وإن بوسائل مستحيلة (دراجة هوائية) (ص37) و(ص77).
سلوى القاسمي (الصويرية): وصفت بالمتلونة ومتعددة الأسماء (كتمان اسمها الحقيقي)، عاهرة، ضحية تفسخ عائلي، يتعلق بها وتجمع بينهما قواسم مشتركة، وحلمها تكديس المال من أجل تحقيق الحلم الأكبر: الهجرة (ص63) و(ص134) وتقارب أو تقع في شرك تضييع حلم الهجرة بالشروع في توزيع البيان (ص219 إلى ص 222).
علاقة القرابة:
الأب: يعد البطل الثاني في الرواية، وقد كرس حياته للنضال والوفاء لقضية وصفها السارد بالخاسرة، متبعا كل وسائل النضال التي بلغت حد استعمال السلاح الأبيض، وحلمه الوحيد هو استرجاع ماء عين أسردون (ص44).
وباعتباره الماضي المتبقي للمدينة، يسعى لبعث الروح في المكان باسترجاع الماء المستلب من قبل المكتب المكلف بالماء والكهرباء ووكالة التوزيع اللذين سلبا الماء من الأهالي واستغلاه بشكل غير قانوني (ص61)، وهو ينقل انتقاد الوالد للوضع، ويعتبر المطالبة به مضيعة للوقت والجهد (ص75)
لالة خيرة: خادمة تعتني بشؤون بيت الموظف، وحلمها تأدية واجب محدد والاسترزاق (ص66).
الأم(غائبة/حاضرة): الولود الودود، التربية على الصمت، التضحية من أجل البيت(ص 67) و(ص68).
العم: مناضل ومعتقل سياسي انتهى به الأمر مجنونا في أسواق الضواحي (ص69).
الأجداد: الحرص على ماء عين أسردون وعلى الاستمرار وتحرير العقد الذي يعطي الشرعية للمطالبة بماء عين أسردون. (ص 140 إلى ص 144).
الصندوق الخشبي: كاتم الأسرار، خزينة مدخرات الوالد (ص44).
علاقة الجوار:
نادية (ليلى) العميري: طالبة جامعية، تسجل بحثا مستحيل الانجاز، وحلمها الذي سعت إليه هو إنجاز بحث، وقد طلبت منه مساعدة في إنجازه. والحلم الذي حققته هو الهجرة (ص37) و (ص81).
أم نادية: تشتغل في الخياطة لتربية أولادها.
أبو نادية: مقاول ضيعته المؤسسة (توفي) بعد سعيه الطويل من أجل تحصيل الديون المترتبة عليها (ص82).
أم ميمون: الصرامة والخوف على ابنها، وهي أم صديق، وحلمها الحفاظ على ابنها وتخليصه من أفكار ورفاق السوء الذين أدخلت الموظف والحلبي في دائرتهم (ص38) و (ص76)
علاقات أخرى:
الشارع:
التلميذة الإعدادية: مراهقة، منّة سماوية، إعجاب ميمون بها، وصفها من بعيد وحلمها حلم مراهقة (ص22).
أخو التلميذة: يد قاسية، ضرب ميمون بعنف، وصفه من بعيد وحلمه حفظ الشرف (ص23).
المهندس فوجرول: مهندس شيخ أنجز مشروع منتزه طبيعي (بحيرة "تمكنونت")، يأسف على وضع المدينة، (السخط) (ص108).
جويلقة: مجنون أطلق عليه إله الحديد، يجمع ويطوع كل أصناف الحديد وأورده لتأثيث الخراب (ص29).
المجانين: مجانين جاءت بهم الريح من مراكش بسبب انعقاد مؤتمر، لتأثيث الخراب (ص29).
صاحب المشتل: الفظاظة والاستخفاف بالشجيرة ونوعها، عرض الأشجار للكسب (ص102).
بائع في شارع الحنصالي: ويعكس به وضعية التشغيل والبطالة المقنعة من خلال (وصف حالة) (ص75).
الدوار (الهجرة السرية):
بوزكري: من الأثرياء، التنكر في هيئة حاج وقور استطاع الهجرة عبر الحج (ص90).
الولي الصالح: يمثل رمزا لأرقى صنوف التحايل على دوار بأكمله، بأفراده ومؤسساته. (ص163).
طالب الفلسفة: يكتشف لعبة الولي الصالح غير أن الجميع يقمع.
فقيه الدوار: يساير الركب ويرغب في الهجرة، قصد تحصين أخلاق الشباب.
السلطة:
المخازنية: وصفهم بأحجار آدمية يسعون إلى تأدية واجبهم المهني وهو حراسة المؤسسة (ص16).
عون السلطة: الفظاظة، نفاذ الصبر، تتبع الوقائع وتنفيذ أوامر القائد القيام بالواجب المهني لثني ميمون الحلاق عن حماقاته (ص24).
الشرطي: التبرم والجفاء والقيام بالواجب المهني، ذكر خلال زيارة المركزية للسؤال عن الوالد (ص44).
القاضي: عدم الاستماع للمتهم وصده، والسرعة في إصدار الحكم على الأب (ص60).
حارس السجن: اهتم بوضع الوالد وتتبع أخباره وسعى لنيل "إكرامية" من خلال إخبار الموظف الأشعث بالمستجدات.
الإعلام:
صالح الدركوكي: مدير جريدة محلية، ووصفه بالاستجداء وتزوير الحقائق، ماكينة، نديم، عرض خدمة الكتابة عن الوالد الشرب على ظهر الناس وعشاء فاخر وتوزيع الجريدة (ص120).
رواد الحانات:
أستاذ الفلسفة: عشق الفلسفة والجعة، "أنا الفلسفة" وهو نديم (62).
سي الحسين: ضبط الطلبات والحسابات بارمان، وحلمه تحصيل الأرباح (ص62).
الرجل النحيف: ميت، الإدمان، نديم، وسعيه إلى نسيان ابنته التي اختطفتها زوجته المهاجرة (ص64).
زوار المؤسسة:
الدكتور الكروازي: زيارة المؤسسة لتوزيع وبيع شبكات الكلمات المتقاطعة في المكاتب (ص53).
دكان ميمون:
موظف البريد: شاعر يستعرض قصائده في كل مكان، يترك عمله "ليؤدي واجبه القومي طيلة النهار في فضح الصهاينة وخططاتهم" ولقاؤه بالموظف لقاء غير مرغوب فيه من قبل الموظف (ص91).
الطفل (حارس الدكان): أورده للشهادة على غباء ميمون الحلاق الذي يتدرب على دراجة هوائية.
المرقص:
أحد زبناء سلوى الصويرية: يختطفها من بين يدي الموظف الأشعث، وهو يستعرض عضلاته المالية ويحقق جزءا من حلمها.
الأعشى (الضرير): موضوع بحث الطالبة (نادية لعميري)، استحضاره كرمز للتكسب بالشعر(ص124).
المحطة الطرقية:
سائق الحافلة: وصف السائق بالشيخوخة وعدم الاهتمام بما يدور حوله ويقود حافلة مهترئة. (ص 160).
مساعده: ، أبكم، ويعكس بذلك انعدام التنظيم في مجال النقل. وأورد مشاكل النقل من خلال رحلتين: الأولى إلى سد بين الويدان والثانية إلى الدوار(ص114 وص160).
تتأرجح هذه الشخصيات بين الفاعلة (سلبا أو إيجابا) والجامدة، ثم بين السلبية (صناعة الخراب أو الهروب منه)، والإيجابية (محاولة الترميم)، وأخيرا بين التي تبدو بصنيعها إيجابية وهي تضمر السلبية. كما أنها شخصيات تنتمي أو تنطلق أو تمثل مؤسسة أو مؤسسات متعددة.
بينما نجد الحياة العامة تسير على عجلات عديدة، يكتفي السارد بتسليط الضوء على مؤسسة بعينها في فترة محددة، مع انتقاده خفي لمؤسسات أخرى وإغماض الطرف عن باقي المؤسسات: فهل هي مؤسسات سليمة؟ أم هي عجلات ثانوية (Secours) في إدارة دواليب المدينة، أم أنها لا تساهم في نشر الخراب؟ أم أن الكاتب يعتزم إفرادها برواية قادمة؟
ملاحظات عامة:
تستثير هذه الرواية ملاحظات كثيرة وأسئلة وتساؤلات.
تطرح "التجربة الدانماركية" نفسها موضة بديلة عن موضة الغرب: فرنسا وإسبانيا وإيطاليا.. ونستحضر في هذا الصدد الفيلم المصري (التجربة الدانماركية). ولن أتناول الفيلم ولا كيف تعاطى للتجربة الدانمركية وخلاصات ذلك، غير أنني أود فقط طرح السؤال: لماذا الدانمارك تحديدا، ليس كبلد ولكن كوجهة للإلهام، صدّرت تجربتها إلى مصر (وأي تجربة؟)، وصدرت شجيرة إلى المغرب -بني ملال- (وأي شجيرة؟)؟
كما يفرض التناص بين عنوان الرواية وعنوان الفيلم المصري "كتيبة الإعدام"، لعاطف الطيب، ومن بطولة نور الشريف ومعالي زايد وآخرين، مسألة تأثر الكاتب بالدراما المصرية، وهذا سيحيلنا على شيء أهم في بنية السرد لدى الروائي عبد الكريم جويطي كما سنرى لاحقا.
ويطرح الفيلم المغربي "الحلم المغربي" بإلحاح، نفسه ليس على مستوى الرواية مجملة، ولكن في إحدى قصصها الفرعية التي مثلها الدوار الذي تمكن الرجل التقي من التحايل عليه وعلى مؤسساته بدعوى تحقيق حلم الأغلبية بالهجرة نحو هولندا. (ص163).
يعتمد الكاتب والروائي عبد الكريم جويطي تقنية آثرت أن أطلق عليها (بعد إذن المنظرين والنقاد والمهتمين) تقنية "لبازل" (puzzle)، وهي تقنية تتأسس على انفتاح النص، وعدم ترابط أحداثه ترابطا منطقيا أو كرونولوجيا، حتى لتحسب نفسك أمام خلل في فصول الرواية. هذا الانفصال يعطي انطباعا بإمكانية حدوثها في أزمنة مختلفة وأمكنة مختلفة، دون أن تؤثر في الرواية.
أحيانا يُخيل إليك أنك أخطأت الصفحات أو أن المطبعة لم تحسن ترتيبها.. لتطالعك حكاية سلا السارد عنها أو تناساها، أو شخصية تعدها أنهت دورها في الرواية، فانسحبت بهدوء.. لكنها فقط (وعن قصد) تم تجميدها.. وتحيلنا هذه التقنية على عملية (القطع Cut) المعتمدة في الانتقال بين اللقطات والمشاهد في كتابة السيناريو.. ليكتمل العمل، في آخر المطاف عند ظهور جينريك النهاية، بتجميع المشاهد واللقطات وإعادة ترتيب الأحداث، لتخلص إلى عمل متكامل. وهي تقنية تُعمل المتلقي أكثر، وتجعله مشاركا في العملية الإبداعية.
كما نلاحظ أن الكاتب قد دخل، فاستلم الزمام من السارد، وذهب في جولة تأريخية للخراب (من نوع آخر) كان سائدا في بني ملال، يمثله الصراع القبلي (ص140 إلى ص144).
كما يجدر بالذكر أن الرواية لم تخل من بعض الأخطاء الإملائية والنحوية:
- يا إلاهي:  يا إلهي.
- (...) على أن تمنح ولو قدر ضئيل من الرقة والحنان ص 17:  (...) ولو قدرًا ضئيلاً من (...).
كما يثير الانتباه إغفال التشويق المفترض، الذي يحدثه تكسير أفق انتظار المتلقي، في بعض الفصول:
فميمون الحلاق، مثلا، في رحلته إلى بين الويدان، كان ماضيا في تجربة محكوم عليها بالفشل، سواء من خلال السارد نفسه أو صديقه الحلبي أو منطقيا، ولم يأت فصل الرحلة بجديد يكسر ترقب المتلقـي.
فنتيجة صناعة دراجة لعبور البحر معلومة، وهي الفشل، ونهاية تجربتها الحقيقية في سد بين الويدان (ماء راكد) هي الفشل (أيضا)، والنتيجة المشوقة هي بعض النجاح في النهر لتعليق انتظار القارئ.
كما يمكن الاستغناء عن فصل المحاكمة أو التقليل من الخوض في تفاصيله، مادام لم يأت بالجديد، الجديد الذي كان الأجدر أن يكون تبرئة الوالد، لاعتبارات وشفاعات عدة: موعده مع الوالي، موقع الابن، التدخلات، السماسرة.. وبذلك يتم توظيف البندقية المعلقة في خلفية العرض المسرحي... (تكسير أفق الانتظار).
فاعتقال الوالد، الذي اعتدى بالسلاح، موجب للمحاكمة ثم الإدانة، أما النتيجة العكسية (الصادمة) فهي  تبرئة الوالد لاعتبارات وشفاعات كثيرة.
خروج:
يبكي السارد وينعي ماضيا جميلا للمدينة، وواقع الحال يوقع السارد في تناقض صارخ وهو يصف، في بعض فصول الرواية، ماضي المدينة الذي ميزه القتل والحيطة والحذر والصراعات القبلية. ليبدو الخراب (بحذر) خلا للمدينة ورفيق تاريخها (الصراعات القبلية والمنافسة حول الاستئثار بالماء) وحاضرها (كما تشهد بذلك الرواية)، ومستقبلها (لا قدر الله)، إن تُرك رهين قومة سكير فاشل وعاهرة محبطة خرجا لتوهما أو لم يخرجا من الخُمار"الثمن" (ص 222).
وأود طرح سؤال عريض: هل عمد الكاتب إلى تقديم هذه الشخصية نموذجا للسلبية، التي يلتحف بها بعض (أولاد البلاد مع تحفظي من عبارة أولاد البلاد)، فقدمه مثلا لنبي "متنبئ" بلا كتاب ولا رسالة ولا مشروع بديل، يرفع لواء بلا لون ولا حراك... سعيا منه -الكاتب- إلى محاربة هذه السلبية والحث على الإقدام على التغيير.. أم أنه مقتنع بهذا النموذج ويرى فيه فعلا المخلص المرمم للخراب؟
وفي تمثل قولة أوسكار وايلد: "لا يكون الإنسان هو نفسه حين يكون صادقا، أعطوه قناع وسيقول الحقيقة" (ص18)، يطرح السؤال: هل هذا القناع هو السكر بالنسبة للسارد ارتداه كي يقول الحقيقة (حقيقة لم يقتنع بها يوما، حقيقة استرجاع الماء)، أم أن القناع هو السارد نفسه ارتداه الكاتب ليقول الحقيقة، حقيقة الخراب عموما، تصنعه كتيبة تضم من بين جنودها السارد نفسه؟.
في كلا الحالتين، فقد استطاع الكاتب والروائي الكبير عبد الكريم جويطي أن يضيف قيمة جمالية للحقل الأدبي عموما والروائي بالخصوص، على مستوى البنية السردية وعلى مستوى التيمات المطروحة، بل على مستوى بطولة العمل التي تُحمّل الرواية أكثر من قراءة. وقد نجح بذلك في خلخلة بعض المفاهيم في بناء الحكاية، من جهة، وفي التوغل وإدخال القارئ داخل خراب يزكم الأنوف، ويدعو إلى قومة حقيقية على جميع الأصعدة لتنمية تمد عمر الحياة في هذه المدينة لحفظ رمز الحياة وحفظ الظل، ظل الزيتون والرمان والبرتقال بدلالاته العميقة..



 
  رشيد ايت عبد الرحمان / المغرب (2010-02-23)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

واقعية الواقع في

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia