الصبي والكتاب-محمد مباركي-المغرب
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

الصبي والكتاب

تواصلت الكائنات عبر الأثير بصمت دفين ، و تغازلت بالإشارات و الحركات وسط هذه"الجنةأرضية" .هكذا ورثنا التسمية الجميلة عن الآباء . تنتصب الأشجار الوارفة العملاقة، كحرس دائم ، تراقب القريب و البعيد متحفزة للدفاع عن نظام بيئي متوازن . بجذورها  تسرح في أعماق الأرض ،تمتص عذوبة المياه ، قبل أن تخرج من ينابيع تنزلق في جداول تتشعب كالشرايين ، تنثر الرطوبة و الأنسام .
و قطرات الندى الصباحي تبلل الأعشاب، تنتجعها الحيوانات فتبرأ من الأسقام و تسمن و تتوالد.
و ينفجر عشقي لهذه الجنة الأرضية من وطني . أغيب عنها مضطرا ، فتكيل لي اللوم في صمت ،
 و توّلي عني وجهها الجميل في غنج ، لأصالحها كعشيقة بالعودة إليها ألتمس العفو و الشفاء ، بين أحضانها ، من الكدر و الشجن المقيت . أرجع إلى أيام الصبا أستحضر لحظاته الغائرة  في الزمن ، أعاودها ، أمارسها عبر المسالك الوعرة الواصلة بين الدير و الجبل ، أمشي لأنسى آلام الظهر و المفاصل و نخر العظام. ثم أركب دابة توصلني إلى مدرستي القديمة ، أين تعلمت أولى الحروف الأبجدية و فاتحة الكتاب .
سلمت على مدرس شاب ، تملكني ذلك الشعور القديم ، ارتجفت يدي و كأني أسلم على معلمي
سي " قدور ". رحب بي المدرس ، فطلبت منه معروفا ، أن يسمح لي بدخول حجرة الدرس و الجلوس على مقعدي الأول. كان صغيرا ، جلست عليه نصف جلسة، ضحك التلاميذ من هذا الأشيب كيف يتصابا . نهرهم المدرس فكفوا عن الضحك ،و قدمني لهم بصفتي من قدماء تلاميذ هذه المدرسة . لم يهتموا للأمر أكثر من اهتمامهم بالصور التي التقطها لهم ، و ركزت على مقعدي الأول .
شكرت للمدرس صنيعه و خرجت للساحة الصغيرة ، جلست  إلى  شجرة الخروب، استللت من جيبي رغيفا ، نظرت إليه ، و بدأت في قضمه كما كنت أفعل في فترة الاستراحة . ابتسمت لما تذكرت  فترة الاستراحة . كانت  هي القاعدة تتخللها أويقات للدراسة ليس إلا ، مع المعلم سي " قدور "، المعلم الوحيد في مدرسة  الدوار ، يدرس كل مستويات الابتدائي ، و هو في ذات الوقت المدير و النائب الإقليمي
 و معالي الوزير ، و إمام المسجد و كاتب العقود و الشاهد على أي زواج عرفي . كان متعدد المهام .
هو من أبناء المنطقة ، لكن لا أحد يعرف أين درس و أي شهادة يحمل . المهم أنه يجيب على كل الأسئلة التي تطرح عليه  في الدوار و لا يشك أحد في إجاباته . كان أهل الدوار ينبهرون أكثر لما يفتح الكتب الصفراء . قال أنه اشتراها من عاصمة العلم و العلماء . يقلب أوراقها برفق شديد حتى لا تتفتت بين أصابعه الخشنة ، و عند الانتهاء من قراءة شيء منها ، أو يوهم بذلك ، يضعها بعناية و إجلال و تقديس على رف خشبي في حجرة الدرس ، و يغطيها بمنديل شفاف ،و لا يسمح لأي كان أن  يقربها أو يلمسها . خلقت هذه العناية الكبيرة في نفوسنا شوقا جارفا إلى تصفحها و معرفة ما فيها . و كنت أكثر زملائي جسارة عليها ، إذ سحبت كتابا من هذا " المخزون  العظيم " ، وضعته على الطاولة و اقترب زملائي في خشوع غير مصدقين ، و بدأت في تقليب أوراق الكتاب باحثا عن الصور التي أهمتني أكثر من الحروف  بلهفة زائدة و دون احترام  . وأختلس النظر بخبث ظاهر للأعين الصغيرة العاجزة المرتاعة  . و فجأة سمعنا أحدهم يصرخ " المعلم .. المعلم " . ارتجفت كل فرائسي و نهضت لأضع الكتاب على الرف ، فخانتني يداي و سقط الكتاب و انفجرت أوراقه و ترامت دفتاه المصنوعتان من جلد الغزال ، كما كان قال معلمي دوما . تجمدت في مكاني و لم يرتد إلي طرفي ، و أصبت بالدوار ، و لم أتذكر  ماذا وقع بعد ذلك.
استفقت من هذه الغيبوبة في منزلنا ، حملوني إليه على ظهر دابة تعثرت ، كما قالوا ، أكثر من مرة
و كدت أسقط . استفقت بعد أن شممتني أمي ماء الزهر و الليمون ، فتحت عيني بصعوبة و  حملقت في الوجوه الناظرة إلي ،فبرز لي وجه معلمي بين الوجوه ، فأغمضت عيني ثانية . كان وجهه قطعة من حديد بأنف معقوف و عينين جاحظتين و شفتين مزمومتين ، بدا لي كصقر يتحفز للانقضاض علي . لكنني سمعته يهمس باسمي ، ففتحت عيني اليسرى و أبقيت اليمنى مغمضة و أعضائي متصلبة تنتظر أين ستأتيها " الضربة القاضية " . مسح معلمي بيده  الكريمة على وجهي . لم أصدق ، و خلته ممازحا ،
 و توجست من اليد الكريمة خيفة حتى جاءني صوته الهادئ بكلمات جميلة تلتمس لي العذر و تبالغ في الإطراء على اجتهادي و سلوكي القويم  ، و ما قمت به هو فقط بدافع حب الاستطلاع  و التعطش المعرفي الذي لا يقاوم. سررت بهذا الكلام . و لولا هذه الواقعة لما سمعته أبدا .
قمت و لثمت اليد الكريمة الخشنة في صمت ، ثم أقسمت أمام الجميع ألا أعود إلى فعلتي التي فعلت .



 
  محمد مباركي-المغرب (2010-06-02)
Partager

تعليقات:
عبد الواحد ابروح /شفشاون 2010-06-12
تحية طيبة ايها القاص المبدع و مبرروك نجاح المجموعة اما مذهبك الشغوف بالطفولة العذبة و النصوص الحالمة فتنم وتعبق بعشق جميل من قبل طفل كبير لكنني لا احبذ ان ياخذنا الماضي دون ان نسقطه على الحاضر بمعنى السخرية والنقد و تثمين قيم الحب والخير والجمال بذلك تكون القصة ابداعية وفاعلة و اولوية الوصف الانساني و اللغة الشاعرية البسيطة
البريد الإلكتروني : aboroh @hotmail.fr

أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

الصبي والكتاب-محمد مباركي-المغرب

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia