غسال الموتى-إبراهيم البوزنداك / -المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

غسال الموتى

  إبراهيم البوزنداكي    


-واعجبتيني فيه.
-شكون؟
-الأستاذ
-آه، كاتهضر على سي "حمد"
-اييه، واداك الدري عندك جن  كايعرف إمثل ، والصق مزيان فالأستاذ .
كان هذا الحديث يدور بين "محمد" العطار و صديقه "العربي"  الخضار بالسوق الأسبوعية ، عندما مر "علال" من أمامهما مسلما.
"علال" هذا هو الرجل الوحيد من بين رجال الدوار  الذي نجا من مؤامراتهما. كونه رجلا محافظا (داخل سوق راسه) لايتدخل في شؤون الغير قائما بواجباته الدينية جعله بمأمن من شرورهما.
"علال" فلاح فقير لديه ضيعة صغيرة خارج حدود الدوار يخرج إليها كل صباح باكر مستعيذا بالله من شر الخلق، وعلى ظهره معوله لايتقصى أخبار أحد  ولا يتكلم إلا لماما.
"محمد" و "العربي" أغاظتهما أخلاقه الحسنة و شمائله العذبة ولا يمر يوم إلا و هما يفكران في مقلب يمكنهما من جعله أضحوكة وسط ناس الدوار، ولكن للآن لم يجداه.
  هذا دأب هذا الثنائي و ديدنهما، لاينفكان يدبران المقالب و المؤامرات ويبحثان في عيوب الناس ما ظهر منها وما استبطن، ليثيرا المشاكل بين الأب  و ابنته و الرجل و زوجته. تسليتهما الوحيدة هي السخرية و الاستهزاء بعباد الله.
أيا يكن الأمر فإنهما اكتسبا بهذه الصفات نفورا شعبيا واسعا من قبل الجيران و حتى سكان الضواحي، يتحاشاهم الناس خوفا على أنفسهم مما سيلحقهم من الشر.

 "علال" فلاح طوال حياته، مازج بين حراثة أرضه و زراعتها وبين كسب المواشي و بيعها.هذه مهنته التي  يتقوت منها ويعيل بها أهله.
بالإضافة لكل تلك الأعمال التي يقوم بها، يعرف كل من يسكن في دوار"أولاد سعيد" أن "علال" هو غسال الموتى الرسمي به. يقوم بذلك أبوه من قبله. لا يأخذ أجرة على ذلك من أي كان، غنيا أو فقيرا، بل كان قوله الأثير لمن يعطيه شيئا:
-في سبيل الله كانديرو هاد شيء.
 "محمد" و "العربي" لم يجدا عيبا يستغلانه في شخصية "علال"، اللهم إلا كونه أذن لابنته بالذهاب لمدينة أخرى لمتابعة الدراسة الجامعية وإن لم يكن عيبا إلا أنه الوحيد الذي فعل.
فكرا بكل أشكال المقالب الممكنة التي تدني من قيمته و لم يوفقا إلى أي شيء.
الرجل كان على علم بكل ما يفعلونه، يحس بالحسد المكنون في صدريهما، فلا يسعه إلا الإبتسام من ذاك ويكفيهما هذا الغم كعقاب كلما ازدادت عليه النعمة كلما ازدادا غما و حسرة.
فقيه الدوار "سي علي" لاينفك يوصيهما بالتوبة و الكف عن الخوض في أعراض الناس فمن تتبع عورات الناس فضح الله عورته في الملأ.
لم يستمعا لأحد، غرقا في بحيرة الفضح و الفضائح، لم يستطيعا النجاة من هذا الغرق، إنه أمر ضروري في حياتيهما كالذهاب إلى السوق.
السوق،مكان مجمع مفرق، يجلسان جنبا إلى جنب تحت أشعة الشمس اللاذعة، كل يبيع سلعته، ويقي من ضربات الشمس صلعته.
في السوق يجتمع كل سكان الدواوير، وتتفرق النيات فهذا يقصدها ليشتري ما ينقصه في بيته والآخر ليبيع و يسترزق و ثالث نشال وهلم جرا..
في ذلك اليوم انتعشت فكرة في عقل  "العربي"، قلبها في ذهنه مرات قبل ان يستشير العطار، أعجب بها أيما إعجاب وزاد أن قال:
-شحال هذي قالو لي راه كفن الحاج المدني بلا ما يموت، هذي هي الفرصة.

فكرة العربي مريضة حقا، فلقد شاع أن "علال" قبض اجرا من امرأة الحاج المدني الشابة  ليغسله و يكفنه وهو حي في غيبوبة تغشاه بين الفينة و الأخرى،
و الجماعة يثقون ب"علال" لذلك دفنوه.
تلك الأقاويل مستندة إلى أفاق آخر قال إنه لمس عنق الحاج في غفلة من غساله فوجده ساخنا نابضا بالحياة لم يصدقه أحد لأنه لم يصرح بذلك إلا بعد يوم من الدفن.
اتفقا أن يفضحا إهماله والحكم على العديد من المرضى بالموت قبل الأوان، تلك كانت الفكرة.التظاهر بالموت وإرعابه و ربما فضحه ايضا.

رتبا كل شيء، زوجة العطار تولول وتخمش وجهها وصراخ أخته وحوقلة صديقه التي لاتنتهي.لقد مات العطار.

"علال" الغسال في حقله يعمل بنشاط ، انتزعوه من العمل الذي يحبه انتزاعا وعندما أعلموه بالخبر تكدر صفوه وتراجعت سعادته، فهو يحزن لحزن الناس ويسر لسرورهم.إنا لله و إنا إليه راجعون.

في المسجد، مكان مخصص لغسل الموتى داخل رحبة الوضوء، في الحقيقة لايتوضأ هنا إلا الموتى، أما الأحياء فيتوضأون في الحقول و الملاعب.إلى هذا المكان نقل العطار وترك في انتظار الغسال، مسجى على ظهره مغطى بثوب أبيض ومن حوله الناس يهتفون إنا لله و إنا إليه راجعون.
إلى هنا كان العطار يسمعهم، يحس بهم، يشم روائحهم وكان الاقرب إليه صديقه و لكن لم يكن ليحادثه الآن فاكتفى بالصمت.
أخيرا وصل "علال" ومعه منشفة صغيرة، أخرج الناس جميعا ثم اختار "العربي "ليقوم بمعاونته.
أحس العربي أنه يقف أمام الموت، معدوم الحيلة، قام بما أمر به "علال"  فجلب له الماء من القدر فوق البوطة وبرده بماء الصنبورو ابتعد..
بدأ الغسال يغسل العطار فقال هذا الأخير:
-ياك ماسخون هداك الماء؟
كان يتوقع من "علال" أن يذعر و يفزع إلى الخارج وأن يصرخ و...
ولكن "علال" لم يعر ذلك اهتماما بل أجاب بروتينية :
-لا لا مزيان..
ثم استمر بغسله، فاستنكر "العربي" بشدة ودفعه بعيدا وأمر صديقه بالنهوض و لكنه لم ينهض.صفعه في وجهه، ورجه بقوة ولكن من دون جدوى.
هنا خرج "العربي" يصيح ،" و ما ماتش"  و ما ماتش لا مات  لا مات
أحاطه رجل بدفء تعزيته ولكنه هرول مبتعدا يصيح و ماماتش و مامتش....



 
  إبراهيم البوزنداك / -المغرب (2010-05-17)
Partager

تعليقات:
amina /maroc 2010-05-30
بداية موفقة.قصة لا تخلو من العبر.تابع.
البريد الإلكتروني : ta3ialt_2006@htmail.com

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

غسال الموتى-إبراهيم البوزنداك / -المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia