التأويلية العربية نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات للدكتور محمد بازي أسئلة التأليف و أسئلة التأويل-جمال الحنصالي / إمنتانوت - المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

التأويلية العربية نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات
للدكتور محمد بازي
أسئلة التأليف و أسئلة التأويل

  جمال الحنصالي    

انطلق الباحث المغربي الدكتور محمد بازي في تأليف كتاب:" التأويلية العربية، نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات"  من أسئلة أساس: ما الذي يحقق لدى قارئ معين تأويلية بليغة كما تحققت لمنتجي النصوص بلاغة إنتاجية؟ على ماذا تتأسس هذه البلاغة ؟ ما هي المستويات النصية التي تقوم عليها؟ ما دور المؤول في عملية الفهم والتأويل؟ ما الكفايات التي تلزمه ليبلغ المعاني المقبولة؟ وما هو الدعم الذي تقدمه الموسوعة والسياق؟
   فتحت أمامه هذه الأسئلة وغيرها أفقا لرسم الخطوط الكبرى للتأويلية العربية القديمة، في تفاعل أنساقها الدينية، والأدبية، والفلسفية، وفي رصد طرائقها ومرجعياتها، ورهاناتها. وهكذا عاد إلى التراث العربي الإسلامي باحثا عن المادة الكافية لصناعة مفاتيح هذه البلاغة، مع استفادته من بعض اقتراحات نظرية التأويل الغربية، متفاديا الذوبان الكلي فيها. وبقدر ما كان تراثيا متأصلا في بلاغته، كان مجتهدا  عبر عملية استكشافية  تركيبية لحداثة تأويلية لا تخلو من مخاطرات.
     انطلق الكاتب من الكليات والمبادئ العامة لتأسيس منهجية ذات طابع شمولي، ثم قيدها بعد ذلك بالخصوصيات في كل حالة. وقد وجد في خطاب التفاسير والشروح تقاطعات عمودية، وأخرى أفقية لآليات التأويلية البليغة التي يبحث عنها. ومن ثمة ركز على الثوابت الحاضرة في أي اشتغال بالمعنى، سواء في فهم النص الديني  أو الأدبي أو النص الفلسفي أو التاريخي، أو القصصي أو غيرها. وتبعا لتلك الأطر الكبرى تنجلي للمؤول  المتغيرات التي يدمجها في المدونات الكبرى الأساس.
     يرى الأستاذ محمد بازي أن النسق التأويلي العربي القديم تحكمت فيه آليات شبه موحدة، تتمثل في الدوائر الصغرى والدوائر السياقية الكبرى، وهي غير مصرح بها في الكتابات القديمة، لكن المتتبع المتأني يمكنه  تبيُّنها في تحولات القراءة، وانتقالاتها أثناء بناء المعنى، سواء لدى المفسرين أو الشُّرّاح، فوسَّع من مجال هذه الدوائر، وطبقها على بعض الوقائع الأدبية، وعلى أنواع مختلفة من النصوص، مستخلصا تصورا يقوم على التساند بين الأنظمة اللغوية، والنحوية، والبلاغية، والرمزية (دوائر النص الصغرى)، وبين الأشكال المعرفية والموسوعية والثقافية( الدوائر الكبرى) التي  يمد بها السياق الخارجي، لرفد التأويل ودعمه بأطر  ومرجعيات موازية، تغني  الفهم ، وتساعد على تأكيد الفروض الاستكشافية التي  تسبق الفهم أو تتزامن معه.
     تعمل هذه الدوائر في تواز، وتزامن، وانفتاح كامل على بعضها البعض؛ فالبنيات النصية بكل مستوياتها تمثل البناء التحتي القاعدي  الذي يمد  قنوات الاستكشاف بالعناصر الخارجية عن النص، والتي لها ارتباط به بأي شكل من الأشكال، فهو  يستدعيها ويستقصيها، ويستوعب ما تقدمه له من إضاءات،  وإشارات،  واقتراحات، فتتشكل القراءة  التأويلية بناء على هذا التفاعل النصي- السياقي المتناغم.
       يتم  هذا التساند اعتمادا على علوم مُؤَطِّرة مثل علم اللغة، وعلم المعاني، و علم النحو، و علوم البلاغة، وغيرها من العلوم التي  يرتبط بها النص موضوع التأويل، ويتأسس عليها تأويله. إلى جانب قدرة المؤول البليغ على إحداث التجاوبات المقبولة بين الدوائر النصية، والعلوم التي تنضوي تحتها، وفق ما يحتاجه بناء المعاني وإفهامها، و وفق المسار الدلالي العام للنص، ثم انسجاما مع  النسق الثقافي المؤَطِّر لإنتاج النص أو تلقيه. وكل ذلك يتطلب بلاغة في التدبر والتحقق والربط والتنسيق والتأويل؛ فالبحث عن المعنى يتطلب عودة متكررة إلى النظريات، والعلوم، والاقتراحات المعرفية التي يستدعيها التأويل، حيث إن الكلمات والجمل ليست إلا بوابات للعبور إلى ما تقدمه المعاجم، وكتب النحو، والبلاغة من إمكانيات معرفية وتأويلية.
   وعندما لا تفي هذه الإجراءات التأويلية  بالمطلوب  في عملية  بناء المعنى، فإن الإستراتيجية التأويلية السياقية تقدم عددا هائلا من المتغيرات الخبرية، والموسوعية، والفكرية، والمذهبية المنتظمة على شكل سجلات وذخائر موازية، تقدم للقراءة السند والعون اللازم لفك الالتباسات، وحالات الإعتام في لحظات الحرج التأويلي وانسداد آفاق المعنى.
    وهكذا، وكما يرى محمد بازي فإن  النموذج التساندي يقدم لكل الباحثين، و محللي الخطاب، والنقاد، ودارسي النصوص، وخاصة المدرسين والطلبة آليات عمل واقتراحات واعدة للاشتغال على النصوص، والخطابات المختلفة، عبر رصد أجهزتها القرائية النصية، والعلوم المرجعية التي تأسست عليها، وكل الموازيات الغائبة التي يتم استدعاؤها في عملية الفهم والإفهام. كما تساعد المنهجية على  إنجاز قراءات لنصوص أدبية وإقرائها للمتعلمين: النصوص القرآنية ، و الشعر،  والقصص، والروايات، والمناقب، والرسائل، والخطب، والنصوص التاريخية. مع إمكانية تطبيقها على مقتطفات شعرية ، أو نصوص قصيرة، تطبيقا تراعى فيه المتغيرات والخصائص المميزة لكل لون أدبي عبر توجيه آليات العمل لتتكيف معها،  في إطار استحضار الدوائر الصغرى وارتباطها بعلوم مؤطِّرة، تتوسع عبرها المعاني؛ تتأرجح أولا لتَتَرجَّح أخيرا، بناء على مدعمات وروافد الدوائر السياقية الموسعة حتى يتحقق الانفراج الدلالي، وتكتمل معالم القراءة وبهجة الاكتشاف، وألق  الأجهزة الصقيلة في مرايا التأويل المتقابلة، والتي لا بد وأن تظهر في لحظة من لحظات عملها ظل القارئ المؤول أو شبحه ، أو تفاصيل وجهه كاملة ، أو على الأقل شكل القناع.
    و إذا كانت القراءات التأويلية في التراث العربي الإسلامي قد تشكلت بالكيفية التي ناسبت مراحل منتهية، وثقافات محددة، فإن دور التأويلية الحديثة، وتأويلية التساند-حسب محمد بازي- هو الكشف عن منجزاتها، واستخلاص معايير ومبادئ التعاقدات التأويلية المتحكمة فيها، ثم تحيين موادها وروحها في الاشتغال لتركيب أنساق قرائية قابلة للتوسيع، والتعميم، و الاستثمار، وهي مهمة الباحثين وكل المؤولين البلغاء.
    أما المرجعيات التي اعتمدها فهي متنوعة، ولا يكاد يجمعها سياق واحد أو إطار معرفي محدد،  يدخل فيها التاريخ ، والتفسير، والشروح، والنقد الأدبي، والبلاغة، والمنطق، وأصول الفقه، والتراجم والسير، والمعاجم، والمناقب، والترجمات الحديثة، والدراسات النقدية، والفكر الإسلامي، والسيميائيات، واللسانيات وعلم الدلالة ، ونظريات التأويل الغربية، والتصوف، وكتب النحو، الإعراب، وكتب اللغة، وعلوم القرآن ، والفلسفة.
    وبما أن الكتاب يقوم على قوة اقتراحية، و تنظيرية، وتحليلية ، فهو يقدم مجموعة من المفاهيم ذات حمولة جديدة، وحتى تجد لها صدرا رحبا عند القارئ، فقد اجتهد الأستاذ محمد بازي في تبسيطها داخل فصول الكتاب أولا، وخاصة في مفاتيح التقديم ، ثم بشكل موسع في الفهرس الخاص بالمفاهيم المقترحة، وهي تتسم بالوضوح، وتكتسي صفتها التعميمية الوافية بالمطلوب عند الاشتعال بها  على  النصوص والخطابات التأويلية.
        تقوم التأويلية العربية-كما يرى الكاتب- على حركتين بارزتين:ارتدادية نحو المرجع والنقول والنصوص الغائبة.  وحركة امتدادية  نحو الغاية والمقصد، فيما لم تَرِد فيه  نقول . وهما بلاغتان متلاحمتان ومتساندتان، تعمل في تواز  معهما بلاغة الترجيح، وهي تقوم على المقاصد العامة للخطاب إذا عُرفت سلفا (حال الشريعة)، وعلى مواضعات اللغة  والمساق الداخلي، واستحضار مقتضيات أحوال الخطاب،  و كذا ملابسات الإنتاج.
      وقد  توقف هذا الكتاب المفيد والممتع ، عند الأطر الكبرى لتأويلية النص القرآني، وحصرها  في  تأويلية  الإفراط والتفريط والاعتدال، مع التمثيل لكل حالة من الحالات،  مستخلصا  أن بلاغة التوسط تظل الشكل المقبول  والمقنع  داخل هذه الأنماط   القرائية، لاستنادها على  مقومات بلاغة تأويلية بالمواصفات التي حددها الباحث.و بيَّن مقومات بلاغة المؤوِّل، من حيث هي نتاج تفاعل معارفه وقدراته الذهنية والمنهجية  و التنسيقية  مع دوائر النص الصغرى والكبرى .
        إن تصور محمد بازي  ينطلق من أن  التأويل  ليس  بالضرورة بحثا عن مقاصد المؤلف، أو المعنى الصحيح، وإنما بناء ممارسة تأويلية مشروطة بقوانين، ومحددات، وأطر التعاقد التأويلي الذي يعمل في ظلها المؤوِّل، مستنتجا أن أفعال التأويل-كما هو الحال بالنسبة لقضاياه  و إشكالياته  الكبرى- تظل ذات بعد كوني؛  حيث إن الممارسة التأويلية ليست متعالية عن النصوص، وإنما هي جملة أفعال تبدأ بالافتراض والتخمين، ثم  تتبع الدوائر الصغرى، معجمية وتركيبية والتي تنفتح عند الضرورة على الدوائر الكبرى .
      وقد تطرق في كتاب" التأويلية العربية"إلى  بعض  قضايا التأويل ( المعنى ، القصدية ، المساق، السياق...)، استنادا إلى  وقائع  حية احتفظت لنا بها كتب الأدب والتفسير ، مع  التأكيد على أن العودة إلى هذه النماذج التراثية،  من شأنه أن يساعد على بناء معرفة  حقيقية بمشكلاتنا  المعرفية  الراهنة ، فهذه امتداد لتلك .
       ويقدم الكتاب  للقارئ العربي ملامح منهاجية جديدة تؤطرها  "التأويلية البليغة" سماها " التأويل التقابلي"، وهو متضمن للمستويات التي تناولتها "الدوائر الصغرى والكبرى" . وبيّن أن هذه المنهاجية تعزيز وتطعيم للنموذج القرائي الذي اقترحه للاشتغال به على النصوص، إذ إن التقابل خاصية كونية وإنسانية وأدبية وتأويلية .وقد  بحث له عن الأمثلة  التي توضح المقصود بكل عنصر من عناصره، مستفيدا من المباحث البلاغية، ومن نظريات قراءة النص، و المنطق، ومنجزات التأويلية العربية الإسلامية القديمة. ثم عرض ذلك على النصوص الشعرية قديمة وحديثة، وعلى بعض النماذج النثرية فاستجابت لمنطلقاته وتطبيقاته.
        يتضمن الكتاب، كذلك، تمثيلات للتقابلات النصية الصغرى، التي تدخل في بنية أي خطاب، مثل تقابل النظائر، وتقابل الأضداد، وتقابل التحاور، وتقابل الإثبات والنفي، وتقابل الخبر والإنشاء، وتقابل الفاعلية  و المفعولية، و غيرها.وهي تبُين دور المنهاجية المقترحة في عملية قراءة النصوص وإقرائها لجميع مستويات المتعَلُّمين، إذ إن روح هذه الطريقة كونية شمولية، لا تفرق بين الأجناس والألوان و المستويات، فهي مثل الماء الذي يشربه الجميع. وهي قابلة للتبسيط والتطويع حسب مقتضيات الأحوال.
    إلى جانب ذلك، تناول بالدراسة والتمحيص والاقتراح، التقابلات الكبرى الموسَّعة، في إطار عملية التساند، عبر مفاهيم تأويلية لدراسة النصوص بشكل واضح ومبسَّط. مثل: تقابل النظائر النصية، وتقابل النص وسياقاته، وتقابل عناصر النسق التواصلي، والتقابل النووي،  والتقابل الاستتباعي، وتقابل النص والعنوان، وتقابل الوحدات أو الفقرات.
      وقد اجتهد في اختبار المنهاجية المقترحة على نص كامل لأبي الطيب المتنبي، فوقف على البنيات النصية: الكلمات، والجمل، والأنساق النحوية والبلاغية، مستندا في فتح مغالق المعنى على مفهوم إجرائي وتأويلي، وهو" التقابل" الذي ينظم المستويات المشار إليها، منتفعا بكل الموارد الخارجية التي ينفتح عليها النص، بأي شكل من الأشكال؛ فقسم النص إلى لوحات، تبعا لما مدَّه به التقابل النووي وتقابلاته الاستتباعية. كما انفتح، ما أمكن ذلك، على بعض تصورات النقد القديم ، وعلى كثير من الموازيات النصية للشاعر نفسه أو لغيره، لتطعيم المعنى ودعمه، وعلى المعجم والمجال الدلالي لتداول الكلمات .
         نأمل أن لا ينحصر هذا الاجتهاد في النتائج التي انتهى إليها، بتطبيقها على"لامية" المتنبي المدروسة، وإنما في الفلسفة والروح التأويلية التي توصَّل  إليها. والتي استخلصها من جولات واسعة في حقول مختلفة من المعرفة: التفاسير، والشروح، وأصول الفقه، والمنطق،  وعلم اللغة،  وعلم النحو،  والخطابات النقدية القديمة والحديثة،  ونظريات القراءة الغربية، والأعمال النقدية العربية الحديثة، ودواوين الشعر، وكتب التاريخ، والمناقب، وعلوم القرآن...وهي جولات انتفع فيها بما يدعم مقترحه، الذي لاقى في سبيل بنائه صعوبات كثيرة على مستوى المراجع، وعلى مستوى التنسيق والتنظيم . وهو ما سينعكس إيجابيا على مقروئيته ، فلا شك أن تنوع موارده سيمتع قارئه. وسيكشف له أن وراء كل كلام بلاغة تقابلية تثير لديه شهية تأويل تقابلي.



 
  جمال الحنصالي / إمنتانوت - المغرب (2010-04-03)
Partager

تعليقات:
رشيدة /المغرب 2010-04-10
لك جزيل الشكر على على ما زودتنا به من معلومات حول كتاب د محمد بازي.
البريد الإلكتروني : rachida19882010@hotmail.fr

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

التأويلية العربية نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات  
للدكتور محمد بازي
                       أسئلة التأليف و أسئلة التأويل-جمال الحنصالي / إمنتانوت - المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia