جمالية التأويل وفاجعة القبض على المعنى في أقصوصة " المنصب السامي " لمحمد ابراهيم بوعلو-عزيز باكوش /المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

جمالية التأويل وفاجعة القبض على المعنى في أقصوصة " المنصب السامي " لمحمد ابراهيم بوعلو

  عزيز باكوش    

لهذا المساء الخريفي هامش يعلوه الصدأ ، تطوف الكآبة  مختلف أرجائه  وتنسم أمداءه  بدخان لا طعم ولا لون له ، لكن برائحة .على الهامش ،  ركام أوراق ،  أعمدة جرائد ممقصة ومرتبة مجاليا بعناية فائقة ، لكن سرعان ما اجتاحتني موجة ضحك نشاز صامتة  وأنا أقرا للرائد محمد إبراهيم بوعلو أقصوصته الرائعة " المنصب السامي "يا الله .. لنتصور معا هذه الشحنة  المدوخة من الكلمات والوقائع والأحداث تتنافر حينا لتنسجم في النهاية في قالب هو مزيج من الحكمة  الغرابة الإثارة والدهشة الاتزان  .  الأقصوصة بحق رؤيا ثاقبة في تشكلها وبنائها ، تشخيص  ملهب  مثير وكاشف في إحالته وتجليه ،  حبكة رائعة تنهض  بأسلوب هازئ لاذع  ونظرة ساخرة موجعة ممعنة ومخاتلة في سوداويتها  ، المنصب السامي  صدمة ، كارثة ،  خلخلة ،  وتجوز في حقها كل التوصيفات ،  ليس لكونها  تستفز  نظام حكم مجتمعي فاسد من خلال التماهي مع وضعية اجتماعية إنسانية  معقدة في واقع اشد تعقيدا وتأزما . بل إنها تجبر الكائن على الاعتقاد  الى درجة الإيمان،  أن قراءة أقصوصة من هذا العيار  ولقاص من هذا العيار  تجعل القارئ في غنى عن تتبع برامج قنوات تلفزيون الداخلية السبع لمدة تتراوح بين الشهر وفصل بأكمله. لذلك فإن الحدة التي تطرح بها قضية التعقيد الإداري في أقصوصة " المنصب السامي " تضع على عاتق الإدارة تحديات كبرى ينبغي رفعها من خلال التركيز على أهمية التبسيط وجعله رأس حربة في ورش إصلاح الدولة .   وإذا كان مؤكدا  أن المساطرالادارية  المعقدة والمسالك الطويلة والمتشعبة والآجال الممتدة وثقل الملفات والاستمارات تعتبر من العوامل التي تعكس ضعف الإنتاجية لدى الإدارة والمقاولة المغربية على حد سواء ،  فإن فهم هذه الإشكالية  عميقا لا يستقيم إلا عبر تنسم  روح وجوهر الأقصوصة .  لقد انطلق بوعلو في أقصوصته واثقا من نفسه ، وهو  يعمل على تكثيف الأحداث  بعد تازيمها ثم تجميعها وفق بناء تصاعدي درامي   من اجل تلغيم هامش الإيحاء لدى المتلقي في أفق تفجيره وتجميع شظايا الانفجار من اجل تحديد المسؤوليات . على أن المادة القوية المفعول هنا هي  "الصمم " أي   . أن اكتشاف الداء  وتأسيس التقدم في العلاج والتدرج فيه  مرورا باستنبات الوهم وتخصيبه هو تجسير بيولوجي مفتعل من اجل  الكشف عن داء خطير ينخر جسم الإدارة المغربية  مالبث يستفحل ويستشري في جسد المجتمع. من هنا كانت الحاجة الى التفجير من الداخل لا تقبل الجدل ،   إذ عبر التعرية الذكية وبأقصى درجات السخرية يتحقق الاندحار الرمزي  للموظف المغربي الكسلان فيما بعد .
  تعرض قصة " المنصب السامي " بلغة بسيطة تسهل كي تتمنع لحالة طفل في حوالي 7 من عمره  بدا أن حالة السمع مستعصية لديه ، تأكد ذلك من خلال تقاطر   برقيات  من مصادر تعليمية  بخطورة  الأمر  ،  هواجس وأفكار وخيالات مريضة باتت  تمطرق مناخ  أسرته من كل جانب ،  وجاء اليوم الذي قرر فيه الوالدين   عرض ابنهما  الوحيد على طبيب عام بداية الأمر،  ثم طبيب أخصائي بعد ذلك بأسابيع ، ليتم عرضه على  محلل نفسي لاحقا  ، لكن الحقيقة  ستكون صادمة،  إذ بعد إنجاز سلسة كشوفات  وتحاليل دقيقة ومعقدة وبعد قراءة كل التقارير الطبية المنجزة ، اتضح  ان لا جدوى من كل هذه الارتماءات المالية  وهذا الهذر المالي غير المحسوب بالدقة اللازمة  ،  ذلك  أن مجمل المعاينات  التي أجريت للطفل في أرقى الآلات والمكنات الطبية  انتهت الى نتيجة مفاجئة وهي أن آلية السمع لدى الابن سليمة ومعافية تماما.  الانكى أن حالة الصمم التي تشكوها الاسرة هي نعمة من الله وهي مؤشر دال على ان الابن سيتقلد منصبا ساميا في المستقبل .     ميزة أقصوصة" المنصب السامي "  أنها تلخص واقع الإدارة المغربية  في قالب هزلي ساخر سيصل ذروته حين سيجد الأب نفسه أمام نتيجة مذهلة وهي تمثلات المنصب السامي في خياله " فإذا كان ولابد من الانتظار الى حين ...فكيف ؟ وماهي ملامح ابنهما بعد ان يكون موظفا ساميا ؟ ، لابد  أن يكون لإبنهما  مكانة اجتماعية و ثقافية واسعة .. لا بد أن تكون سمعة ابنهما  طيبة مثل العنبر في محيطه  .. لا بد أن تكون صفحته بيضاء ناصعة  مقبولا ومرغوبا .. لا بد أن يكون هذا الموظف السامي  على قدر  كبير من العلم والمعرفة والثقافة العالية .  يتكلم عدة لغات غير لغته الأم..لابد ان يوقع على كل الأوراق والمستندات بلا تسويف ..لابد ان  لا بد ولا بد... لكن سرعان ما تنجلي سحابة الوهم وتنكشف حقيقية الأشياء فالمنصب السامي للناس قدر أولئك الذين لا يسمعون ، وابنهم يتحلى بهذه الصفة منذ الصغر،   وهي نعمة تتوجب شكر الله بدل ضفاف الحزن التي لا تنتهي .
      وإذا كانت القصة  هذا الجنس الأدبي  المراوغ الذي يمتلك إمكانات هائلة في رصد الجزئي للدلالة على الكلي من أكثر واهم الكتابات الإبداعية التي تستلهم وتوظف كل شيء من اجل أن يكون الخطاب المراد تبليغه سهل الإدراك  فان محمد إبراهيم بوعلو وعلى امتداد تجربته الطويلة  في مجال القصة قد توفق الى حد بعيد في أن يجعلها تضطلع بهذا الدور بكامل الجرأة واليقظة والموضوعية. ولنا في المنصب  السامي النموذج الأرقى  .
    وقف الوالدان الحزينان  المنكوبان في حاسة سمع فلذة كبدهما  أمام مكتب  الطبيب الأخصائي في أمراض الأذن و  صاحب النظريات الشهيرة  المنشورة في كل مكان ،  ثم  فتح  ظرفا  توصل به حديثا من المدرسة وهو يتمتم  " ما لعمل إذن ؟ وما جدوى هذه الجبال من الدراهم التي صرفناها ؟  لكن الطبيب بدا منشغلا أول وهلة في أمر لا علاقة له بسمع ولا ببصر الولد  ،  إذ ظل يمضي   أوراق وكمبيالات غير مكترث ، الى حين رن هاتف أيقظه من خيالاته ،  وفجأة  قال بنبرة واثقة "  اؤكد لكما ان ابنكما لا يعاني من أي خلل في حاسة السمع ،   وإنني كطبيب  محلف مستعد للإدلاء بشهادتي أمام الله وأرقى المؤسسات العلمية . وطلب  الحارس مبديا رغبته بتصريف الزبونين ." الي بعدو ".
  ظل  الوالدان  في حيرة من أمرهما ، فحملا صندوق يتضمن ملفا طبيا شاملا وقصدا مكتب أكبر طبيب نفسي بالعاصمة حيث أكد بلغة لا تقبل الشك أن   الابن  يسمع وهو  يتمتع الى جانب ذلك  بإذنين كبيرتين سليمتين معافيتين ، وزاد الطبيب المعالج من حيرتهما حين قال  من دون ان يرف له جفن " ان هذه الحالة  التي انعم الله بها عليكما ،  هي حالة يتمتع بها الموظفون السامون في البلد " وما عليكما  سوى قبول الأمر الواقع والتحلي بغير قليل من الاتزان ، فبدل أن تحزنا  احمدا الله على خيره العميم  "  وأضاف في نبرة ثقة وسط استغراب الأبوين  "   عليكما  أن تنتظرا ابنكما  حتى يكبر  ليتقلد منصبه السامي  الذي يستحقه    فمثل هذه الحالات  لا تحدث الا مرة كل مائة سنة .
وبصرف النظر على إن الأقصوصة هي محض عملية تجميع مكثف  لشظايا الوهم  بهدف تفجيره انطلاقا من  موقعين اساسييين " آلية السمع " والمنصب السامي " فلماذا آلية السمع دون غيرها من باقي الحواس الخمس ؟ في البدء كان الإنصات وهو بؤرة تجميع مركزي لمعطيات وبيانات في أفق انجاز قرار على أن قدرة الشخص على الاستماع حتى نهاية تمنحه التركيز الفائق على الإلمام بمستويات وأبعاد الموضوع.  هكذا ظل الأب يسمع ما يمليه الأطباء متدرجا من الطبيب العام الى الخاص حتى المحلل النفسي ذلك أن ما يود هذا التدرج في أساليب العلاج أن يوضحه مضمرين اثنين أولهما تحضير الذاكرة وتهيئتها بكيفية عادية دون حرق مراحل لتقبل نتيجة الوهم . كحتمية مجتمعية الثانية ترتبط الأولى  ولان الوهم حقيقة راهنة إذا ثمة انعدام تام للثقة في المستقبل  والأمر في جوهره يشكل ناقوس خطر يقلقل أصحاب المناصب السامية من آذانهم أي من حاسة السمع لديهم.  المنصب السامي هنا هو حجر الزاوية ضمن بنية النص  القصصي  وهو يحيل الى أمرين الأول يومئ بذكاء ويقظة جريئين الى احد مظاهر التخلف الاجتماعي والذي يشكل الهاجس الطبقات المحظوظة حيث يتوزعها طموحات وتطلعات لا تمت لواقع الحال بصلة فهذه الفئة لا تعير اهتماما لطبيعة المشاكل والمآسي التي تحيط بالناس من حولها حيث اجتهد النص من اجل إبراز هذه الحقيقة عارية   رغم دقة وتطور أجهزة الكشف فإنها ظلت حائرة " الطفل لا يسمع رغم صحة حاسة السمع لديه انه الموظف الآتي الإداري السامي الذي يضطلع بدور اجتماعي وظيفي مشكوك في قدراته ونزاهته  انه لا يؤدي واجبه على أحسن وجه الشيء الثاني إن الإشكال ليس في آلية التلقي وإنما في غول الإدارة في مجتمع البيروقراطية وفي أسلوب السلطة المتسلط وفي نظامها الروتيني البائد التي ما فتئت تكرس إنتاج كائنات  ينعدم لديها أي حس أو ضمير أنساني  وهي بذلك تسيء للوطن الذي أهلها  والموظف السامي بهذا المعنى كائن فوق بشري ينفرد بخصائص سلوكية مريضة يطبعها ممارسات مسلكية شاذة واللامبالاة وعبثية.إن الشيء الأكيد ان له جهاز سمع سليم لكنه لا يسمع إلا أهواءه ومزاجه انه في واد والجماهير في واد آخر .لقد نجح بوعلو من خلال أقصوصته في تأصيل الوهم ف يفهمنا المشتت بعبث الالتباسات  ليخلص بنا الى كوجيطو رهيب  الحاضر =ابن لا يسمع  الان وهنا =موظف سامي رغم سلامة الأجهزة السمعية في المستقبل .
   بعد الانتهاء من قراءة الأقصوصة  تبدو الحاجة  متزايدة أكثر  لوضع تنظيمات أكثر صرامة لتدعيم مراقبة الدولة وتنظيم  وحماية المواطن  وضمان استمرارية أداء الخدمات العمومية ومضاعفة عدد الآليات الإدارية الضرورية وخلق جهاز يؤدي إلى القطع مع  التعقيدات الإدارية التي ترهق كاهل المرفق والمواطن،  وهي  الإشكالية الرئيسية التي  كانت السبب وراء إلصاق القاص والمبدع محمد إبراهيم بوعلو تهمة الصمم بابن الأسرة الفقيرة .إبداعيا. .حتى يهزنا من آذاننا  للانتفاضة ضد هذا الواقع اللاقدري .  وليس من المبالغة في شيء،القول إن  أقصوصة " المنصب السامي "   تمارس تمنعا خاصا ضد القراءة المتسرعة التي تتوخى   متعة لحظية ،   فالأمر يتعلق بعمل إبداعي غاية في الإبداع والمشاكسة اليقظة التي تحسن لعبة التماهي أو المخاتلة   المتعددة الأبعاد .



 
  عزيز باكوش /المغرب (2010-05-26)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

جمالية  التأويل وفاجعة القبض على المعنى  في أقصوصة

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia