عباس المجنون-ضياء الخالدي / العراق
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

عباس المجنون

  ضياء الخالدي    

يسير ذلك الجسد ، عاريا الا من سروال أحمر ، لا يوقفه سوى هاجس داخلي . يدخل الأحياء المختلفة عبر شوارعها الرئيسة ، ويترك الشوارع الضيقة للأطفال والشيوخ مصمما على تنفيذ ما يدور برأسه . ينطلق بساقيه البرونزيتين الى الأمام ودون الانشغال بصيحة مفاجئة أو مزمار سيارة أو رشقة رصاص في الهواء . الناس تعلم أن عباس المجنون قد انطلق بالمشي وينبغي أن لا يزعجونه بالسلام أو منعه بمزاح عن السير .
يمر الصيف بسرواله الأحمر الداخلي ويأتي الشتاء بالسروال نفسه ولكن مع فانيلة يصمم أن تكون بيضاء . له أماكن توقف محددة . شجرة يوكالبتوس ضخمة أمام محلج القطن في دوميز ، وشجرة قوغ في حي غرناطة ، ومظلة باص كونكريتية في رحيم أوه ، وبيت لم يكتمل بناؤه في حي تسعين . ربما يمتلك أماكن توقف أخرى في أحياء لا نعرفها بالضبط .
لا أحد يعرف نسبه أو طائفته ، مما أتاح للاشاعات أن تتكاثر . يعتقد أنه جاء من داقوق مشيا على الأقدام وفضل البقاء في كركوك ، وهناك من يقول أن عائلته احترقت بأكملها في بيتهم الصغير في حي له خاصية من أطلق هذه المقولة ، ومنهم أراد إثبات شيء في نفسه عندما أكد أنه شاهد عباس يبكي بعويل موجع في ليلة عاشوراء .
الغريب لا وجود لتفسير مقنع حول التهافت على إلصاق عباس بمجموعة ما . لا يمتلك شيئا حتى ملابس ، ولا أهل ، ربما لأنه بات شاخصة متحركة ، وربما أيضا أشهر رجل في المدينة . لكن الحقيقة بقيت له وتقول أن عباس طائفة لوحده ، لا يشبه أحدا . ولا ينتمي سوى لعالمه الخاص الذي يحركه صوب الأحياء الملونة الأهواء ..

                                         - 1 -

كان جالسا تحت الشجرة ، والسماء ممطرة ، هرول رجل بدين نحوه يحمل كيسا فيه طعام وجلس قربه . مد يده لكن عباس لم يصافحه ، ولم ينظر اليه ، كان بصره حيث حبات المطر والسيارات في الشارع . قال الرجل :
- هيا كل وسنذهب للبيت .
الصمت مبلل ، والمفردات حبيسة ، او غير موجودة اصلا . نزع الرجل معطفه الاسود وقدمه اليه . يد الصمت تدفع المعطف ويستدير الجسد الى جهة بعيدة عن الرجل . تمر في الشارع سيارة نجدة فيرتبك البدين ، ويلاحقها ببصره حتى تختفي . يعود لعباس وبنبرة عالية هذه المرة :
- ستذهب معي حتى لو بالقوة .
ومسك ذراعه ونهض ، سحب عباس بعنف الذي صرخ بمفردات غير مفهومة ثم بكى ، ووضع راسه بين ركبتيه . المطر يزداد واصرار الرجل على اخذ عباس يزداد ايضا . لكنه فشل ، ودس يده في جيب معطفه مخرجا هاتفه النقال ، متحدثا مع رفيق له ، طالبا سيارة على وجه السرعة ، ومع بضعة رجال لاخضاع المجنون بالقوة .
اتت المركبة ، وبلحظة وسط الريح والمطر والنظرات الخاطفة للسيارات المنطلقة كان عباس في المقعد الخلفي بين رجلين . حاول التملص من هذه الكماشة . لكن لا امل ، غير ان ذهن عباس امتلك حقيقة مؤكدة هو ان العالم الذي يحيط به يود اذيته. مسك احدهما يديه والاخر اغلق فمه كيلا يصرخ . ابتعدت المركبة الى الشوارع غير الماهولة بالناس ، وتوقفت امام بيت صغير يبتعد عن بيوت الحي . يتوسط ارض خلاء غارقة بالوحل . ادخلوه ، وصفعوه ، وهددوه بالضرب بعصا غليضة اخرجها الرجل البدين من احدى الحجرات . كان عباس يبكي ، ويبكي ، والسماء ترعد ، والمطر حتى اللحظة يتساقط بحبيبات كبيرة . وقال له الرجل الذي بدا طيبا ، والوحيد من بين الاربعة الذين زعقوا بوجهه ، وضربوه . كان رحيما حين ابعد الاخرين بطريقة تمثيلية من ايذاء عباس :
- سنرجعك حيث مكانك قرب الشجرة ، لكن اهدأ .
يبدو ان عباس لم يفهم ، او فهم قليلا ، او لم يستطع ذهنه ان يستوعب ما يحدث له . ذهب الرجال الثلاثة الى حجرة صغيرة واخرجوا حزاما قماشيا عريضا واقتربوا منه . صفعوه ثانية ، واوقفوه ، وراح الجميع يلبسونه . كانت الاسلاك الملونة تظهر من الحزام . عباس يتململ وينشج بطفولة . الرجال الثلاثة يتوعدونه والاخر الطيب يهدأ من روعه ، ويكرر لازمته :
- انتهى ، انتهى ، سنتركك .
اخرجوا عباس من البيت ووضعوه في السيارة بعدما سدوا فمه بشريط لاصق ، فانتهت الحروف المبعثرة المبللة بالخوف وبالمطر ، وبقيت حركات جسمه ، واندفاعات قدميه مستمرة ، والدموع تنهمر لكن دون زوابع رعدية . انين فقط . يرتفع سلمه الموسيقي وينخفض وفق ما يتراءى لعباس حينها . لقد اختفى الحزام تحت فانيلته الشتوية العريضة ، وارتفع هدير محرك السيارة حيث الوجهة المقبلة . الناس في بيوتهم يحتمون من المطر والوحل والعواصف . الاطفال هذه اليوم نسوا عباس وانشغلوا بمتابعة افلام الكارتون قرب المدفأة النفطية . هم على امل ان يشاهدونه يخطف بازقتهم حين تهدأ السماء .
انزل الرجال عباس وحزامه الذي تضايق منه كثيرا عند رصيف الشارع الرئيس . وطلبوا منه الجري بسرعة لانهم سيعتقلونه ثانية ان تاخر . هرب عباس ، لكن ليس على طول الرصيف كما توقع الرجال ، بل حيث ارض فضاء موحلة وراحت قدميه تتزحلقان ، ولسانه يندب العالم بمفردات مشوهة لم تستطع التحليق في هذا الجو الرطب . كانت كلماته موحلة ، وذهنه يجبر قدميه الى دعك الارض الطينية بقسوة ، واختراق المستنقعات المائية مهما كانت كبيرة . بقي الرجال في مكانهم يندبون الشيطان لان المهمة فشلت ، وعباس ابتعد كثيرا بحيث ان الريموت كونترول في يد البدين لم يستطع التاثير على عباس . المسافة بعيدة ، اخترق المجنون مساحات كبيرة من الوحل ، ولم يعدو على طول الرصيف حيث مخفر الشرطة الذي يبتعد 400 متر .
                  
                                           - 2 –

فجرا ، وتحت شجرة القوغ يجلس عباس . ربما نام الليلة الماضية في هذا المكان ، قرب بيت السيدة فيروز التي اطعمته مرتين الذ الحلويات . هذه المرة خرجت السيدة بنفسها اليه . ظهر جسدها العلوي فقط من ضلفتي الباب الخارجي وهي ترتدي ملابس النوم الوردية وبدت اثار ارق وتعب الليلة الماضية عليها . ندهت عليه حينما كان ممدا فوق تل رمل كبير بجانب الشجرة .
- تعال ، ادخل .
ابتسم عباس ، وانفعل ، واخذ يطلق صوتا رغائيا ، وانتصب عضوه حين احتك بالرمل اثناء تقلبه على التل مرات عديدة . بان من السروال الاحمر الصغير بصورة مفضوحة . خجلت المرأة وانسحبت الى الداخل خوفا ان يشاهد الجيران عباس بهذه الصورة . تبعها وقد اخذ يعمل بيديه كأنه يقود سيارة .
- ادخل للحمام لتغتسل وساعطيك الحلوى بعدها !
ادخلته السيدة فيروز بنفسها للحمام . راى عباس وجهه باكثر من مرآة على الجدران ، وكاد يتزحلق اكثر من مرة بسبب نعومة الارض السراميكية . لكن المرأة اسندته وهي تضحك باثارة ، وثقل جسدها كثيرا بنزوة فخمة ، مشذبة ، من اي تبعات او فضائح . العقل نائم والعضو منتصب . هكذا تصورت السيدة فيروز . انزلت لباس عباس الداخلي بسرعة لانها ستفتح دش المياه ، وقبل ان ينزل الماء ، وتنزل الاثارة من جسد السيدة ارتبك عباس ، وانطلق خارج الحمام . مهرولا او راكضا وساقطا بلباسه الاحمر الذي وصل لقدميه . لم تر السيدة الا عجيزته السمراء الوسخة التي اطفأت شهوتها بالكامل ، وانصعقت من الفضيحة . لم تظن ان لباسه الداخلي مقدس عنده ، لا يمكن نزعه او الغاؤه من وجوده. كما لا يمكن اخفاؤه ببنطلون او سروال طويل .

                                          - 3 –

حين ولج عباس البيت غير المشيد بالكامل لينام ، هجم عليه ثلاثة شباب مخمورين . يضحكون ، ويشتمون العالم ، ويبكون فوق جسد عباس الذي راح يختض وينتفض للهروب . يقول احدهم له : انت الشاهدة الانسانية للجثث . انت العقل النائم !
يبدو ان صراخ عباس لم يصل الى بيوت الحي ، او سمعه الجيران وظنوا انها صرخات المجنون الروتينية التي تلازمه في اوقات مختلفة من الليل . حاول الثلاثة تنفيذ ما جاءوا من اجله ، ونجحوا حين كتبوا على ظهر عباس وبطنه بالاصباغ الزيتية اسماء الاحزاب السياسية في المدينة وشعارات اخرى . بات جسده خارطة لمفردات وشعارات لا يؤمن بها الطرفين . لا عباس ولا الشباب السكارى . خرجوا بسرعة من البيت الى الشارع واختفوا مع كركراتهم في ظلمة الليل .
في الصباح سار المجنون كعادته يخترق الاحياء . لفت انتباه الناس بالدعاية المجنونة التي يقدمها عباس للاحزاب ، وعلق البعض بسخرية ان المجنون يطمح للحصول على منصب مهم في المدينة ، لكن اخرين وجدوا انه ينوي تشكيل تحالف ثلاثي بين الاحزاب المتناحرة لينهي حالة الصراع المزمنة . عباس يخطف من امام مركز للشرطة ، والمفردات البيض الزيتية على جسده النحاسي تلتصق بعيون عناصر الامن . ارتبك الجميع ، الاصابع على الزناد ، واحدهم اطلق رصاصة بالهواء . يهرب المجنون والشرطة تلاحقه وتوقف سير المركبات في الشارع الرئيس . رصاص في السماء ، وصاحب السروال الاحمر يواصل الاحتماء بالشوارع الفرعية التي يكرهها .
 حتى امسك المذنب ! واقتادوه مع نشيجه وقذاراته وشعاراته الى بناية مخفر الشرطة ، فهناك سيتم التحقيق معه طويلا !!



 
  ضياء الخالدي / العراق (2010-05-14)
Partager

تعليقات:
مصطفى الخالدي /العراق 2011-05-18
واخيرا مات المجنون ليخلص من هذا العالم مات وقد سرقت كليتاه لم يكتفوا بواحدة ليدعوا يعيش مات وذهب من هذا العالم البائس وقبلة قتل ابو انعام الشيخ العجوز ابن الناصرية تبا لكل الايادي النجسة التي امتدت اليكم ---انا لله وانا الية راجعون---
البريد الإلكتروني : mbhahaha0@gmail.com

محمد بدري /العراق 2010-05-18
قصة اكثر من رائعة ايها العراقي ، فمجنونك قد فضح الدنيا بصمته . هكذا العالم مدعاة للجنون ، ورغم سور عباس المخفي فان الاخر يلاحقه . تحياتي من الناصرية ايها المبدع
البريد الإلكتروني :

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

عباس المجنون-ضياء الخالدي /  العراق

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia