سؤال الأدب-سعيد بوخليط / مراكش - المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

سؤال الأدب

  سعيد بوخليط    

يسائل الأدب جدواه باستمرار، وبقدر مراكماته لتجارب وتحققات، يعمق في الآن ذاته جيوب ذلك الوعي الشقي و الذي لا يجد لنفسه هناء و سكينة إلا بتأثير جرعات لحظية لمهدئات وإغواءات سرعان ما ينقضي و يزول مفعولها. هكذا، يتلمص الأدب كل حين من مواصفاته، تصل إلى درجة جلد الذات  أو التلدد المازوشي. فتبدأ، مشاهد البيانات و المواقف والخطابات الهوياتية  و الماهوية، متوخية مجابهة تلك الأسئلة الانطولوجية الجسيمة من قبل: من؟ ولماذا؟ و كيف؟.
قد نقطع بالتأكيد هنا، مع ابتذالية شعبوية استنكار مثل: ما جدوى الأدب أمام شخص يتضور جوعا؟ أو يتلوى ألما؟ ولك أن ترسم بتلك الخطايا لائحة غير منتهية. بمعنى، كومضة برق قد تستحضر كل إخفاقات البشر و شرورهم الوجودية، من أجل التشكيك في شرعية الأدب؟ مسألة ، تزداد حدتها، وفاعليتها في أوقات مثل عهودنا الجارية حيث: التشيئ و التوثين و التحقير و النخاسة والرعوية و العبودية ...، و الروبوتيزم و التألية...، تبلغ الأفق  طولا.
إن طرح سؤال " الجدوى" و "الماهية" ينطوي في ذاته على مسلمات ترسم روافد التأويل المحتملة. تكفي، الإشارة إلى:
حينما تطرح بحدة العلاقة القابلة للصيرورة، دائما بين القائم والممكن ؟ ثم تتبلور خريطة هندسية لا تنسجم مع ذاتها وأولوياته، فذاك يستدل بكل الأشكال عن وجود "أزمة" بالمدلول الاقتصادي للكلمة. مما، يتطلب الأمر إعادة النظر في منطلقات و التوابث ثم الرؤى. وإلا ، فإن الوضع على المنوال ذاته سيستفحل مؤديا إلى انفجار قوي يقوض تاريخ الأدب و يحوله إلى جزر نارية متناثرة هنا وهناك، تنتهي إلى الأبد مع مجموع مؤسسة الأدب. بالتالي، العودة القهقري إلى الأزمة البربرية و العهود المظلمة.
افتراض تأزم لجسد الأدب، يحتم على أصحاب الشأن تحديد ما يعنونه بالضبط، مع التسليم جدلا بأن سؤال الهوية يبرز أكثر لحظات الخلل. هي أزمة مفهوم؟ ( بناء، هيكل، أسس...). حينئذ، على الأدب أن يقطع باستمرار مع ما هو مطمئن له و يجتهد نحو صور أكثر راهنية وآنية؟
إذا كان الوضع على هذه الشاكلة، فلا شك أن التأويلات الأخرى قد تبدو واضحة و ظاهرة. ما دام، أن المفهوم سيبقى مرجعية مطلقة، بخصوص التحديد الهوياتي و الصياغة المعرفية التي نريدها.
على الرغم من كل التراكمات الكمية و النوعية، لا تزال مؤسساتنا الفكرية تستقي أولوياتها المعرفية و التحديدية من ذلك التقسيم " السهل" الفاصل قطعا بين الأدب وغير الأدب؟ معيارهم في ذلك الكفاءة و الملكة التي يوظفها رجل الأدب وعبرها تجليات حكمه، مقابلة الكيفية التي تشتغل بها في ميادين أخرى للوصول بوجه مغاير إلى نتائج مختلفة، لكن في نهاية المطاف القصدية هي ذاتها.
صحيح ، ما قيمة الأدب أمام حياة أفراد ينزفون صباحا و مساءا؟ لكن في المقابل أيضا، كيف بك الوصول إلى استثمار ما تبقى لهؤلاء المندثرون من أحاسيس كي يدركون بوعي سليم ما هم عليه حقا؟ لذا،حينما تتحقق كينونتهم، لحظتها يتمتعون بكامل الحرية و المسؤولية، سواء للتمرد ضد وضعيتهم أو لانبطاحهم داخلها، فرحين بما اكتسبوا؟.
وفق هذا الثابت، الأدب في تضاد مع التقنية و التألية، كل واحد منهما يجيب على أسئلة الشرط الوجودي بالطريقة التي يعتبرها أقرب إلى بلورة أقصى الممكنات البشرية .مرجعية، التحليل هي نفسها، لكنهما يختلفان بما يتعلق بالمنظومات الاستدلالية. إذن، الأدب زبدة تداعيات حسية وفنية. بينما، التقنية صياغة جديدة للعالم داخل نماذج صورية.
أعتقد، بأنه مع الثورات التي أسستها مسارات العلم الحديث، نتبين حقا كون الأدب علم حلمي ، في حين التقنية أدب "ناضج".إذا ، إذا أمكن قول ذلك. هكذا، انهارت الحدود والفواصل،و تماهى أخيرا الأدب مع أخره. بحيث، انتهت الأشياء إلى انتصار باهر للخيال، وحتى بالمعنى الذي ألصق به على امتداد بنية الميتافيزيقا الغربية، أي باعتباره وازعا "ابليسيا" يقود حتما إلى التضليل و الخطأ. بل، انقلب هذا الخيال إلى أهم " صمام" أمان للحفاظ على سلامة منطق بناء الفرضيات الجديدة.
لقد استحالت، أبعاد و هندسات الفيزياء و الرياضيات الجديدتين، دون الاتكال الصلب على الحمولات اللانهائية للخيال؟ هكذا، تضاءلت سطوة العقل كما انبنت أطره خلال القرن السابع عشر، وتضاءلت فاعليته أمام الآفاق الجديدة.
هكذا "سيحتم " على أصحاب المختبرات تلمس روح النصوص الأدبية خاصة الحديثة منها و التي تستلهم النفس الإشراقي. إن القدرة على والولوج إلى مضامين كتابات شعرية من حجم تلك التي صاغها خيال بودلير أو إدغاربو مثلا، وكذا متون أدبية طليعية أخرى، وروائية ومسرحية، ولوحات تشكيلية ...، تتموضع في المقام عينه، مع المبادئ المحددة للنظام الأكسيوماتيكي المسلماتي في ميدان العلوم التقنية. انزاح ، مبدأ الواقع عن التقييم المطلق و الكلياني، باعتباره ثابتا يقينيا كما اشتغل في المرجعيات الكلاسيكية، انسجاما مع هوية تروم دائما الإملاء والتماثل، إلى آخر تلصق به كمقدمة المجهول إكس(X) ، ويستنتج فقط نتيجة يفترض فيها انسجامها الاستدلالي و التأويلي مع متواليات البرهنة.
انطلاقا مما سلف، تأخذ، دلاله "جدوى" الأدب مستويين ابستمولوجيين في التحليل و المقاربة: لحظة، تصميم الواقع بتحويله إلى مرجعية مقدسة، هنا تتناسل بالتأكيد الإديولوجيات الإنسانية المباشرة و الفورية، والتي هي حتما وفية دون نزاع  إلى الهويات الأحادية المستوعبة جيدا، للمعادلة التي تقول بان الخط المستقيم أقصر مسافة بين نقطتين، بحيث لن يتمرد الأدب لحظة من اللحظات على قاعدة التقويم الأنطولوجي المستمر كي يحتفظ الواقع على أبسط أبجديات الهوية التي هي روح منطلق و فكرة محركة للتاريخ، و لا يختل التوازن القيمي للإنسانية. إذن: الخير هو الخير، و الحق حق، و العدل عدل ثم درجات تجسدها عند البشر. لقد أثتت  السجون و المعتقلات و المنافي و الملاجئ... كل الكون، لأنه بالطبع لن تكون الحاكمية إلا بالحديد و النار. ذلك شرط مطلق بين من يملك ومن لا يملك؟ بالتالي، قدر الأدب أن يفضح و يلاحق. انتصر أم أخفق؟ لا يهم. يكفي أن نجمل بأن الأدب أسقط الديكتاتوريات و تهاوت تحت صيحاته إمبراطوريات الشر و الدناءة. أشعل، الأدب  حروب الحقيقة و النار، واجتث مختلف أصول الشر و القبح و النثانة.
نلتمس من الأنثروبولوجيين  والإثنوغرافيين، تحريهم لنا ماذا لو لم يكتشف الإنسان الأدب؟ ثم يزداد فضولنا لنقول كيف جاء الأدب؟ هل كان صدفة مثل النار؟ أم  انبثاقا مجتمعيا عسيرا؟ ربما، إذا حددنا مثل هذه الحيثيات، فإن ذلك يغنينا على كثير من النقاش الأجوف بخصوص الأدب و الأدباء. استنتاجا، للبعد الأول، أقول بأن الإجترار المتهالك لنفس قضايا النقاش الكلاسيكي على مستوى التعريف و المفاهيم و المناهج و الأدوات، يصب تلقائيا في بوتقة الصراع بين الأدب و التقنية، ويضع كل واحد منهما وسط مسار منفصل ومنقطع جذريا عن الثاني، بل ويشعل حربهما "الدينية " التي هي قطعا عمياء.
في المقابل، تبدو اللحظة الثانية التي تحققت بدينامية وجوهرية الخيال، أعظم توفيقا و"انسجاما"، لكي تتهذب التقنية بالأدب. وفي نفس الآن، تلتقط مؤسسة الأدب بذلك الذكاء العلمي مجموع ميكانيزمات التقنية.
هناك دعوة قائمة اليوم، وبإلحاح تنص على خضوع الأدب إلى احتكارات الهولدنغ، وامتثاله لروزنامة قوانين السوق، فيتحول الأدب إلى سلعة، تستهلك كمثلجات الأيسكريم أو الأحذية الرياضية.... .سعي، له دعاته ورساميله الرمزية وإلا ما تفسير وجود جناح و لBest- Seller" "في الأسواق التجارية على طريقة" هاري بوتر" "جيمس بوند" و"الهارب" .... أي موقع اليوم، تحتله نصوص بعض أدباء النهضة الأوربية أو موسوعيي القرن الثامن عشر، و لما لا الملامح اليونانية  و تراجيديات شكسبير.
طبعا، أول تأشير للمراكز التجارية، سينحو باللائمة على ما هو كمي وكيفي. من جهة، سيحتم ارتفاع معدل الأورو، اختزال حجمها حتى يتناسب ثمن البيع مع ما يقدر عليه المستهلك و الذي سيضع هذا الذي أضحى "أدبا" في قفته إلى جانب السمك و الطماطم و المشروبات الغازية. من تم، على شكسبير وفولتير عدم الإخلال بتوازن فاتورة المقتنيات، وإلا يصاب الأدب بالكساد.
أما كيفيا، ما هو المنظور الممكن للمستهلك؟ بلغة ثانية، ما هي منظومات التفكير "الإيجابية"، بالنسبة لمسارات الإنسان المعاصر. وكل، الشهادات تقر كنتيجة عامة تدنيه إلى درجات من التسطيح  والتفاهة، يصعب عليه في إطارها الوقوف على أرضية من قبل تلك التي دافع عنها أدب الصراعات الملحمية: صراع الإنسان مع نفسه ووجوده.
مع الهولدنغ والتروست، ومافيات الأجسام و الأمخاخ، تتجلى حقيقة  بشكل جدي وبدقة متناهية قضية "جدوى" الأدب.فهذا الأخير، وهو يجابه راهنا أسباب ومسببات "لا جدوى" الإنسان، في عمق دروب مظلمة ومعتمة كليا، أو بالأحرى يعيش لحظة انفصام مرضية. كيف ، له أن يظل أصيلا وكونيا امتثالا دائما لتشعبات هوية الامتلاء، وكذا الخيال المنفتح الذي يلف و يطوي، منفلتا من كل تبويب و تصنيف.
تبقى الإشارة أيضا، إلى أن المساحات التي تنحتها تفاعلات "جدية" الأدب من عدمه، تمتد أو تتضاءل بناء على الموقع المؤسساتي و السوسيو اقتصادي لصاحب الأدب. ودون، الرهان على أي نوع من التقسيمات التي قد تكشف عن هشاشتها منذ البداية لأنها تبقى في كل الأحوال ذاتية ونسبية.
فعلى الرغم إذن، أريد فقط استحضار نموذج حامل لواء للأدب، يتقاسم مع الجميع كل الفضاءات المجتمعية سواء تحقق الأمر بالكتابة أو غيرها. أقصد، بذلك الشخص الذي ينبت الفرص في كل مكان، كي لا يتوقف الأدب عن الرحيل، ومن خلاله أن يطعم نفسه بشحنات زمانية دائمة.
 في لحظة تاريخية ما، سطع نجم الأديب، الذي نجح عمليا في بلورة نوع من التفعيل الدقيق والصائب ل: الواحد/ المتعدد. فهو: الروائي ،الشاعر، الخطيب، صاحب المقالة الصحافية، المناضل الحزبي و النقابي، المربي الملهم، و المدافع عن القيم الكونية الخالدة... .
أظن مع أفق كهذا، فإن مجرد التفكير في العودة إلى دفاتر الأدب المدنية أو الاجتماعية، يشكل ضربا من " التحريفية " بالمفهوم العقائدي للكلمة. مادام ، أن هذا الأدب حسم ماهيته ، مرة و إلى الأبد.



 
  سعيد بوخليط / مراكش - المغرب (2010-03-30)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

سؤال الأدب-سعيد بوخليط  /  مراكش - المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia